الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قوة مصر الناعمة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أتذكر أننى سمعت هذه الجملة لأول مرة سنة ١٩٩٩، أثناء محاضرة فى جامعة مانشستر الإنجليزية، بعنوان «موازين القوى فى العالم فى القرن الحادى والعشرين». وكانت محاضرة شيقة وممتعة وفيها مزيج من السياسة والاقتصاد والثقافة وتوقعات القرن الحادى والعشرين والأسلوب العلمى لاستشراف المستقبل.
وذكر المحاضر، وكان كاتبا ومحللا سياسيا بارزا، أن تعريف القوة هو مقدرة أى بلد على تحقيق مصالحها، وفرض إرادتها باستخدام شكل من أشكال قوتها، إما القوة العسكرية (العصي)، وضرب مثالا لذلك الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبريطانيا وفرنسا. أو باستخدام قوتها الاقتصادية (الجزرة)، وضرب مثالا لذلك ألمانيا واليابان والصين وإيطاليا. ثم ذكر نوعا ثالثا وهو القوة الناعمة (soft power)، وهى قوة الدبلوماسية والثقافة والتاريخ والإرث الحضاري، والدين والوجدان، الذى يجعل العالم يحترم بلدا ليس الأقوى عسكريا، وليس الأغنى اقتصاديا، وضرب مثالا لذلك مصر والفاتيكان.
وذكر المحاضر أن مصر هى إحدى أهم الدول المؤثرة فى العالم بفضل قوتها الناعمة. وأعطى أمثلة لتبرهن على وجهة نظره وهي، التاريخ والجغرافيا والثقافة والدين والمهنيين المصريين. 
ففى التاريخ، قال هل هناك من ينكر أن حضارة مصر القديمة، وآثارها الفرعونية، كانت وما زالت من أول الدروس التى يدرسها الأطفال فى جميع بلدان العالم؟ وفى تأثير مصر الجغرافى، أشار إلى موقع مصر المتوسط بين قارات العالم القديم، ودور قناة السويس فى التجارة الدولية. وفى الثقافة ذكر أن مصر هى قلب الوطن العربى النابض، وأن الفن المصرى (السينما والمسرح والغناء)، هو الرائد فى الوطن العربي. وفى الدين، ذكر أن رجال الدين الإسلامى والأزهر الشريف، لهم تأثير روحى ووجدانى فى كل الدول الإسلامية، مثل دور الفاتيكان فى العالم المسيحي. وأن دور المهنيين المصريين، وبخاصة المدرسين والأطباء، مؤثر جدا ليس فى محيطها العربى فقط، ولكن على المستوى الدولي، وأعطى مثالا بجراح القلب المصرى السير مجدى يعقوب. كل هذه العوامل تجعل مصر دولة قوية ومؤثرة، إن كانت ليست الأقوى عسكريا ولا الأغنى اقتصاديا.
تذكرت هذه المحاضرة فى مرات عدة، وأذكر هنا ثلاثة مواقف لا أنساها حدثت أثناء زياراتى للبلدان العربية الشقيقة.
الموقف الأول: فى زيارة إلى المملكة الأردنية الهاشمية، فى شهر رمضان الكريم سنة ٢٠١٥، وقبل موعد الإفطار جاء منسق الزيارة ومعه شاب فى منتصف العمر لمقابلتنا فى الفندق، وقدم الشاب الأردنى نفسه على أنه عاشق لمصر، وقال أنتم ضيوفى اليوم، واصطحبنا إلى أغلى مطعم فى عمًان، وقال إنه قد تخرج فى كلية التجارة جامعة القاهرة، وأنه أصبح من أنجح رجال الأعمال فى الأردن، بفضل دراسته فى مصر. وأضاف أنه يشعر أن لمصر دينًا فى رقبته، وأنه تعلم كأى مصرى وعاش بين المصريين كأنه مصري. ولفت نظرى فى هذه الزيارة، أن هذا المطعم الراقى ورواده من الطبقة الغنية، يستمعون إلى الموسيقى والغناء المصري، ويشاهدون برامج التليفزيون المصري. أما القفشات الضاحكة والنكات اللاذعة من معظم رواد المطعم طوال السهرة الرمضانية؛ فقد كانت مصرية مائة فى المائة.
الموقف الثاني؛ حدث فى شهر أبريل من هذا العام، فى زيارة إلى جامعة فى المملكة العربية السعودية، للمشاركة فى مؤتمر لأمراض النساء والتوليد والأطفال. وأثناء المؤتمر، فوجئنا بطبيب يهمس فى أذن عميد الكلية السعودية، بأنه يريد أن يأتى للترحيب بنا، وكانت المفاجأة أنه طبيب شاب كان قد تخرج فى كلية طب المنصورة، وجاءنا بترحاب شديد، وبإحساس عميق بالحب والتقدير. وأخبرنا عميد الكلية ورئيس الجامعة المنظمة للمؤتمر، بأنهم قد وافقوا على طلب الطبيب الشاب، بعد إلحاح شديد منه ومن أسرته، على أن تستضيف أسرة الطبيب أعضاء الوفد المصري، وأنهم قد أعدوا استقبالا حافلا لكل الأطباء المصريين المشاركين فى المؤتمر، ومعهم عدد كبير من العاملين فى الجامعة. وأرسلوا لنا سيارات نقلتنا إلى مزرعة كبيرة تمتلكها الأسرة، وأعدوا لنا سهرة مصرية ممتعة، مع عبارة شكرا لمصر.
الموقف الثالث؛ حدث فى مدينة بنغازى أثناء انعقاد مؤتمر التعليم الطبى الأول للجامعة الدولية الطبية، من ٣٠ نوفمبر إلى ١ ديسمبر ٢٠١٩، والذى شرفت بالمشاركة فيه، مع ضيف شرف المؤتمر، الأستاذ الدكتور وجدى طلعت، أستاذ التعليم الطبى بجامعة قناة السويس، وأحد مؤسسى تخصص التعليم الطبى فى مصر والوطن العربي. وفى حفل الافتتاح وقف نائب رئيس الوزراء فى الحكومة المؤقتة، وهو أكاديمى واقتصادى معروف ليقول: «نحن نرحب بوفد مصر، الدولة المحورية، والعمود الفقرى للأمن القومى العربي». وقال إنه تلقى تعليمه على أيدى المدرسين المصريين، حتى تعليمه الجامعى تلقاه فى مصر، وأنه يشعر بالامتنان الشديد لمصر حكومةً وشعبًا. ووقف رئيس الجامعة ليضيف؛ «مصر فضلها على العالم العربى وأفريقيا لا ينكره إلا جاحد». وذكر قصة طريفة وقعت سنة ١٩٥٥، عندما قررت الحكومة الليبية الاستعانة بالأمريكان لإنشاء جامعات فى ليبيا، ولكن الأمريكان قالوا لهم، أنتم بلد فقير، فلماذا تريدون إنشاء جامعات؟ أرسلوا إلينا من تريدون تعليمه وسوف نعلمه نحن فى أمريكا. وبعدها قررت الحكومة الليبية الاتجاه إلى مصر. وذهب وزير التعليم الليبى لمقابلة وزير التعليم العالى المصرى، وطلبوا أعضاء هيئة تدريس مميزين للجامعة الليبية، فوافق الوزير المصرى بشرط أن يكون لمصر اختيار من ترسله من الأساتذة، واحتكموا إلى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. وعندما ذهبوا لمقابلة الرئيس عبد الناصر، رحب بالطلب، وزاد عليه بأن أمر بصرف رواتب أعضاء هيئة التدريس المصريين من الحكومة المصرية لمدة ٣ سنوات. وأضاف رئيس الجامعة الدولية فى بنغازي، أن جامعته لا تنسى موقف مصر بعد أحداث ثورة ليبيا فى سنة ٢٠١١. حيث تهدمت الجامعة وتم نهب كل محتوياتها، وكان على الجامعة الليبية أن تنتقل إلى مصر وأن تبحث للطلاب عن جامعة مصرية لاستكمال دراستهم. وقال رغم أن القانون لا يسمح بقبول طلاب أجانب لاستكمال دراستهم فى أى جامعة مصرية، فإن مصر كعادتها وافقت على التحاق الطلاب بحامعة قناة السويس. وأنهى كلمته بأن هذه هى مصر يا سادة، إنها مصر بلد الحضارة والأصالة وسند العرب فى الماضى والحاضر والمستقبل.
تذكرت كل هذه المواقف وغيرها، وفى كل مرة كنت أشعر بالفخر والعظمة والثقة بأن مصر تمتلك القوة الناعمة التى تمكنها من أن تكون لاعبًا قويًا على المسرح الدولى.