الأربعاء 22 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

د/ طوسون زعزوع.. كم تعلمت منك!!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

- تفتحت عيناي وأنا طالب بكلية الطب عليه .. أعجبت به ورأيته نموذجا ً يمكنني تقليده.. كان مديرا ً لمستشفى ديروط .. ذهبت إليه وأنا في السنة الثالثة بالكلية .. طلبت منه أن أتدرب في المستشفى في الصيف فرحب بي كثيرا ً ورأى في ًّ طبيبا ً واعدا ً يحب العلم دون أن يطلب منه.. تعلمت منه ما لم أتعلمه من أحد.. يأتي باكرا ً جدا ً ليتابع كل شيء بنفسه.. الحديقة رائعة .. والطرقات وعنابر المرضى تلمع نظافة .. لا ترى ذبابة أو عنكبوت في المستشفى الحكومي.
- رأيت فيه الطبيب الإنسان الذي حقق معني الرحمة قولا ً وعملا ً .. كانت رحمته بالناس عامة تشمل الكبير والصغير.. المسلم والمسيحي والفقير والغني .. كان اهتمامه بالفقراء شديدا ً.. كان يستغيث به المريض في الثلث الأخير من الليل فيلبي النداء .. يذهب إلي المستشفي ليتابع بنفسه حالة المريض .
- تعلمت منه رد الكشف إلي الفقراء والمحتاجين واليتامى والمرأة المعيلة ..كان يتفنن في ذلك .. فإن لم يجد سببا ً اختلق سببا ً ليعيده.. تعلمت منه أن حامل القرآن لا ينبغي أن نأخذ منه أجرا ً تعظيما ً للقرآن.. وجدت أن معظم مرضاه بالمجان .. تفكرت في ذلك طويلا ً في السجن قائلا ً: “,”جاءتني اليوم فرصة العمر لأفرج كرب المرضى المعتقلين الذين انقطعت بهم الأسباب“,”.. فأحبني المرضى من الإسلاميين والجنائيين حتى الشاويشية والجنود.
- كان يأتيه المريض ليجري الجراحة في عيادته فيقول: ولماذا تكلف نفسك سأجريها لك في المستشفى.. يصر المريض .. ويتمسك أستاذي ويجريها لمريضه بالمستشفى .
- كان يحترم رجال الدين سواء ً مسلمين أو مسيحيين .. لم يأخذ يوما ً أجرة للكشف أو الجراحة من شيخ أو قسيس أو من أحد من أسرهم .. حتى أن بعض المرضي كان يدعي قرابته للشيخ فلان أو القسيس فلان حتى يعفيه من أجر الكشف .. كان يقول لأحدهما أختك فلانة كانت عندي في العيادة بالأمس فيقول له الشيخ أو القسيس : ليس لي أخت بهذا الاسم .. فيضحكان سويا ً.
- أراه في الفجر أو المغرب أو بعد منتصف الليل في غرفة العمليات يجري جراحة لمريض.. كان يتقن أعقد العمليات بدء ً الزائدة حتى استئصال الغدة الدرقية أو الطحال أو استئصال أجزاء من الأمعاء.
- كان مرضى عيادته يدفعون ربع أجر الجراحات وكان يقبلها منهم.. وقد قابلت أحدهم أجرى جراحة معقدة أجرها مائة جنيه فأعطوه 17 جنيها ً فقلت لهم: وهل أخذها.. فقالوا: أخذها ولم يعترض .
- وفي يوم من الأيام أجرى أستاذي جراحة كبرى في القاهرة.. فذهبت أسلم عليه وبين ثنايا الحديث سألته عن تكلفتها فقال لي 1200 جنيها ً .. فقلت هذا مبلغ كبير .. فقال لي: بل هو عادي.. إنني قررت هنا العمل لوجه الله.. نحن هنا لا نأخذ أجرا ً .. نحن نخدم الناس فقط .
- ظل أستاذي يكشف على والدي ووالدتي مجانا ً حتى أنهما كان يستحيان من ذلك ويذهبان لغيره.. حتى تلاميذي الأطباء لم يفعلوا ذلك.. وكانت أمي تقول: يا بني أستاذك د/ طوسون زعزوع ليس له مثيل .. فقد كان يكشف على نصف ديروط مجانا ً .
- ترجع أصول د/ زعزوع إلي أسرة محمد علي باشا وقدم إلي ديروط وليس لدينا في هذه المدينة الكبيرة سوى ثلاثة أطباء.
- لم يعرف الرجل البيزنس يوما ً مثل أطباء اليوم الذين يتهربون “,” ويزوغون “,” من المستشفيات للذهاب إلي العيادات والمستوصفات الخاصة .. أو يتاجرون وهم أساتذة الطب في الأراضي أو الشقق أو غيرها.. مع أن رسالة الطب الإنسانية تتناقض تماما ً مع رسالة التاجر المادية.
- كانت السيارات الملاكي قليلة يومها في ديروط في الخمسينات والستينات والسبعينات .. قد يحمل المريض بسيارته من عيادته إلي المستشفي إذا كانت حالته خطيرة .. وقد يحمل مريضا من المستشفي انتهي علاجه ولا يجد وسيلة مواصلات .. كانت سيارته أشبه بسيارة الأجرة.. حيث كان يحمل فيها كل من يسير في طريقه إلي المستشفي التي كانت تبعد عن المدينة بحوالي 3كم .. كم من مرة وقف بسيارته علي باب المستشفي في عز الحر والصيف لكي يوصلني إلي المدينة حيث لم تكن يومها أي مواصلات عند المستشفي
- كان إذا خرج من المستشفى ووجد طبيبا ً أو طالب طب واقفا ً عند باب المستشفى أركبه السيارة معه ً.
- أعطاه الله بصيرة في التشخيص لم أدرك سرها إلا بعد طول نقاش مع أطباء آخرين خلصنا فيه إلي أن التشخيص مثل الفتوى فهو “,”نور يقذفه الله في قلوب الأطباء العلماء الرحماء“,”.
- وقد فاقت تشخيصاته أساتذة كبار وقعوا في أخطاء فادحة لم نستغربها لكبرهم وغلظتهم.. حتى قال بعضهم “,”هذه الجراحة أجريها وأنا معصوب العينين أو أجريها بظفر قدمي“,”.. ثم يموت مريضه من جراحة بسيطة.
- في جسد كل ديروطي غرزه من غرز جراحاته .. ويندر أن يكون طفل من جيلي وثلاثة أجيال بعدي لم يختتن علي يديه .
- كان المشرط الجراحي ينقاد له انقيادا ً عجيبا ً .. وكأنه يعلم أن هذا الرجل لا يتقاضي شيئا ً يذكر عن معظم جراحاته.. وكأن المشرط يعينه علي تأدية رسالته الإنسانية .
- لم أر أحدا ً من الأطباء في بلدتنا حظي بالود والحب مثلما حظي هذا الجراح العظيم.. إذا أصابته وعكة صحية اضطربت جنبات المدينة وقراها وأخذ الآلاف يتوافدون عليه زائرين وسائلين وقلقين علي مصدر الحنان والشفقة عليهم .
- حينما كبر أستاذي انتقل إلي القاهرة مع أولاده الأطباء.. ومات هناك وهو الوحيد الذي أقامت له مدينتنا جنازة وصوان عزاء دون أن تكون له أسرة أو أهل فيها فقد اعتبروه واحدا ً منهم.. رحم الله صانع المعروف د/ محمود طوسون زعزوع.