الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإسلام بعيون داكنة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وسط هذا المشهد الدموى - السادى الذى صار يطاردنا صباح مساء، تارة بالرصاص والسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، وأخرى بعمليات انتحارية، وطوال الوقت بفتاوى التكفير المهدرة للدماء والمستبيحة للأفراد والأعراض عبر مواقع إلكترونية وفضائيات تتصدرها شخصيات فاجرة وتمولها أنظمة أشد فجورًا.. وسط هذا الخراب باتت مواجهة الإسلام السياسى فريضة اللحظة وواجب كل لحظة.
تبدو فى الأفق مفارقة مأساوية، وهى أن هذا المشهد الدموى تتكاثر فيه الأشلاء والقتلى بين كل لحظة وأخرى، رغم هذا الكم الضخم من الكتابات والخطب والمواعظ والأحاديث الصوتية المسجلة والحية التى تعارض فكر الإسلام السياسى وإرهابه.
إلا أن هذه المفارقة سرعان ما تصبح أمرًا منطقيًا إذا علمنا أن الغالب فيما نسميه «مواجهة للإسلام السياسى»، هو مجرد ضجيج وطبل أجوف يكتفى بالإدانة والشجب والترحم على الضحايا.
أما الكتابات الجادة التى تواجه هذا الفكر؛ فنادرة، بل شحيحة فى وقت بات إرهاب الإسلام السياسى وصمة عار فى جبين المسلمين منذ أن أطلق شرارته الأولى حسن البنا داعية الخراب وإمام الضلال.
هذا النمط الجاد من الكتابة يصدق وصفه بـ«صناعة فكرية ثقيلة» لأنه لا يكتفى بمجرد سرد العيوب وإطلاق كلمات وعظية وعبارات غائمة وعائمة لا تفيد ولن تفيد بل يذهب - هذا النمط - إلى مركز ومرتكز هذه التيارات ليعريها ويكشف زيف المقدمات التى تنطلق منها. 
تحتل كتابات المفكر الأردنى والعربى الكبير د. فهمى جدعان، مكانة ومكانًا متميزًا فى الصف الأول لهذا الكتابات الشحيحة - الجادة.
إذا كان فكرنا العربى المعاصر قد عرف نقد «العقل العربى» عند المفكر المغربى الراحل محمد عابد الجابرى و«نقد العقل الإسلامي» عند الراحل محمد أركون، فقد جاء جدعان بالثالثة - والثالثة خير وأرقى - وهى «نقد الفعل العربى» فالمشكل العربى - عند جدعان - ليس أبستمولوجى - معرفى - كما صوره الجابرى ولا أنثروبولوجى كما رأى أركون، بل هو أكسيولوجى - أخلاقى - بالدرجة الأولى. 
على أن جدعان لم يكتف بوضع تصور أو نظرية لأزمة العقل العربى عمومًا، بل خاض غمار المواجهة بل والمنازلة ضد الإسلام السياسى. وأحدث جولات هذه المنازلة كتابه «مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة»، هذا النص الغاضب والعاصف الذى لم يتوان المؤلف خلاله أن يعترف بشجاعة أنه أخطأ فى السابق عندما برأ حسن البنا من الإرهاب ونسب العنف الإخوانى إلى سيد قطب والتيار الذى خاض غمار السياسة فى خمسينيات القرن الماضى.
فيقول مراجعًا تصوره القديم: إن الجماعة كانت تهدف منذ البداية إلى إدراك دولة دينية تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، وتتوسل إلى ذلك بذرائعية صريحة وبراديكالية بديهية عبر عنها حسن البنا بالقول: إن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة.. وبعد استعراض نصوص البنا يتفق جدعان مع ما ذهب إليه كثيرون من أن العنف خيار أساسى - عند الإخوان - فى مطلب احتياز السلطة وبناء الدولة.. ثم ينقل نصًا من محاضرة مصطفى مشهور - المرشد الخامس للجماعة - الذى ذهب فيه أن الإرهاب عقيدة إسلامية خالصة، ثم يستدرك مشهور أن هذا الكلام لا يصرح به للعوام لأنه من علوم الخاصة.
هذا النهج العنيف ممتد حتى اليوم لذلك لاحظ المؤلف فى ٢٠١٥ وقت تأليف الكتاب، أن الإخوان ضالعون فى العمليات الإجرامية التى تمارس ضد الجيش والشرطة فى مصر، مستدلًا بالقنوات الإخوانية التى تهدر وتبيح دماء الجيش والشرطة. 
هذه الخيارات الشقية للدين، أو النمط الإرهابى الدموى الفاجر الذى بدأ بحسن البنا واستمر حتى يومنا هذا عند الإخوان وداعش والنصرة وغيرها من فرق الضلال، هذا النمط يسميه المؤلف: الإسلام بعيون داكنة الذى يحصر ماهية الدين فى «الصراع» بخلاف الرؤية الإنسانية للإسلام التى تنطلق من مبدأ «التعارف» وتمتد فى «الرحمة» و«الحرية» و«الكرامة الإنسانية» وحرمة النفس. 
ثم يشتبك المؤلف مع نقطة انطلاق الإسلام السياسى بسؤال شائك: هل دين الإسلام سياسى فى ماهيته وغائيته؟ أم أنه دين اجتماعى أخلاقى فى هذه الماهية وتلك الغائية؟ أم أنه الوجهان كلاهما؟
يمكن تلخيص تصور د. جدعان لهذا الأمر فى النقاط التالية:
أولًا: يرفض المؤلف موقف على عبدالرازق الذى قدمه فى «الإسلام وأصول الحكم» ورأى فيه أن الرسول صلي الله عليه وسلم، لم يكن ملكًا وأن رسالته كانت فقط هدى وإيمانًا.
ثانيًا: كذلك يرفض التصور المقابل الذى يرى فى الإسلام مذهبًا سياسيًَا أو أيديولوجية متكاملة.
ثالثًا: يرى صاحب «مرافعة للمستقبلات العربية الممكنة» أن ما قام به الرسول صلي الله عليه وسلم، من ممارسة سياسة كان لقصدية أو للغاية العليا للدين، وهى العدل وليس من أجل ممارسة سياسية.. فجوهر الإسلام وكل دين هو «العدل»، وهذا الجوهر هو الحاكم لأى فعل وكل فعل.. ثم يدلل على ذلك بمقولة ابن قيم الجوزية فى إعلام الموقعين: «فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذى قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأى طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته فى نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التى هى أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأى طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التى هى المقاصد».
رابعًا: يؤكد المؤلف أن ما أسسه الرسول صلي الله عليه وسلم، فى المدينة ليس نظامًا سياسيًا دنيويًا، بل كان «تأسيسًا لمجتمع إسلامي» قائم على الرحمة والعدل والمساواة وحضور «السياسى» فى هذا التأسيس، عرضى وليس غائيًا أو جوهريًا.
خامسًا: ينبغى أن يتجسد الإسلام فى إطار نظام فردى واجتماعى ذى ماهية حضارية أولًا وأخيرًا، لأن وضع الإسلام فى حلبة السياسة يجعل قيمه ومبادئه عرضة لمغامرات وقيم ميكافيلية لا أخلاقية والتاريخ حافل بأمثلة عديدة لهذا المنزلق الخطر.
فى تحليله السيكولوجى للعنف الذى تمارسه جماعات الإسلام السياسى يوضح المؤلف أن الداعى إلى العنف هو «الكراهية» التى تعنى فى التحليل النفسى، النفى الراديكالى للشخص الذى تكرهه، ويرتد هذا النفى إلى تدمير الآخر بمهاجمته فى وجوده وفى إنسانيته.. أن تكره يعنى أن تنكر كل وجود لموضوع كراهيتك حتى تحيله إلى قدر ضئيل من الموجود وإذا لم يكن ذلك كافيًا، فإنك تتجه إلى قتله.. الكاره دائما يسبح فى عالم اليقينيات والمطلقات يرفض التغيير والتحول حيث كل شىء ساكن على الدوام.
إلا أن الكراهية يتم تبريرها لدى هذه التنظيمات الإرهابية باستدعاء النصوص الدينية ونزعها من سياقها، فتزعم أو تبرر لأتباعها أنها تأتمر بأوامر الدين فى إهدار الدماء وقتل الآخر وتدمير الكرامة الإنسانية واحتقار «الوجود».
لم يتوقف الكتاب عند مجرد السرد المأساوى والنقد الفكرى لما ألم بنا فى عالمنا العربى والإسلامى، بل قدم وصفة إصلاحية للخروج من هذا الوضع المتردى عبر ما أسماه «الإصلاح الجذرى» الذى يقوم على «تدخلات بنيوية مؤلمة» تقدم حفظ النفس البشرية على ما عداها وتتمسك بالعدل جوهر كل الشرائع، وفى مقدمتها الإسلام مع إطلاق الحريات الأساسية مما يتطلب قيام «الدولة العادلة» العقلانية الإنسانية الأخلاقية.
رغم اتفاقى التام مع كل ما ورد بالكتاب، لكن ينبغى الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية لم يلتفت إليها المؤلف وتتعلق بظهور الإسلام السياسى فى المجتمعات السنية ألا وهى «الجذر الشيعى الإمامي» فى نشأة هذا التيار فإذا كان كل منظرى الإسلام السنى أجمعوا على أن الإمامة - السياسة - من الفروع وليست من العقائد فإن الفكر الشيعى الإمامى جعلها ركنًا دينيًا.
استدعاء الفكر الشيعى الإمامى كان حاضرا فى تأسيس حسن البنا لـ «الإخوان»، لذلك عندما قدم تصورا للإسلام كما يفهمه وتفهمه الجماعة قال: إن الإسلام الذى يؤمن به الإخوان يرى الحكومة ركنًا من أركانه.. هذه عبارة شيعية إمامية لا يقولها إلا شيطان الطاق - الشيعى الشهير - وحسن البنا - شيطان الأزمنة الحديثة.
وإذا كانت الجماعة ترى الحكومة ركنًا من أركان الإسلام، فطبيعى أن تقتل وتستبيح من يعارض أو يرفض دولتها الدينية وهذا ما فعلته وتفعله مع المصريين منذ أن عزل المصريون محمد مرسى وأسقطوا حكم المرشد.