البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الأزمتان الكوبية والأوكرانية.. تباينات وتوافقات تفاوضية

  الأزمتان الكوبية والأوكرانية تشتركان في تعرُض المصلحة الحيوية لدولة عظمى لخطر داهم. وإن كان الأمر معكوسا. ففي الأزمة الأولى كانت الولايات المتحدة هي المُهددة من الاتحاد السوفيتي وفي الثانية كانت روسيا هي المُهددة من أمريكا وتابعيها. وفي الأولى وقع التعرض فعلا، بوجود قواعد الصواريخ في كوبا، وفي الثانية كان التعرض على حافة الوقوع، إذا ما انضمت أوكرانيا لحلف الناتو [وتكشف بعد ذلك، أن مخططات أخرى خطيرة بين أوكرانيا والغرب، كانت تُحاك ضد روسيا] 

الجميع يتابع الأزمة الأوكرانية، وقبل أن نقارن بين الأزمتين، نعطي ملخصا للقارئ الكريم عن الأزمة الكوبية:

في شهري أغسطس وسبتمبر 1962 تجمعت معلومات غير مؤكدة بأن الاتحاد السوفيتي قد بدأ في بناء قواعد صواريخ في الجزيرة الكوبية، وكانت المخابرات الفرنسية قد حذرت أيضا المخابرات الأمريكية، لكن كنيدي استبعد حدوث ذلك. وسألت الولايات المتحدة القيادة السوفيتية عن ذلك الأمر، فنفت نفيا قاطعا، وأن مثل ذلك الأمر لم يحدث. وأصدر الرئيس كنيدي في 4 سبتمبر مذكرة تحذير من إدخال أية أسلحة سوفيتية هجومية الى كوبا. لكن في يوم 14 أكتوبر 1962، قامت طائرات التجسس الأمريكية من طراز U-2 التي تطير على ارتفاعات شاهقة وتقوم بمهام روتينية للإستطلاع الجوي فوق المجال الجوي الأمريكي وفوق البلاد الأخرى، بالحصول على صور لأشياء مستجدة على الساحل الجنوبي لجزيرة كوبا، التي تبعد فقط مسافة 90 ميلا عن سواحل فلوريدا الأمريكية. وفي اليوم التالي 15 اكتوبر أصدر خبراء وكالة المخابرات المركزية تقريرهم التحليلي لتلك الصور، بأنها تمثل مجموعة من قواعد اطلاق الصواريخ النووية متوسطة المدى وعددها في حدود 40 صاروخا. ومن هذا اليوم بدأت الأزمة، وانتهت في 28 أكتوبر [وعُرفت بأزمة الـ 13 يوما]

ولكن كيف وصلت العلاقات بين كوبا والاتحاد السوفيتي لهذه القوة؟ فكما هو الحال بين أوكرانيا وروسيا، كانت هناك علاقات تجارية متجذرة بين كوبا والولايات المتحدة، حتى جاء يناير عام 1959 عندما استولى فيدل كاسترو والثوار الشيوعيون على السلطة، وأزالوا حكم الديكتاتور الموالي لأمريكا الجنرال باتيستا. ومثلما طلب جمال عبد الناصر من أمريكا والبنك الدولي مساعدة مصر في مشاريع التنمية، طلب كاسترو ذلك من أمريكا، لكنها رفضت، بل رفض الرئيس أيزنهاور مقابلة كاسترو أثناء زيارة كاسترو للأمم المتحدة في نيويورك. ولم يجد كاسترو بدا من مقابلة مندوب الاتحاد السوفيتي في الأمم المتحدة، ورحبت القيادة السوفيتية وعلى رأسها نيكيتا خروتشوف بالتعاون التام وبلا حدود مع النظام الكوبي الشيوعي الجديد. وهو ما حدث مع جمال عبدالناصر أيضا. وقرر كاسترو تأميم الممتلكات الأمريكية في كوبا، وقرر أيزنهاور وقف واردات أمريكا من السكر والتوباكو الكوبي، وقرر أيضا حظر جميع الصادرات الأمريكية الى كوبا عدا الغذاء والدواء ، مما أثر بشدة على الإقتصاد الكوبي. وقبل مغادرة  الرئيس أيزنهاور للبيت الأبيض في يناير 1961 قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع كوبا.

لم يكتف كاسترو بنجاح ثورته، لكن بدأ أيضا في تدعيم ثورات أخرى في أمريكا الجنوبية. وفي أبريل 1961صدق الرئيس الأمريكي جون كيندي على خطة إنزال حوالي 1500 من المعارضين لنظام كاسترو، من بين الذين فروا من كوبا بعد وصوله للسلطة، وإنزالهم على شاطئ كوبا في منطقة خليج الخنازير، ليقودوا ثورة شعبية ويستولوا على السلطة ويزيلوه من الحكم.[وهي خطة أعدتها ومولتها وتبنتها وكالة المخابرات المركزية منذ 1960] وتوجد روايات متعددة عن كيفية تسرب تلك الخطة لكاسترو. فبمجرد نزول أفراد المعارضة المسلحة، وجدوا في انتظارهم عشرون ألفا من التابعين لكاسترو، قضوا على المعارضين، ما بين قتيل وأسير. وفشلت الخطة تماما، ومثلت فضيحة لأمريكا، وظهر كنيدي بمظهر الضعيف قليل الخبرة. كما اعتمدت القيادة الأمريكية عدة مخططات تأمرية [ ومنها عملية النمس] لإزاحة نظام كاسترو. واتفق كاسترو وخروتشوف سرا في يوليو 1962 على حماية النظام الكوبي، وردع ومنع أي محاولة غزو مستقبلية لكوبا، وذلك بنشر صواريخ نووية وطائرات قاذفة ثقيلة من طراز إليوشن 28 فوق أرض الجزيرة الكوبية.

وهنا نرصد فقط 20 عاملا (في حدود مساحة النشر) لبيان الاختلاف والتوافق التفاوضي في تناول الأزمتين:

1ـ خطاب الى الأمة: رغم فارق الـ 60 عاما بين الأزمتين، إلا أن خطاب الرؤساء الى الأمة كان محوريا. قام جون كينيدي يوم 22 أكتوبر 1962 الساعة 7 مساء، بتوجيه خطاب تليفزيوني للأمة مدته 18 دقيقة، عن أبعاد الأزمة وأنها لا تمس الأمة الأمريكية فقط وإنما العالم الغربي كله. خروتشوف وجه خطابا عن طريق الإذاعة. بوتين وجه عدة خطابات وكذا فعل بايدن، وزيلينسكي وغيره من الرؤساء. وليس هنا مجال مناقشة محتوى الخطب ومدتها ووقتها وكيفيتها ومن حضرها وهيئة إلقائها [كنيدي وبوتين، ألقوا خطاباتهم وهم جلوس أمام الكاميرا. بايدن ألقى خطاباته واقفا..وهكذا] وهو موضوع تحتاج عناصره ومكوناته ومحتوياته وتحليلاته ومدلولاته وتأثيراته الى كتاب كامل لو أردنا التوسع وإعطاء موضوع تلك الخطابات كفايته من الدراسة والبحث،

2ـ البدائل والخيارات: في كلا الأزمتين، تراوحت الخيارات المتاحة والمعروضة للدراسة، ما بين مجرد المراقبة، أو  إنشاء منطقة حظر، أوبدأ حرب محدودة الى حرب شاملة الى احتمال الانجرار الى حرب نووية محدودة أو شاملة.

3ـ لجان الأمن القومي: كان لتلك اللجان دورها الفاعل كدائرة استشارية مقربة للرئيس، سواء تم تطويرها وتفعيلها في

أزمة كوبا، أو تم دعوتها للإجتماع وممارسة دورها في أزمة أوكرانيا.

4ـ طلب رئيسي كوبا وأوكرانيا تصعيد الأزمة: لعدم إلمام وقلة خبرة الرئيسان كاسترو وزيلينسكي بأبعاد التوازنات العالمية، وأبعاد وكوارث احتمال نشوب حرب نووية، إعترض كلاهما بشدة على السير نحو الحل السلمي أو نحو عدم اتخاذ خطوات من شأنها تهيئة الظروف لنشوب تلك الحرب نووية. وأصر كل منهما على مناداة حلفائه بالتصعيد الأقصى.

5ـ السرية والعلانية: بغض النظر عن الاختلافات والظروف التكنولوجية المتاحة خلال 60 عاما بين الأزمتين، فقد لعبت الاتصالات السرية الموثوقة أثناء الأزمة الكوبية دورا فاعلا وحاسما ومفيدا. بينما لم تسفر الوساطات العلنية المتعددة في الأزمة الأوكرانية عن منع دخول القوات الروسية أوكرانيا. وبينما كانت الاتصالات السرية في الأزمة الكوبية على مستوى السفراء والوزراء، كانت الوساطات في الأزمة الأوكرانية على مستوى الرؤساء. 

6ـ الحرب الدعائية: بحكم التطورات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، تفوقت تأثيرات الحرب الدعائية في الأزمة الاوكرانية على مثيلاتها في الأزمة الكوبية. وكان من المشين أن المعسكر الغربي المفترض أنه حامل لواء الدفاع عن قيم الديمقراطية وحرية الرأي، يبذل كل إمكاناته الفنية والتكنولوجية لمنع بث الرأي الروسي في الأزمة الأوكرانية.

7ـ الاحترام المتبادل: كانت حكمة الرئيسين كنيدي وخروتشوف في الأزمة الكوبية، تعلمان أن الحل بيديهما أساسا، لذلك لم تنزلق أجهزتهما الرسمية الى النيل من أشخاصهما ولا من كرامتهما ولا من سمعتهما. بعكس ما حدث ويحدث في الأزمة الأوكرانية من الجانب الغربي الذي أسند كل نقيصة بالرئيس بوتين، وبدرجة أقل إسناد الجانب الروسي لكل المسؤولين الغربيين كل أنواع التأمر ضد روسيا وأنهم مجرد تابعين للعم الأمريكي.

8ـ الدوافع الشخصية:  كان الموقف الشخصي للرئيس أيزنهاور وعدائه للزعيم فيدل كاسترو الذي أنهى الحكم الديكتاتوري لرجل أمريكا الجنرال باتيستا، أثره على توجه كوبا للإتحاد السوفيتي. أما أثناء الأزمة، ورغم وجود الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، فلم يلعب الموقف الشخصي بين كنيدي وخروتشوف موقفا معوقا للحل. أما في الأزمة الأوكرانية، فقد كشفت الأحداث أن كرها دفينا يكنه بايدن للرئيس بوتين وذات الشيء يكنه زعماء الغرب والرئيس زيلنسكي لبوتين. وأنه تم الخلط بين الموقف من روسيا والموقف من بوتين، وأن هدف التخلص من بوتين بات مطلبا. كما أن التخلص من الرئيس الأوكراني بات مطلبا روسيا أيضا. كما أثر في الأزمة الموقف الشخصي للرئيس بايدن المرتبط بعلاقات وطيدة سابقة مع أوكرانيا. كذلك ظهرت العنصرية البيضاء والعنصرية الأوربية كتحزبات وتحيزات شخصية.

9ـ  تدرج وفترة التصعيد: ثورة شيوعية أطاحت برجل أمريكا الدكتاتور باتيستا عام 1959 ثم موقعة خليج الخنازير عام 1961 ثم محاولات أخرى لقلب نظام حكم كاسترو بترتيب وتمويل أمريكا، وصولا الى الأزمة عام 1962. وفي أزمة أوكرانيا، قدمت أمريكا عام 2014 دعمها لحركة الشارع التي أطاحت برجل روسيا، الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش. وردت روسيا بضم جزيرة القرم ودعم الحركات الإنفصالية في شرق أوكرانيا في دونتسك ولوهانسك. وتطورت العلاقات الأوكرانية الغربية، وظهرت شواهد قرب انضمام أوكرانيا للإتحاد الأوربي ولحلف الناتو، فقام الرئيس الروسي في 2021 بحشد الجيش على الحدود الأوكرانية، وطلبت روسيا من أمريكا وحلف الناتو تعهدا بعدم انضمام أوكرانيا للحلف، وتم رفض طلبه، بمقولة أنهم وأوكرانيا هم من يقررون وليس روسيا أو أي طرف أخر. فتصاعدت الأزمة، واعترفت روسيا بالجمهوريتين الانفصاليتين بشرق أوكرانيا، ثم دخلت القوات الروسية أوكرانيا. وهو ما يوضح أن الأزمتين بدأتا في التصاعد بعزل رئيس موال لأحد القطبين، وإن كانت فترة التصعيد في الأزمة الكوبية استغرقت 3 سنوات وفي الأزمة الأوكرانية 8 سنوات.

10ـ السرعة والحسم في اتخاذ القرار: كان الرئيسان كنيدي وخروتشوف حاسمان وغير متباطئين في اتخاذ القرارات مما أنهى الأزمة في 13 يوما. وفي الأزمة الأوكرانية كان الرئيس بوتين واضحا وحاسما في طلباته، لكنها جاءت في ظروف ضجيج وشحن سياسي وعسكري وإعلامي، ومن ثم تباينت ردود الأفعال بشأنها، وتم التعامل معها بشكل عدائي وليس عقلانيا. ومن ثم  وعلى العكس كانت قيادات الدول الغربية وحلف الناتو، مما ساهم في تفاقم الأزمة وانفجارها.

11ـ استخدام وتوظيف عامل الوقت: في الأزمة الكوبية تم استغلال عامل الوقت بكفاءة منقطعة النظير من كلا الجانبين. وهو عكس ما تم في الأزمة الأوكرانية.

12ـ الرغبة المشتركة في الوصول الى حل: كانت هناك رغبة أمريكية في الوصول الى حل سلمي في الأزمة الكوبية، ورفض الرئيس الأمريكي جميع الضغوط والمقترحات بشن غارات جوية لتحطيم قواعد الصواريخ. وما لبث الاتحاد السوفيتي أن تخلى عن مقاومته لإزالة قواعد الصواريخ والطائرات القاذفة، وتم حل الأزمة مقابل مكاسب في نقاط أخرى. بينما في الأزمة الأوكرانية نجد تمسك كل طرف بمواقفه، مع وجود أجندات أخرى للأطراف تساهم في تعقيد الحل. وأيضا وجود أطراف  ومصالح متداخلة لا تهيء أرضية للحل. 

13ـ موقف الدول من الأزمة:  كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي ووجود حلفا الناتو ووارسو وحركات التحرر من الاستعمار وتيار عدم الانحياز هي السائدة أيام الأزمة الكوبية. وقد تضامنت منظمة الدول الأمريكية مع الولايات المتحدة، وقدمت دعما حربيا محدودا لعملية الحجر البحري حول كوبا، كما استعدت دول حلف الناتو لاحتمال قيام الاتحاد السوفيتي بالرد العسكري في أوربا إذا ما هاجمته أمريكا في كوبا. أما في الأزمة الأوكرانية فقد كانت لغة المصالح الاقتصادية والهيمنة الأمريكية وسلاح المعونة والخوف من العقوبات  والمعاناة من الأزمات والمشاكل الداخلية والخوف من التهديدات وتسخين النزاعات الداخلية والتهديدات الإقليمية والتحديات السياسية والإقتصادية هي السائدة بين الدول الخارجة عن الصراع المباشر. ووقفت امريكا والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوربي وحلف الناتو واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ضد روسيا. 

14ـ الخط الساخن: بعد النجاح في حل الأزمة الكوبية سلميا في أكتوبر 1962 وبعد توقيع معاهدة حظر التجارب النووية في 5 أغسطس 1963، أصدر البيت الأبيض في 30 أغسطس 1963 بيانًا مفاده أن خطا ساخنا بين واشنطن وموسكو تم تدشينه، لأجل  تقليل مخاطر الحرب التي تحدث عن طريق الصدفة أو سوء التقدير، وذلك بدلًا من الاعتماد على الرسائل المشفرة التي تستغرق وقتا. وأن الخط لن يستخدم الا في حالات الطوارىء على مدى 24 ساعة 7 أيام في الأسبوع. وفي الأزمة الأوكرانية تم إضافة خط ساخن بين الجيشين الأمريكي والروسي، لضمان عدم حدوث خطأ عشوائي غير مقصود.

15ـ حافة الهاوية: كان الرئيس كنيدي واضحا وحاسما وصريحا في رسالته الى الاتحاد السوفيتي والعالم، بأن الولايات المتحدة لن تسمح بوجود الصواريخ في كوبا. وقد وصلت الرسالة "دفعة واحدة دون تشويش أو زيادة أو نقصان" والتقطتها وفسرتها القيادة السوفيتية بشكل صحيح وتم حل الأزمة. وفي رأيي ـ المخالف للرأي السائد بين جميع السادة الخبراء ـ أنه بفرض قيام أمريكا بضرب قواعد الصواريخ في كوبا، لم يكن ذلك ليشعل حربا نووية. لأن الاتحاد السوفيتي سيؤمن أنه المخطىء وأنه كذب على أمريكا وأعلن أنه لم يرسل أية صواريخ ولم يبن أية قواعد، وأعاد جروميكو وزير الخارجية السوفيتي تأكيد النفي عندما التقى مع الرئيس كنيدي. كما أن الانتقال بصواريخ نووية من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، هو بمثابة إعلان حرب، ومن المنطقي ان ترد الولايات المتحدة. كما أن ضرب كوبا بفرض حدوثه، لن يمس الكتلة السوفيتية ولا بلاد حلف وارسو، وأضراره ستكون محدوده الأثر. أضف الى ذلك أن الطموحات الأمريكية والطموحات السوفيتية كانت في أوجها، أمريكا تريد وضع إنسان فوق القمر ونشر مبادئ العالم الحر. والقيادة السوفيتية مؤمنة بالمد الشيوعي واندحار الاستعمار. وبالتالي لم يكن لأي منهما التفريط في تلك الطموحات، لمجرد معركة محدودة على أرض جزيرة ضئيلة. أما رسالة بوتين الى الغرب فلم تصل "صافية مباشرة" فقد صاحبها لغط وتشويش إعلامي وسياسي من الغرب، كما صدرت وسط مخططات معدة مسبقا من الغرب ضد روسيا ومن روسيا ضد الغرب، وبالتالي كان للغرب موقفا مسبقا من رسائل بوتين. 

16ـ الأمم المتحدة ومجلس الأمن: كان للأمين العام للأمم المتحدة أوثانت وللجان الأمم المتحدة دورا في الاشراف على تنفيذ إتفاق تفكيك الصواريخ في كوبا وترحيل الطائرات القاذفة الروسية على ظهر سفن الشحن وكذا في تفكيك الصواريخ الأمريكية في تركيا عام 1963. أما في الأزمة الأوكرانية فيمكن القول باختصار أن تأثيرات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، اقتصر  دورهما على كونهما منابر خطابية لتبادل الإتهامات أو ساحات تصويت غير فعالة.

17ـ صاحب الرأي النهائي: كان جون كنيدي وخروتشوف هما اللاعبان الرئيسان في الأزمة الكوبية. وكان بوتين وبايدن هما اللاعبان الرئيسان في الأزمة الأوكرانية، يشاركهما بدرجة أقل ماكرون وجونسون وهيئة مكتب الاتحاد الأوربي وحلف شمال الأطلنطي وزيلنسكي ورؤساء كندا واليابان واستراليا. 

18ـ القيادات: في الأزمة الكوبية كان جون كينيدي ونائبه ليندون جونسون ووزير الخارجية دين راسك ووزير الدفاع روبرت مكنامارا ووزير العدل روبرت كنيدي. وفي الجانب السوفيتي رئيس الدولة/ رئيس الوزراء خروتشوف، ورئيس  مجلس السوفيت الأعلى بريجينيف، وزير الخارجية جروميكو والمرشال بطل الاتحاد السوفيتي وزير الدفاع مالينوفيسكي. وكلهم من الخبرات الثقيلة. وفي الأزمة الأوكرانية معروف من هي القيادات. ونترك للقارئ التقدير والمقارنة.

19ـ الحرب الإقتصادية: قبل الأزمة شن أيزنهاور حربا إقتصادية على كوبا، وقام كاسترو بتأميم الممتلكات والشركات الأمريكية. وتم قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1961، حتى تم إعادتها على يد أوباما وراؤول كاسترو عام 2014!!. وفي الأزمة الأوكرانية تفتقت أذهان الغرب عن كل صنوف العقوبات كبيرة وصغيرة، معتادة وغير معتادة.

20ـ إسالة الدماء: في الأزمة الكوبية تم إسقاط طائرة تجسس أمريكية فوق كوبا يوم 27 أكتوبر وقُتل الطيار، ورفض كنيدي الرد [رغم ضغوط فريق معاونيه المدنيين والعسكريين]، واعتبر اسقاط الطائرة خطأ غير مقصود، وتم حل الأزمة سلميا في اليوم التالي!! وفي الأزمة الأوكرانية لا زلنا في البدايات، وملايين اللاجئين والمشردين وآلاف القتلى والجرحى ومليارات الخسائر المادية، و"الأسوأ قادم"  كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون.

ومما تقدم نجد أن جون كنيدي ونيكيتا خروتشوف من جانب، تفوقا على بوتين وبايدن وقادة أوربا في الجانب الأخر. وأن بوتين تفوق على بايدن وتابعيه دون انتظار لنهاية الرواية الدرامية. حيث شئنا أم أبينا، فقد انهدمت مخططات الغرب في أوكرانيا لتفكيك روسيا، وهو مخطط أنفق فيه الكثير من الجهد والوقت والمال، وما البحوث البيولوجية إلا مثال بسيط. كما أن اللواء الذي يحمله الغرب دفاعا عن قيم الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، قد سقط سقوطا ذريعا في أعين أبناء العالم الثالث في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بعد أن ظهر أن الغرب يعطي قيمة كبرى للدماء والأرواح الأوكرانية الأوربية، ولا يقيم وزنا ولا يعطي أدنى قيمة للدماء والأرواح من الشعوب الأخرى.

ورغم مرور 62 عاما على الأزمة الكوبية، فلازالت الدروس ماثلة. كما أحب هنا أن أشير ألى أن علماء وجهابذة علوم وفنون التفاوض في جامعات هارفارد و MIT وستانفورد لم يتفقوا على من فاز في أزمة الصواريخ الكوبية. بعضهم قال أمريكا والبعض قال روسيا والبعض قال كلاهما، وبعضهم قال نظام كاسترو، والذي ظل يحكم 50 عاما عاصر معها 10 رؤساء أمريكيين!!، امتنع 8 منهم، عن اتخاذ أو اعتماد أي خطط لإسقاطه، إلتزاما بما تم الاتفاق عليه بين كنيدي وخروتشوف، حتى ترك فيدل كاسترو الحكم طواعية لمرضه [وبالمناسبة لفظ "فيدل" ليس إسما له، لكن كلمة معناها "القائد"] ومن سخريات القدر أن لعنة النجاح الساحق في حل الأزمة الكوبية سلميا في أقصر فترة زمنية ممكنة وبخسائر لا تذكر، قد حلت على بطليها [جون كنيدي تم اغتياله في يوم الجمعة 22 نوفمبر 1963. ونيكيتا خروتشوف، تم استجوابه ومواجهته في مؤتمر حزبي حاشد، إنتهى بتنحيته عن جميع مناصبه في يوم الأربعاء 14 أكتوبر 1964 ]