البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

يسري عبدالله: "نصف كيلو عدس أصفر" قصص تنتخب لحظات هامشية من عمر الزمن

جانب من الندوة
جانب من الندوة

قال الناقد الأدبي الدكتور يسري عبدالله، إنه بعد ست روايات تدور في فضاءات متعددة، وهي: "قف على قبري شويّا"، "السما والعمى"، "فؤاد فؤاد"، "أمنا الغولة"، "بار أم الخير"، "صخرة بيتهوفن"، تأتي المجموعة القصصية الجديدة للكاتب محمد داود بعنوان: "نصف كيلو عدس أصفر" الصادرة عن دار ميريت للنشر.

وأشار إلى أنها قصص تنتخب لحظات هامشية من عمر الزمن، لتصحبنا إلى عوالم يتجادل فيها الصخب مع السكون، تتنوع صيغها السردية عبر أشكال مختلفة للقص، كما تتقاطع بنياتها الأساسية لتشكل جدارية عن أولئك العابرين الذين تلتقطهم عين السارد المتأمل بوعي، ومحبة، وشغف، ومساءلة واصلة بين الذات والعالم في قصص تشف وتقول في آن.

وتابع: "صراع الإقدام الإحجام"، ثماني عشرة قصة تشكل المتن السردي لمجموعة "نصف كيلو عدس أصفر"، المستمد عنوانها من عنوان إحدى قصصها المركزية التي يهديها الكاتب إلى الولد في قصة "الحاوي سرق الطبق" للروائي العالمي نجيب محفوظ، فثمة إحالة إلى نص محفوظ الماثل في مجموعته الشهيرة "تحت المظلة" بأجوائها العبثية المغايرة، فالولد الذي يذهب إلى شراء الفول يضيع منه الطبق حين يتفرج على الحاوي بألاعيبه السحرية.

وواصل عبدالله، أن قصة محفوظ مثّلت استجابة جمالية لتحولات الوعي الإنساني عبر رحلة الولد القصيرة لشراء الفول، بناءً على طلب الأم التي تمثل فكرة الأرض - الرحم والوعي الفطري الذي يتخذ في وضعية الحاوي نمطاً غرائبياً أسطورياً، وخرافياً.

وتابع عبدالله: “ينحو في مشهد قتل الرجل للمرأة بعد ممارسة الجنس في الخرابة منحى فرويدياً، ثم تساؤلاً وجودياً عن معاني الفقد والضياع، لكن هذه الإحالة ليست كل شيء في نص محمد داود الذي يسلك طريقاً مختلفاً، ابناً لنمط الحكاية الصرف المحملة بمدلولات نفسية بالأساس، تشير إلى علاقة الابن بالسلطة الهيراركية التي تمثلها الجدة، والتي احتار في طريقه للبائع هل طلبت منه شراء نصف كيلو عدس أصفر؟ أم نصف كيلو عسل أسود؟ وبات خوفه منها أكثر من خوفه من إعادة ما اشتراه للبائع المزمجر في غضب حين يرى تيه الولد وارتباكه، فيحيا الولد هنا صراعا نفسيا يسمى بصراع الإقدام/ الإحجام، يبدو مترددا خائفا باستمرار منفذا الكلام الحرفي للجدة بعدم إخراج يده التي تقبض على النقود في جيبه أبداً”.

وواصل عبدالله، أن الكاتب يوظف تكنيك الصورة القصصية في مشهده الختامي، وتتضافر الصورة البيانية مع الحوار الدرامي مع المشهدية البصرية، بحيث يمكنك تخيل المشهد تخيلاً بصرياً ضافياً، والتماس مع المشاعر الداخلية لشخوصه أيضاً: "تراجعت الجدة وقعدت على كنبة قريبة، في إحدى يديها قرطاس العدس، والدوق مائلا في يدها الأخرى تنثال منه ببطء بقايا العسل، توقفت دموع الولد ليرى بوضوح العسل المنثال واشتهى أن يلعقه، وندم أن لم يلعقه كله في الطريق، بينما اتسعت عين الحاجة كأنها ترى شيئاً ما، ولعلها اقتنعت بالفعل بأنها قالت للولد "نصف كيلو عدس أصفر". (ص51).

وتابع عبدالله، أن الكاتب محمد داود، استهل مجموعته بقصة "جلسة عرفية" التي تتشكل من وحدتين سرديتين أساسيتين: "الأب" ، و"الابن"، وكل منهما يقدم الحكاية من وجهة نظره، ويبدو كل منهما مستلباً تجاه اللغة التي يتحدث بها ومنطقها، ويبدو الخطابان السرديان معبرين عن موقفين مختلفين من العالم، حيث الأب النهم والابن العاق، والحجج التي تساق تتبنى الوعي العام ولا تخرج عنه، وكان من الممكن أن يقسم هذا النص إلى مقطعين دون الإشارة إلى الجملة الافتتاحية في كل مقطع، "من أقوال الأب في الجلسة العرفية/ من أقوال الابن في الجلسة"، ويصير النص مقسّماً تقسيماً رقمياً.

واستطرد عبدالله، أن قصة "غسيل بريتوني" التي تبدو من التماعات المجموعة وإحدى أهم قصصها، وتأخذ نسقاً فريداً في البناء وفي الخصوصية الجمالية، هنا سنجد قلب الحكاية حاضراً ومدوناً في "دفتر أحوال القسم" الذي يتابع عليه الحكيمات فيكتبن كل شيء، ويصير الدفتر مدونة الأداء اليومي في "النوبتجية" وفي كل ما يخص واقع الحكيمات والممرضات والأطباء والمرضى.

وتبدو الحكايات الفرعية حاضرة عبر الملاحظات أو الإشارات المبثوثة في الدفتر/ النص، من قبيل علاقة الدكتور إيهاب والممرضة المهملة فاطمة، ومنطق التعمية على الخطأ الحاكم للعمل في المستشفى، هذا المنطق الذي يتجلى في حفظ الطبيب إيهاب للمذكرة بحق الحكيمات لسماحهن ببقاء الأم جوار ابنها الذي يصرخ دائماً من الألم، مقابل تنازلهن عن المذكرة بحق فاطمة الممرضة التي تهمل في أداء واجباتها وتكاد لا تفعلها؛ لأنها محظية الطبيب من طرف خفي وظاهر أيضاً.

وأوضح عبدالله، أن ثمة نزوع ساخر في "غسيل بريتوني"، وهي سخرية مضمرة، تبدو في اختفاء مجلة "الحوادث" التي تتبادلها الحكيمات داخل المستشفى للتسلية، وتثبت الحكيمة "السهرانة" حنان متولي في الدفتر ما يلي: "قلت  لهم هاتوا المجلة وأنا أعطيكم الأسطوانة، وقالوا عندهم عيان عنده ربو ومحتاج أكسجين، قلت لهم العيان الذي عندنا نَفَسه مكروش، حيث إن بطنه كبيرة بسبب انسداد الأنبوبة، وشغلت له الأكسجين، وأمه دعت لي". (ص22). تبدو "غسيل بريتوني" مدونة للمستشفى والحياة والعبث القائم بينهما.

أما في "أم عفاف" يتحقق معنى الاستلاب عبر ما يسمى بالاستيلاء على المعنى. فالخطاب الوحيد في القصة يهيمن عليه السائق الثرثار على الرغم من وجود "أم عفاف" - أصل المشكلة - إلى جواره وجوار الطبيب. ويبدو السائق متحدثاً نيابة عن الجميع "يغني ويرد على نفسه"، يثرثر ويزيف ويجعل من نفسه ملاكاً لم يمنحه والد عفاف مهمة إنقاذ ابنته حين جعلها تركب سيارة "رضا الأعرج".

بينما هو يمسح دموع أم عفاف ويجعل من توصيله لها دون غيره منعاً لها من إلقاء نفسها من السيارة وهي تجري مسرعة لأن "أكرة" الباب مخلوعة!

وتستمر ترهات السائق حتى المشهد الختامي الذي يتنصل فيه من أم عفاف التي قابلت إحسانه ومعروفه بمحاولة القفز من سيارته لتأتي له بمصيبة، فإن التدفق الحكائي هنا آلية أصيلة في السرد ومتوائمة مع وعي الشخصية القصصية داخله