رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

شبلي شميل.. العقل والعلم والاشتراكية معًا "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لكن عقلانية شبلى شميل كانت إلى حد ما ميكانيكية لا تفرق بين تطور المجتمع وتطور الأفراد، وهو يتمسك بحماس متقد للعلوم الطبيعية ويروج لنظرية «سبنسر» المسماة النظرية العضوية للمجتمع، وهى نظرية فاشلة حاولت أن تحلل مجرى الحياة الاجتماعية بشكل ميكانيكى وفقًا للقوانين الطبيعية، وقد أتاه ذلك فى الأغلب عبر دراسته لأفكار «بخنر»، فتخيل أن تقدم العلوم الطبيعية هو مفتاح كل تقدم، ويقول «إن العلوم الطبيعية هى الوحيدة القادرة على زعزعة أركان العلوم الكلامية والنظرية وهدم أركانها»، فالشرائع التى تسوس المجتمع اليوم والمبنية على العلوم الكلامية هى شرائع استبدادية لا تنطبق على نواميس الطبيعة التى لا يصلح المجتمع إلا بها، وقد قاد هذا المسلك الخاطئ إلى طريق ملىء بالعثرات، وحوّل كل شعاراته عن التقدم والإطاحة بحكم الاستبداد وتخليص الشعب من حكم المستبدين إلى مجرد أحلام وأوهام، ذلك أنه اعتقد لفترة ما أن التقدم لا يتحقق من خلال التناقضات الكامنة فى المجتمع ولا من خلال صراع طبقى أو مجتمعى، وإنما وفقط بفرض العلوم الطبيعية وإحلالها محل العلوم النظرية. 
وقد وصف أحد معاصريه منطق «شميل» «بأنه منطق أعمى وغير منطقى»، وكمثال فإن «شميل»، وكان فى زمانه أهم دعاة التحرر فى الشرق والغرب وأكثرهم دفاعًا عن فكرة المساواة، وتأكيد ضرورة تخليص البشر– كل البشر– من قيود التعصب والتسلط، يأتى- ورغم ذلك كله- ويتخذ من قضية المرأة ومساواتها بالرجل موقفًا سلبيا تمامًا، «فلا مساواة بين الرجل والمرأة لأن جمجمة الرجل أكبر من جمجمة المرأة، ودماغ الذكر أثقل من دماغ الأنثى»، ثم يقول دون تردد: «ولذلك كان الذكر أعقل من الأنثى بإجماع الحكماء والطبيعيين، وقد اتفقت جميع الشرائع على أن تعامل المرأة معاملة القاصر المحتاج إلى وصى، وذلك بسبب ما بها الخفة والطيش» المقتطف – المجلد ١١ عام ١٨٨٦، بل إنه يقول فى ذات الدراسة: «إن المرأة تنحط عن الرجل كلما كان الإنسان أعرق فى الحضارة والمدنية، بينما هى تتساوى معه أو تتفوق عليه كلما كان الإنسان أقرب إلى البداوة والخشونة جسديًا وعقليًا»، ثم يمضى قائلًا: «نحن نعتقد فى صحة القاعدة القائلة «إن تغلب الرجل على المرأة من ضروريات الارتقاء والضد بالضد»، ويتعرض «شميل» بسبب هذا الموقف لهجوم شديد من دعاة مساواة المرأة ومن المرأة ذاتها، فيرد على منتقديه بكبرياء: «كيف يمكن أن تكون مساواة بين الرجل والمرأة، وهما مختلفان فى الطبع من أصل الفطرة، وفى التركيب والقابليات والواجبات، فطلب المرأة مساواة الرجل مثله مثل طلب الرجل مساواة المرأة أمر مستحيل» [المقتطف – المجلد الثانى عشر ١٨٨٧]. لكن المشكلة الأفدح هى أن هذا التفكير الميكانيكى قد قاده إلى موقف مستهجن إزاء الاحتلال البريطانى لمصر، فقد وجد أن الإنجليز الذين يحتلون مصر يمثلون دولة أكثر تقدمًا فى العلوم الطبيعية من تركيا، وتابع قيامهم ببعض التقدم فى مجال التعليم، فأغراه ذلك بتصور أن هذا هو السبيل المتاح لتقدم مصر.. ذلك أن الاحتلال برغم كل عيوبه يسير بمصر فى طريق العلم، وحتى فى الموقف من امتياز قناة السويس، اتبع «شميل» ذات المنطق الميكانيكى «فحق الأمة فوق حقوق الأفراد، وحق العالم فوق حقوق الأمم»، ولهذا فإن قناة السويس يجب أن تكون للعالم أجمع وليس لمصر، وهنا تعرض لهجوم شديد من المصريين، وكتب أحدهم يهاجمه: «اليوم الوحيد الذى فازت فيه الأمة على الحكومة أتيت يا حضرة العالم والفيلسوف لتقف ضدنا، فدع علمك لنفسك ولبلدك (أى الشام) ودعنا فى جهلنا»، وتألم «شميل»، ولكنه شعر فى نفس الوقت بأنه مضطر للانصياع لهذه النظرة الميكانيكية فتأوه شعرًا: 
فيا وطنى ما خاننى فيك خائن 
من الحب أو أنى رضيت به ندا 
أريدك فى عز ولكننى أرى 
على غير ما أرضى العز قد ندا 
فإن جرت فى حكمى فما أنا جائر 
وما أنا إلا باحث لم يجد بدا 
ولكن «شميل» لم يكن يأمن للإنجليز ولا يوافق على سياساتهم حتى فى مجال التعليم، فيقول: «الإنجليز مع إتيانهم للإصلاح فى جميع الفروع الإدارية لم يأتوا فى أمر التعليم بإصلاح عظيم كما ينطق بذلك الإحصاء الذى يقدمونه بعد ١٥ عامًا من الاحتلال للبلاد، والسبب فى ذلك أن الحكومة الإنجليزية فى فتوحاتها قلما تهتم بالتعليم ولا تجرد حسامها إلا لتفتح طريقًا لتوسيع نطاق تجارتها ولتحويل ثروة الأمم إلى خزائنها».
وهكذا أثبت «شميل» أنه يفهم حقيقة الاستعمار فهما صحيحًا 
ونواصل…