البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الدكتور جوهر عزمي يكتب: متى المسكين.. الراهب الذي أثرى الحياة العامة

الدكتور جوهر عزم
الدكتور جوهر عزم

وُلدت مع الأب متى المسكين، حركة تنوير واستنارة في الكنيسة، وحدثت نقلة في التعليم اللاهوتي الرصين، الذي يقوم على تقديمه الأب متى، مع كتيبة من الباحثين المتميزين، والمؤهلين علميًا وأكاديميًا، وغالبيتهم من الرهبان تلاميذته، يكفي أن تقرأ مقدمة أيٍ من مجلداته، وستجد قائمة طويلة من المعاونين والمساهمين، من الباحثين والمتخصصين في مجالات مختلفة، الأمر الذي لم يسهم فقط في خروج عشرات المجلدات اللاهوتية، وكتب التفسير والوعظ، إلى النور، بل ساعد أيضًا في إعداد وتأهيل وتدريب عشرات الباحثين على عملية البحث والدراسة والكتابة.
اقترب المسكين من الكتاب المقدس، بعقلية الباحث الأكاديمي المدقق، وقلب العابد المتصوف التقي، لذلك لم ينحرف في تعاليمه أو تفسيراته، لا عن الحق الكتابي، ولا عن إرثه الروحي.
وعندما اقترب من كتابات وأقوال الآباء، لم يقترب بعقلية شعبوية، بانتقاء القصص والحكايات التي تدغدغ مشاعر البسطاء، وتبعدهم عن التفكير العقلاني أو التفسير الرصين لكلمة الله، بل اقترب إلى أقوال وكتابات الآباء، وما تركوه من تراث وإرث روحي في الأقوال والسلوك، اقتراب التلميذ النابه، والباحث المدقق، والناقد الموضوعي، لذلك أعطى هذا التراث بعدًا عميقًا، وزاده لمعانًا وبريقًا، في عيون الشعب المتطلع إلى المعرفة والاستنارة والحياة الممتلئة.
لم يترك الأب متى المسكين، نفسه للانزلاق في صراعات، من أي نوع، قد تبعده عن تقوى الرهبنة، وتستنزف طاقته بعيدًا عن مشروعه التنويري.
فقد آمن إيمانًا شديدًا بضرورة خدمة العلمانيين (من غير الإكليروس أو رجال الدين)، حتى أنه أسس في بداية رهبنته بيتًا للمكرسين، لتدريب وتأهيل الشباب الراغب في التفرغ للخدمة دون الرهبنة.
ومع تحفظي حول هذا المشروع، إلا أن الدافع والهدف من ورائها كان متفقًا عليه، وهو إفساح المجال للعلمانيين المتشوقين للخدمة، وإعطاؤهم مساحة كافية لذلك، بدلًا من هيمنة رجال الدين على خدمات الكنيسة، التى بالتأكيد تفوق إمكاناتهم وقدراتهم ومواهبهم.
اقترب الأب متى المسكين، بحرص وذكاء وحكمة، إلى دائرة العلاقة بين الدين والسياسة، أو رجل الدين والدولة، سواء كان هذا في كتاباته، ورؤيته اللاهوتية لطبيعة هذه العلاقة، أو في حياته الشخصية، وعلاقته بالسلطة، وهذا الأمر يحتاج إلى مقال خاص.
أما في علاقة الراهب المسكين بالمجتمع؛ فقد أسس الأب متى، عملًا تنمويًا لا مثيل له، ليس في مصر فقط، بل في الشرق الأوسط، وبالذات في مجال الزراعة والثروة الحيوانية.
باختصار وإجمالًا؛ أسس الأب متى المسكين، مدرسة فكرية ولاهوتية فريدة وعميقة، وصنع حركة وتوجهًا وتغييرًا، وأثرى المكتبة العربية بعشرات الكتب عالية القيمة، أغلبها مراجع أكاديمية، ونجح في أن يصنع تلاميذ ومفكرين، وأن يغير من الوظيفة التقليدية الضيقة للأديرة، ويخلق من "الدير" مؤسسة فكرية وتنموية، مع الحفاظ على الطابع النسكي.
كل هذا وأكثر منه، صنعه الأب متى المسكين، دون أن يحصل على لقب أو درجة كهنوتية أو علمية أعلى من "القمص"، ودون أن يسكن أو يتجول خارج أسوار الدير، أو خارج قلايته، فأسوار الدير لم تحجز نوره وتأثيره وعلمه وتقواه عن ربوع بلادنا، بل قل عن الكثير من بلدان العالم.
العالِم والراهب الأب متى المسكين نموذج للشخص المؤثر، والذي بمقدوره أن يصنع تغييرًا وفرقًا، حتى لو سكن وراء الأسوار في "قلاية"، وبعيدًا عن الأضواء.
وسيبقى متى المسكين، رائدًا للتنوير، ليس فقط داخل الكنيسة الأرثوذكسية، بل للكنيسة العامة في مصر والشرق الأوسط، فهو يعد من أهم اللاهوتيين في القرن العشرين.