البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

المُغامر والمُقامر ومكتب البريد

أنا لا أتصنع ذلك يا صديقي.. لكني حقيقة لست قلقًا من شيء، لم أكن كذلك منذ سنوات.. لكني أصبحت دون أن أشعر مطمئنًا لكل شيء.
لا تقلق
هل تعلم يا صديقي أنني بت أُهدي اهتمامي وحبي وضحكاتي وكتاباتي إلى لا أحد.
نعم.. لا تتعجب هي كذلك كما فعلها تشارلز بوكوفسكي في روايته «مكتب البريد» إذ كتب في خانة الإهداء: «مهداة إلى لا أحد».
وقفت كثيرًا يا صديقي بين هذا الإهداء وبين تلك الكلمة التي وضعها على قبره: «لا تحاول».. 24 عامًا بين هاتين العبارتين.
أراد بوكوفسكي أن يكون كاتبًا، لكن كل أعماله قوبلت بالرفض ليس هذا فحسب بل وُصفت بالرداءة والافتقار فهرب من الحياة وأدمن الكحول حتى استدان.
لم يجد أمامه فرصة عمل سوى في مكتب بريد، كان يوزع راتبه على الكحول والقمار ويكتب الشعر ليلا، وظل على هذا الحال حتى وصل إلى هذا الإهداء: «مُهداة إلى لا أحد».  

ما قصة الإهداء!
وسط حياة المجون والضياع، كان هناك محرر في إحدى دور النشر الصغيرة يتابع كتابات بوكوفسكي فراهن عليه رهان خارج المنطق.
تلاقيا كمغامر ومقامر على حافة الحلم.. الأول أبدى تعاطفًا.. والثاني أدرك أن تلك أول صفقة حقيقية يحصل عليها من الحياة فكتب روايته  الأولى في ثلاثة أسابيع، وقد وضع لها اسمًا «مكتب البريد». وفي المكان الذي يكتبون فيه الإهداء، كتب بوكوفسكي: «مُهداة إلى لا أحد».

لا تحاول!
صار بوكوفسكي روائيًا وشاعرًا ناجحًا نشر ست روايات ومئات القصائد؛ وباع أكثر من مليوني نسخة من كتبه، فاتخذه الناس قدوة ونموذجًا في عدم اليأس واستمرار المحاولة قبل أن يصطدمهم بآخر عبارة كتبها على قبره: «لا تحاول». 
ليست عبقرية أعمال بوكوفسكي كامنة في التغلب على عقبات لا يصدقها عقل ولا في تطوير نفسه إلى أن يصير نبراسًا أدبيًا متألقًا، كان الأمر عكس ذلك تماما، إن قابليته البسيطة لأن يكون صادقًا مع نفسه كل الصدق، من غير أن يحيد عن ذلك قيد أنملة (بل صادقًا مع أسوأ ما فيه خاصة)، وأن يتحدث عن إخفاقاته من غير أي تردد أو شك، تلكم هي القصة الحقيقية لنجاح بوكوفسكي: إحساسه بالراحة تجاه نفسه وتجاه فشله، لم يكن بوكوفسكي مباليًا بالنجاح، وحتى بعد أن صار شهيرًا، ظل يستقبل في لقاءات قراءاته الشعرية أشخاصًا بؤساء أساءت إليهم الحياة إساءة حقيقية.

العجيب أنه برغم الإهداء غير المعنون والعبارة الأخيرة كانت نصيحة بوكوفسكي وهو ثمل يدير النرد: امضِ إلى آخر الشوط.
أدر النرد
إن كنتَ تنوي أن تجرّب
فامضِ إلى آخر الشوط
وإلا
لا تُقدِم على البدء

إن كنتَ تنوي أن تجرّب
فهذا قد يعني خسرانك لحبيباتٍ
زوجات
أقرباء
وظائف
وربما.. عقلك!

امضِ إلى آخر الشوط
هذا قد يعني ألا تأكل لثلاثة أيام أو أربعة
هذا قد يعني أن تتجمد فوق مصطبة متنزهٍ ما
هذا قد يعني أن تدخل السجن
قد يعني الاحتقار
السخرية
العزلة.
العزلة وحدها نعمةٌ وهبة
وما خلاها ليس سوى اختبار
لاحتمالك
لقوة رغبتك
في أن تفعلها.
ولسوفَ تفعلها
رغم الرفض، ورغم أسوأ المفاجآت
ولسوف يكون هذا
خيرًا من كل ما تخيّلت

إن كنتَ تنوي أن تجرّب
فامضِ إلى آخر الشوط
ما من شعور يضاهيه
ستكون وحيدًا مع الآلهة
والليالي.. سينيرها اللهيب

افعلها، افعلها، افعلها
افعلها
إلى آخر الشوط

ستمتطي صهوة الحياة
صوب الضحكة المطلقة
وهذه.. المعركة الصالحة الوحيدة
أنا نفسي أفعلها
مكابدًا كل هذي المسافات
ما بيننا
مواجهًا نفسي
حين يطغى الصمت والظلام
عاملا، وأنا أفقد رغبتي
قاطنًا في مدينةٍ غادرتني من زمانٍ بعيد
دافعًا أيامي أمامي
ساعيًا كي أعيش أحلامي
قابضًا على غدي
قارئًا كلمات "وايلد"
مبتسمًا رغم ذلك
لأنني
لأنني أفعلها!