البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

أسطورة «العمة نور»


حظى أدب الريف أو ما صار يعرف بـ"سردية القرية"؛ باهتمام بالغ من الأدباء والكتاب، وصدرت عشرات الروايات والمجموعات القصصية التي تناولت عوالمه وسبرت أغواره وكشفت أسراره، وفي نفس الطريق سارت رواية "ثلاثية العمة نور"، للكاتب تامر أفندي، التي صدرت عن دار المجاز للنشر والتوزيع، وتناولت حكاية سيدة نجحت في أن تزيح عرش رجال القرية جانبا وتصنع أسطورة خاصة بها بعد سنوات قضتها "نور" في "ظلام" الاستكانة والاستسلام لصدمات متتالية عبر حياتها الطويلة إلى أن واتتها فرصة تاريخية للقبض على زمام الأمور بيديها فأجادت استثمار اللحظة وقبضت عليها بيد من حديد إلى أن سقطت مغشيا عليها في آخر حياتها كالطود الشامخ.
عبر سبعة فصول تمثل المتن الروائي؛ جاءت الرواية، التي بدأت بلحظة فارقة في حياة الابن ياسين، وهي مشهد قبض والدته "العمة نور"، وانتهت بمشهد احتضارها وكواليس الوفاة، وما بين المشهدين الدراميين، دارت أحداث الرواية القصيرة أو الـ"نوفيلا"، في ٧١ صفحة، وهي أحداث كثيرة ومتشابكة ومكثفة رغم عدد الصفحات القليل، وقد كان من الأجدر بالكاتب أن يضم الجزأين التاليين من الثلاثية إلى الجزء الأول ليصدر الثلاثة في رواية واحدة، خاصة أن الرواية تتناول سيرة حياة البطلة المركزية في الرواية "نور"، من خلال ثلاث زوايا رؤية مختلفة وهم أبناؤها الثلاثة، كما كان من الأجدر أن يختار عنوانا مختلفا عن "العمة نور"، نظرا لوجود مسلسل درامي بنفس العنوان بطولة الفنانة نبيلة عبيد وهو ما يحيل القاريء بشكل لا إرادي للمسلسل وما جاء به من أحداث وهو يختلف بشكل كلي عن مسار الرواية نظرا لأنه يتناول قصة الأستاذة الجامعية نور التي عادت لمصر بعد أن عاشت لمدة عشرين عامًا في أمريكا، لتفاجأ بكم هائل من التغيرات الاجتماعية في الحياة المصرية.
استخدم الكاتب تامر أفندي تقنية الفلاش باك، ليستعرض حكاية "العمة نور" على لسان ابنها ياسين، الذي حبس نفسه عشر سنوات كاملة، في غرفة والدته فور وفاتها، لا يكلم أحدا ولا يخرج من عزلته، فقط يغير ثيابه ويقتات على الطعام إلى أن شب أبناؤه عن الطوق وتبدلت الأحوال وفقد الأمل في عودته والدته، فطلب من ابنه الأكبر أوراقا وأقلاما ليبدأ في تدوين سيرة "العمة نور".
بدأ الابن تدوينه لسيرة والدته من لحظة درامية "قلقة" ذات دلالة، وهي عام ١٩٣٤، وهو العام الذي بدأ فيه بث الإذاعة الحكومية في مصر؛ حيث غردت الإذاعة المصرية بعبارة "هنا القاهرة"؛ لتشتبك مع الحاضر، بما تمثله الوسائط التكنولوجية الحديثة من ارتباك للجمهور والمستخدمين، أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي و"الميتافيرس" وغيرها، فقد كان ظهور الراديو بالنسبة للريف المصري بمثابة ثورة صناعية عظيمة، نجح الكاتب في أن يبرز تجليات "توتر" هذه اللحظة على المجتمع المنغلق المحافظ الذي فوجيء بزلزال يضرب أركان الكيان المستقر، فقد دفع ناظر المدرسة "والد نور" حياته ثمن التفاف أهل القرية حول المذياع؛ هذا الساحر الذي أنسى أهالي القرية تقاليدهم وأعرافهم وملئوا القرية بصياحهم على أغاني أم كلثوم ونسوا أن هناك متوف في القرية منذ أسبوعين، وهو أمر يعتبره أهل الريف شماتة في الموت مما دفع شقيق المتوفي إلى أن يتربص بوالد نور في إحدى جولاه بالدراجة ويضربه على رأسه بالعصا ليسقط صريعا، ثم تتوالى فصول  مأساة "نور" مع الحياة حيث يتوفى زوجها فايز أفندي وتعود لإغلاق الراديو مرة أخرى بعد سنوات من مصالحة الحياة لها.
بعد عودة "نور" إلى القرية عقب مضايقات أبناء شقيق زوجها، تستمر مضايقات رجال ونساء القرية لها أيضا، فالكل يغار منها والكل يطمع فيها، والكل يأكل حقوقها والكل يراها لقمة سائغة، إلى أن تنجح في قتل الذئب المفترس الذي يرعب فطاحل القرية ودجاليها؛ بطلقة من بندقية والدها التي ورثتها عنه؛ لم تكن تعلم أن هذه الطلقة سوف تكون نقطة فاصلة ليس في حياتها فقط وإنما في حياة القرية بأكملها، القرية التي ترمز للكون الذي نعيشه؛ طلقة واحدة في المسار الصحيح كانت كفيلة بأن تكفل لها الخلود، وتتحول من تلك المرأة التعيسة إلى أسطورة من لحم ودم، أسطورة تتحرك بين الناس تضع قدمها على جيفة الذئب وقدما أخرى على رأس التقاليد البالية والظلم الذي حول حياتها إلى لجة من الظلمات.
تقوم الرواية على مجموعة من الوحدات السردية معتمدة بشكل مركزي على شخصية "نور" والتي تتناص مع كثير من الأساطير الراسخة للشخصيات النسائية في تاريخ الوطن بداية من إيزيس إلى شخصية فاطمة تعلبة في الرواية الخالدة "الوتد" للكاتب الكبير الراحل خيري شلبي؛ محاولة أن تصنع شخصية درامية جديدة يمكن أن يعتبرها البعض رمزا للوطن نفسه؛ ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه؛ ماذا سيبقى من أسطورة "العمة نور" في الجزأين التاليين من الثلاثية خاصة أننا لم نكون خلفية كافية عن ابنيها الصغيرين خلال أحداث الجزء الأول في الرواية.