البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

البهاء الطاهر.. في واحة الغروب

ليس غريبًا أن نتحدث عن هذا الأديب الأريب الفيلسوف: بهاء طاهر؛ مع إضافة ( ألف ) و( لام ) التعريف إلى اسمه؛ ونعلم تمامًا قيمة هذه الإضافة في تراكيب لغتنا العربية العصماء؛ ونتفق جميعًا إنه في الأغلب الأعم؛ أن كل إنسان يكتسب البعض من صفات اسمه لتنعكس على  سلوكياته وتصرفاته الحياتية؛ بل تنعكس على فكره وعقله ومنتوجه الإبداعي الذي يهبَه الله له خلال مراحل حياته: من المهد.. إلى اللحد!
ولم نمنحه هذه الإضافة الفارقة من قبيل التكريم العفوي فقط؛ ولكن لما رأيناه رؤية العين ولمسناه عن قرب في سلوكياته وتصرفاته المؤمنة بقيمة مصرنا المحروسة؛ حين رأيناه وهو يتوكأ على ( عكازه ) بين شباب الثوار في ميدان التحرير؛ يبث الحماس والعزيمة في النفوس؛ ويقوم بتصدير الطاقة الإيجابية ـ لمن حوله ـ ولكل الأرواح النابضة بحب الوطن؛ وكان ذلك في يناير 2011؛ وفي ثورة يونيو المجيدة في العام 2013؛عام انقشاع سحيبات أهل الشر من سماء الوطن؛ تلك الثورة التي أعادت لسدة الحكم هؤلاء الفتية الذين آمنُوا بربهم وبحريَّة وكرامة وطنهم؛ وحرية وكرامة الإنسان على أرضه المقدسة.

تلك لمحات عن الإنسان الأديب: بهاء طاهر؛ الذى غادرعالمنا ذات صباح خريفي من صباحات القاهرة؛ وكأن الخريف برياحه العنيدة؛ يُصر على الإطاحة بأبهى أوراق الفكر الرصين من فوق أفنان شجرة الإبداع المصري والعربي.. بل العالمي أيضًا.

 ويبقى الحديث عن إنتاج وإبداع "البهاء الطاهر" في مجال الأدب وحرفية كتابة الرواية؛ وأسلوب السرد الرائع الذى انفرد وتفرد به؛ واستطاع أن يقف شامخًا ثابتًا.. وهو المجايل لعمالقة الأدب المصري أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ  ويحيى حقي  وخيري شلبي ويوسف إدريس وابراهيم عبد المجيد... إلخ  القائمة الطويلة من مبدعي مصرنا المعطاء في كل العصور.

لقد  استطاع هذا الأديب الذي جاء إلى الحياة في ( بر الجيزة ) بمصر في العام  ١٩٣٩؛ ليزاحم ــ بكل الحب والمصداقية في الرؤية المجتمعية ــ  أبناء جيله من  المعاصرين؛ لينال جائزة الدولة التقديرية عام 1998؛ ثم ليحظى بالجائزة العالمية للرواية العربية" البوكر" في دورتها الأولى في العام ٢٠٠٨؛ ــ أي وهو على مشارف السبعين من العُمرــ عن روايته: واحة الغروب ( الصادرة عن دار الشروق في العام نفسه ).

ولم تكن رواية "واحة الغروب" ماسة التاج في إبداعاته الأدبية؛ ولكنه ترك للمكتبة العربية ـ على مدى سنوات العمر ــ العديد من الروايات والمجموعات القصصية؛ وتصدى لعرض ونقد عشر مسرحيات؛ وتحولت رواية "خالتي صفية والدير؛ إلى مسلسل تليفزيوني ؛ تابعه الملايين في أنحاء الوطن العربي؛ بالإضافة إلى: الخطوبة (مجموعة قصصية) صدرت عام 1972؛بالأمس حلمت بك (مجموعة قصصية) ـ 1984؛وأنا الملك جئت (مجموعة قصصية)؛شرق النخيل (رواية)؛ قالت ضحى (رواية)؛ ذهبت إلى شلال (مجموعة قصصية)؛خالتي صفية والدير (رواية )؛ الحب في المنفى (رواية) ؛أبناء رفاعة - الثقافة والحرية؛ ساحر الصحراء - ترجمة لرواية الخيميائي لباولو كويلو؛ نقطة النور( رواية)؛ واحة الغروب (رواية)؛ لم أعرف أن الطواويس تطير (مجموعة قصصية) ؛ وبعد هذه الرحلة الطويلة في عالم الإبداع الصادق؛ حصل على جائزة "جوزيبي اكيربي" الإيطالية سنة 2000 عن رواية: "خالتي صفية والدير".

ولأن الأديب المُبدع لابد أن تتفق قناعاته الفلسفية والسياسية؛ مع سطور إنتاجه الأدبي الصادق؛ قام " البهاء الطاهر" برد "جائزة مبارك للآداب" التي  سبق وأن حصُل عليها عام 2009 في العام ؛ وذلك في العام 2011 أثناء الاحتجاجات التي شهدتها مصر، وقال أنه لا يستطيع أن يحملها وقد أراق نظام مبارك دماء المصريين الشرفاء.. فالرجال: مواقف !

ولعل من قبيل الذكر لمحاسن ومواقف هذا الأديب الإنسان؛ فقد شيَّد في مدينة "الأقصر" مهد عائلته؛ قصرًا منيفًا وهبَه للثقافة والفنون؛ بعنوان: "قصر ثقافة بهاء طاهر"؛ فقد تبرع بقطعة أرض من إرث أبيه بالأُقصر للدولة من أجل إقامة هذا القصر خدمة لقضايا الثقافة والمثقفين؛ وقد تم تكريمه بافتتاح وزير الثقافة المصري ـ آنذاك ـ الدكتور/صابر عرب؛

ولنا أن نطوف ــ طواف المحبين ــ  حول رواية (الواحة) التي لعب فيها أبطال روايته هي: واحة سيوة؛ القابعة في صحراء مصر الغربية؛ وتدور أحداثها في نهايات القرن التاسع عشر؛ مع بداية الاحتلال البريطاني لمصر؛ والمدهش أن بطل روايته هو ضابط البوليس "محمود عبد الظاهر" الذي يعاني من وَهَنْ ما بعد الهزيمة الذي أحاله جسدا بلا روح؛ ونقيضه المُمثل في زوجته الأوروبية "كاترين" بكل ما فيها من شغف بحضارة الشرق ورغبة في الحياة؛ وفي خضم كل هذه المتناقضات اختار "طاهر" أرض واحة سيوة مسرحًا لهذه المبارزة؛ من خلال روعة "السرد" وتمكّنه كـ " حكَّاء مُبهر"؛ وبأسلوبٍ تفرد به عن رفقاء جيله من المبدعين.
ولقد   أجمع النقاد برأيهم عن تلك الرواية بأنها: رواية تجمع مابين التخيُّـل   التاريخي والفانتازيا والرواية السياسية الاجتماعية؛ مع نفحات من الواقعية   السحرية في بعض الأماكن الصحراوية المترامية فوق تضاريس خريطة الوطن.

ويبدو  أن أسلوب المواجهة والمصارحة بوقع "الهزيمة" على المجتمع المصري والعربي؛  قد صنع صدامًا بينه وبين السلطة الحاكمة ـ وقتذاك ـ فتمَّت محاولة "قصف  قلمه" الصارخ؛ بمنعه من الكتابة ونشر إبداعاته؛ فترك مصر العزيزة إلى روحه  وقلبه؛ وسافر في أفريقيا وآسيا حيث عمل مترجمًا في الأمم المتحدة ؛ ليعود  بعدها إلى مصر.. إلى أن غادر عالمنا ليذهب ـ بجسده الواهِنْ صاحب السبعة  وثمانين عامًا ـ إلى "واحة الغروب"..   ولكنه ـ في هذه المرَّة ـ الغروب  الإبدي..جسدا وليس روحا ومكانة في قلوب مريديه ومتذوقي حرفه وفكره..رحل بطهره وعذوبته إلى دار الحق تدعو له القلوب بخير مستقر لروحه الطاهرة يسكن الجنة في عليين إن شاء الله.