رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رفيق جبور.. من دبلوماسي أرستقراطي إلى صفوف العمال والفلاحين "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رفيق جبور ليس كغيره من المفكرين الشوام الذى ناضلوا فى مصر. كان أكثرهم أرستقراطية.. فهو قنصل عام لدولة إيران فى إسطنبول ثم اعتبر شخصًا غير مرغوب فيه، فأرسلته إيران قنصلًا عامًا فى الإسكندرية ثم رقى إلى قنصل عام فى القاهرة.. وبقفزة واحدة تنازل عن المنصب الرفيع لينتظم فى جيش البروليتاريا المصرية. محتملًا الاضطهاد والسجن والمطاردة فى سبيل العمال والفلاحين المصريين.
ونبدأ من سيرة حياته كما سطرها ابنه روفائيل استكمالًا لدراسة كنت قد كتبتها عن أبيه. يقول الابن «ولد رفيق جبور فى زحلة وهو الابن الثالث للدكتور جبور، وفى سن العشرين عينته السلطات الإيرانية قنصلًا لها فى إسطنبول (وكان هذا تقليدًا متبعًا لدى الدول التى تفتقر إلى مثقفين يجيدون لغات عدة فتختار أبناء أسر عريقة ذوى معرفة باللغات ليكونوا قناصل لها) وفى مستهل الحرب العالمية الأولى دبر مستندًا إلى مكانته كقنصل وحصانته الدبلوماسية خطة لتهريب الأمير فيصل ملك منطقة الشام فيما بعد عن إسطنبول فقد كانت الحكومة التركية تحتجز أبناء الحكام العرب كرهائن لديها تحت ستار تعليمهم، وفيما كان الشريف حسين يستعد لإعلان ثورة الحجاز كان يشغله مصير ابنه فيصل المحتجز فى إسطنبول كرهينة وهنا تقدم رفيق جبور لمساعدته وتهريب الابن. وعلمت السلطات التركية بالأمر فاعتبرته شخصًا غير مرغوب فيه فسحبته إيران لتعينه قنصلًا فى الإسكندرية، وفى العام التالى تمت ترقيته قنصلا عاما لإيران فى القاهرة لكن نشاط رفيق تصاعد فى غمار العمل الوطنى المصرى فضغطت سلطات الاحتلال البريطانى على إيران لسحب قنصلها، وهنا ولكى لا تنقله إيران بعيدًا عن مصر قدم رفيق استقالته، واشتغل فى بداية الأمر فى صحيفة «المحروسة» التى كان يديرها إلياس زيادة، ثم أسهم بعد ذلك فى تحرير جريدة النظام.. وتعرف فى ذلك الحين بسعد زغلول وأصبح صديقا له.
ويقول روفائيل إنه شاهد والده مرارًا بين جمهور المتظاهرين إبان ثورة ١٩١٩، ويقول «إنه اتهم فى قضية مقتل السردار وإن منزله فتش أكثر من مرة، وكان يتهكم على رجال البوليس أثناء التفتيش قائلا (إن سلاحى هو قلمى) ويتحدث روفائيل عن جرأة والده وشجاعته فى مواجهة القضاة الذين حاكموه ويتهمهم بالعمالة للاحتلال، وعندما حكم عليه بالنفى من مصر صاح فى وجه القضاة (سأعود إلى مصر عندما تكون مشانقكم قد علقت فى ميدان المحطة)، وفى عام ١٩٢٦ نفذ قرار طرد رفيق جبور وأسرته من مصر على ظهر باخرة أقلته من بورسعيد إلى بيروت وتابعته شرطة السواحل لمسافة عشرين ميلا، وكان هو يتهكم عليهم قائلا هل تظنوننى سأعود سباحة».
وعند وصوله إلى بيروت كانت الشرطة الفرنسية فى انتظاره حيث حذرته من الاشتغال بالسياسة، ولم يبق فى بيروت سوى عدة أشهر قضاها فى حصار شديد من الشرطة الفرنسية، فترك بيروت إلى فلسطين ليرأس تحرير صحيفة فلسطين لصاحبها عيسى العيسى وليواصل على صفحاتها الهجوم على الاحتلال البريطانى، ولم تمض سوى بضعة أشهر حتى بلغ أهله نبأ وفاته إثر جراحة بسيطة أجريت له فى المستشفى الفرنسى بيافا. وقيل إن المخابرات البريطانية قد دبرت قتله، وتأيد هذا الشك عندما اصرت السلطات البريطانية على رفض نقل جثمانه إلى لبنان خوفًا من تشريح الجثة». (نشرت هذه الرسالة فى جريدة النهار اللبنانية ٣١-١٠-١٩٧٣).
والحقيقة أن ثورة ١٩١٩ التى تألق فيها دور رفيق جبور ثوريًا إلى أقصى مدى كانت تمضى فى اتجاهين، اتجاه الأعيان ومنهم قيادات فى الوفد المصرى، واتجاه تمثل فى نضالات الثوار ضد الاحتلال وضد السلطان الموالى للاحتلال.. ويوجّه أعضاء الوفد المصرى الموجودون فى مصر رسالة للسلطان فؤاد يقولون فيها «إن أعضاء الوفد لم يتعدوا حدود القانون ولم يهيجوا فى البلد مظاهرة ولم يحركوا ساكنة» (محمد الغتيت ثورات العرب - ص٦٤). وبينما كانت الثورة تلتهب فى مصر وتلهبها، يكتب سعد زغلول من منفاه إلى عبدالرحمن فهمى قائلًا «ولا يحسن التداخل فى مسائل الاغتصابات التى حرمتها السلطة العسكرية (البريطانية) بل يجب تجنبها حتى لا تكون للخصوم حجة علينا فى أى شيء كان» (محمد أنيس - دراسات فى وثائق ثورة ١٩١٩ - ص ١٠٢) بل إن بعض قادة الوفد وصفوا أحداث الثورة «بأنها حركة مخيفة تخشى عواقبها» (الغتيت - المرجع السابق ص٧٥).
وهكذا مضت الثورة فى اتجاهين.. اتجاه الأعيان الذى يتمسك بالوسائل السلمية المشروعة، واتجاه ثورى يخوض الفلاحون والعمال والمثقفون الثوريون غماره.. وكان رفيق جبور مع الشعب ومع الثورة بل فى قيادتها. وقرر الإنجليز تقسيم الصف المصرى تقسيمًا واضحًا فأرسلوا «لجنة ملنر» لتقصى الحقائق، وتبدى الارتباك فى صفوف المصريين.. وتساءلوا ماذا نقول للجنة ملنر. وماذا لو قابلهم البعض وتقدم بمطالبه التى تقول بالالتزام بالحلول السلمية والقانونية؟ وماذا سيكون رأى الزعماء المنفيين؟ وبينما تلف الحيرة الجميع خرجت جريدة النظام بمقال لرفيق جبور يطالب فيه المصريين بمقاطعة لجنة ملنر. وألا يتحدث لها أى مصرى ولا يتقابل معها.. والتزم المصريون بالمقاطعة إلى درجة أن الفلاحين ظلوا لزمن طويل يرفضون التحدث إلى أى اجنبى قائلين له «اسأل سعد باشا» ونظم الشباب الثورى حصارًا على اللجنة وعلى مقر إقامتها فى فندق الكونتيننتال بحيث تم رصد كل من حاول الاتصال بها، وعومل معاملة الخائن. وفشلت لجنة ملنر.
لكن التاريخ يكتب كثيرًا عن مقاطعة لجنة ملنر.. وينسى أو يتناسى أن صاحب اقتراح المقاطعة كان رفيق جبور.
ونواصل..