مشاهدات رمضانية (2)

البحث عن الأكل الحلال قد يبدو أمرًا عاديًا ومنطقيًا في بريطانيا، لكنه يعكس واقعًا يعيشه المسلمون يوميًا. هناك إجماع على أن لحم الخنزير حرام وبالتالي يحرصون على تجنب الأطعمة التي يدخل الخنزير في مكوناتها، بل وحتى أنواع الحلوى الجيلاتينية التي يحبها الأطفال ويدخل في مكوناتها دهن الخنزير، يحرصُ الأهالي على تعليم أبنائهم ضرورة التحري عند الشراء وتفادي تلك المنتجات. في المقابل، هناك اختلاف حول لحوم الدواجن والبقر حيث يرى البعض أنها حلالٌ ويتناولونها دون إبداء أية شكوك، بينما يمتنع آخرون عن استهلاكها ويفضلون اقتناء هذه اللحوم من محلات معروفة ببيع المنتجات الحلال . ولاشك أن هناك فروقًا في السعر حيث تكون اللحوم الحلال أغلى سعرًا من غيرها.

1-الملوخية والبط والمحشي "ديلفري"

تمثل قضية الأكل الحلال فرصة جيدة اغتنمها البعض من المسلمين، ومنهم مصريون، لإنشاء مشروعات صغيرة لبيع الأكل الجاهز الحلال. وتنشط هذه المشروعات الصغيرة بشكل كبير خلال موسم رمضان؛ ويغلب عليها الطابع العائلي ويديرها أصحابها من بيوتهم حيث تحقق لهم دخلاً جيدًا يعينهم على تغطية نفقاتهم كما أنه يلبّي على الجانب الآخر طلبات الجاليات الاسلامية التي تبحث عن الأكل الحلال ومتعة الإفطار في شهر رمضان على وجبات يشتهيها الصائمون وتذكّرهم بالوطن. وقد تعاملت مع أحد مقدمي الطعام الحلال وهو مصري يبيع وجباته "أون لاين" مع توفير خدمات التوصيل. ولديه أشهى الأكلات الشعبية مثل الملوخية والبط والجلاش باللحمة المفرومة أو الخضر والجبن، مع أنواع المحشي، ووجبات أخرى مختلفة تشتهيها أنفس الصائمين. وتعدُّ أسعاره مرتفعة بعض الشيء خاصة أنه يبيع كمية لا تقل عن الكيلوغرام من كل نوع. ولا ينشط المصريون فقط في هذا "البزنس" بل هم ربما الأقل نشاطاً مقارنة بالسوريين والأتراك والمغاربة. ومن جانب آخر، تستمر حفلات الإفطار التي يقيمها مسلمون ليتشاركوا في "العيش والملح" كما يقول المصريون، وإحدى هذه الحفلات أقيمت في باسينجستوك.
"الجالية المصرية في المملكة المتحدة في ازدياد مستمر، ليس فقط في لندن بل في كل مكان في جميع أنحاء المملكة المتحدة؛ وباسينجستوك هي مدينة صغيرة تبعد ساعة عن لندن، ويزداد عدد السكان العرب فيها يومًا بعد يوم". هذا ما ذكرته نوهير كامل المقيمة في باسينجستوك وهي زميلتي من أيام الدراسات العليا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. تضيف نوهير: "نحن حريصون على تنظيم لقاءات منتظمة على مدار العام تضم عائلاتنا، وذلك في مناسبات عديدة منها رمضان والأعياد وكذلك النزهات في أوقات الصيف. وهذه التجمعات تساعد في دعم صحتنا النفسية وتخفيف الشعور بالعزلة المرتبطة بالهجرة والابتعاد عن الوطن والأحباب". وتشير إلى حفل إفطار هذا العام الذي شاركت فيه عائلات من مصر والسودان والجزائر والمغرب والأردن والعراق وسوريا وكردستان، معظمهم مسلمون وأحضروا أطباقًا متنوعة من الأطعمة الشهية. وشملت الدعوة أسرة انجليزية كانت مهتمة بالمشاركة للاطلاع على مختلف هذه الثقافات خلال الإفطار الرمضاني. وقد بدأت المأدبة بعد صلاة المغرب جماعة. وحرص المنظمون على تخصيص أنشطة للأطفال حتى يتشاركوا في اللعب والاندماج. وقد جمع المشاركون مبلغًا صغيرًا لسداد إيجار القاعة التي أقاموا فيها إفطارهم. أما المفاجأة التي أسعدت نوهير في رمضان هذا العام فهي حضور والدتها من القاهرة والتي أضفت بهجة ونكهة برائحة الوطن مصر على رمضان وحفلاته.

2- حرية ممارسة الشعائر الدينية
يمارس المسلمون في بريطانيا الشعائر الدينية بحرية كبيرة وبدون التعرض للمضايقات وهذا يدل على أن هناك تنوعًا ثقافيًا وعرقيًا واثنيًا يتمتع به مواطنو بريطانيا. هناك حدث جديد أيضًا قد يساهم في ترسيخ هذه القيم أكثر وهو وصول ريشي سوناك، ذي الأصول الهندية، لمقعد رئاسة وزراء بريطانيا للمرة الأولى. ينتمي ريشي للجيل الثاني من المهاجرين، حيث هاجر أجداده من البنجاب في شمال غرب الهند إلى شرق إفريقيا، وبعدها هاجر والداه في الستينيات إلى إنجلترا أين ولد في 12 مايو عام 1980، وتزعم حزب المحافظين في 24 أكتوبر 2022 ثم تقلد منصبه في 25 أكتوبر 2022 وهو في سن ال 43 ليكون أصغر رئيس وزراء في بريطانيا وأول هندوسي يشغل هذا المنصب، ليس ذلك فقط بل يعد أغنى شخص تولى هذا المنصب. احتل ريتشي المركز 222 ضمن أغنياء المملكة المتحدة بثروة تقدر بنحو 730 مليون جنيه استرليني. بعد حصوله على ماجستير إدارة الأعمال عمل ريتشي في بنك جولدمان سكس، ثم شريكًا في شركات صناديق التحوط وإدارة صندوق استثمار الأطفال وثيليم بارتنرز.
وقد فاز سوناك بعضوية مجلس العموم عن ريتشمون (يورك) في الانتخابات العامة لعام 2015 بعد انتخاب جونسون وتعيينه رئيسًا للوزراء. وعين سوناك أمينًا عاما للخزانة. وحل بذلك محل ساجد جاويد وزير الخزانة؛ لكنه استقال في التعديل الوزاري في فبراير 2020.
وعندما عين سوناك وزيرًا للخزانة كان أداؤه جيدًا في الاستجابة المالية للحكومة تجاه جائحة كورونا وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي. وقد استقال من منصبه في 5 يوليو 2022، تلتها استقالة جونسون وسط أزمة حكومية. وترشح سوناك حينئذ في انتخابات قيادة حزب المحافظين ليحل محل جونسون لكنه خسر تصويت الأعضاء لصالح ليز تراس. وعلى إثر استقالة ليز تراس بعد 44 يومًا فقط من تولي رئاسة وزراء بريطانيا عند نشوب أزمة حكومية أخرى، انتخب حينئذ سوناك زعيمًا لحزب المحافظين. وعين رئيسًا للوزراء من قبل الملك تشارلز الثالث في 25 أكتوبر 2022.
وهناك شعور بالارتياح لمسته لدى أفراد من الجاليات المهاجرة في بريطانيا لتولي سوناك أعلى منصب حزبي ووزاري في بريطانيا وهو يعكس في نظرهم أنها بلد حاضنة للأقليات وتحترم خصوصية الآخرين وثقافاتهم وشعائرهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم.
ومن خلال حديثي مع مواطنين من أصول مصرية وبنغالية وتركية وجزائرية سنحت لي الفرصة للحوار معهم، أكدوا جميعهم أنه مادام الشخص يحمل الجنسية البريطانية، فإنه يعامل معاملة ابن الدولة، أيا ما كانت جنسيته الأم، وقوانين بريطانيا تطبق عليه، فلا يوجد هناك فارق بين مكتسب الجنسية وابن البلد.
3- "البريكست"وفرص الوظائف للمهاجرين 
عندما صوت البريطانيون لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبى، انقسم الشعب بفارق بسيط جدا، فرجحت كفة الخروج من الاتحاد بسبب معاناة الحكومة من الالتزامات المالية تجاه الاتحاد. وبعد الانفصال خرج عدد من أبناء الدول الأوروبية إلى دولهم، وهو ما سبب مشكلة فى العمالة. ويرى من تحدثت معهم من الصحفيين والناس العاديين أن "البريكست" خلقت فرصًا جيدة للوظائف حيث انخفض عدد العاطلين عن العمل من أصول آسيوية وأفريقية وأمريكا الجنوبية وشهد سوق العمل البريطاني طلبًا ضخمًا على التوظيف هو الأكبر من نوعه منذ سنوات. ونفس الأمر ينطبق على الفرص المتاحة للمصريين كغيرهم من المهاجرين.
ويظهر ذلك بشكل واضح خاصة في مجالات مثل الطب والهندسة والتدريس ومقاولات البناء والتجارة والبنوك والعديد من الوظائف في تخصصات أخرى، وإن كانت لا توجد أرقام أو إحصاءات حتى الآن تؤكد هذه الملاحظات القائمة على الشهادات العشوائية.
ويحاول المصريون الاندماج في المجتمع البريطاني مع غيرهم من الجنسيات والأعراق مع الحرص مع على استمرار التواصل مع الوطن الأم مصر. ويحظون داخل المجتمع بسمعة طيبة في مجال عملهم حيث يتميزون بالالتزام والجدية والتفاني. وهذا يشجع الشركات على توظيف المزيد من المصريين بفضل تلك السمعة الحسنة. وكما ذكرت في رسالة سابقة فإنه منذ وصول لاعب الكرة محمد صلاح إلى بريطانيا أضفى على الجالية المصرية فى بريطانيا المزيد من التحفيز بفضل السمعة الطيبة التي يتمتع بها لدرجة أنها مثلت أفضل دعاية إيجابية ليس فقط للجالية المصرية وإنما لمصر بشكل عام والعرب والمسلمين قد تعجز شركات التسويق والدعاية عن إنجازها لكنه استطاع أن يجذب الأنظار ويحقق تلك السمعة الطيبة بمفرده. وإلى مشاهدات أخرى حول رمضان في لندن في مقال قادم.