الطريق إلى 30 يونيو.. كيف أسهمت "الجماعة" في تهديد الهوية الوطنية المصرية؟
تجاوزت مصر خطوات كثيرة باتجاه مستقبلها، بعدما أنقذها الشعب والجيش من نفقها المظلم الذي دخلته مع حكم الجماعة المتطرفة، فلم يستطع الشعب الصبر على حكمها لأكثر من عام واحد، حتى خرج إلى الشوارع منددا ببقاء رئيس الجماعة، ولم يهدأ حتى حقق مطلبه بعزلها، لتعود إلى مصر روحها ووهجها التاريخي.
ويشهد الكل الآن لمصر التي حققت ذاتها واستعادت شخصيتها، بدأ ذلك بقوة بعد ثورة الثلاثين من يونيو ضد جماعة سعت منذ نشأتها لتدمير الهوية الوطنية، وهو ما وجدته مناسبًا ومتاحًا بعد وصولها للحكم في العام 2012 لكن المفاجأة أدهشتهم وأسقطتهم لحظة ثورة الشعب عليهم، وتفويض الجيش والقيادة الجديدة بالوقوف أمام مطامع المتطرفين.
تعود أصول النظرة المشينة لفكرة "الهوية الوطنية" لحسن البنا، مؤسس الجماعة المتطرفة، الذي بث في أتباعه من أعضاء الجماعة، أن تحديد الهوية الوطنية بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية فكرة ضيقة وغير عملية. والمدهش أن تكون مراعاة الحدود الجغرافية للوطن أمر غير عملي بينما تكون مراعاة كل بقعة أرض فيها مسلم هي الفكرة العملية، بما يعني أن تحديد وجه الوطن يكون من خلال عقيدته فقط.
من هذا المنطق يمكن للمصري المسلم أن يتألم لأن المسلم الأفغاني يتألم بينما لا يهتز له جفن إذا كان المصري المسيحي الذي يجاوره ويشاركه الوطن يتألم، وهكذا سعت الجماعة في توسيع الفجوة بينها وبين الدولة الوطنية الحديثة التي تؤمن بالمساواة ورفعة الوطن والمشاركة بين جميع أبناءه دون فرق بين دين أو عرق أو جنس.
من هنا أيضا سمحت الجماعة أن تكشف عن العديد من الأسرار التي تخص الدولة المصرية لدول أخرى لديها مصالح تتعارض مع المصلحة المصرية، وحجتهم أن هذه الدول تحكمها تنظيمات إسلامية حليفة لها تدعمها بشكل مستمر.
يمثل حلم الجماعات المتطرفة بالوصول إلى تكوين حكومات دينية قنبلة موقوتة تنفجر بمجرد وصولها للسلطة، فعندما وصلت جماعة الإخوان للسلطة كانت تعزز الانشقاق والفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وعملت على هدم المؤسسات عندما بادر أعضاء الجماعة ومناصروها بمحاصرة دار القضاء، والتهديد باقتحام مدينة الإنتاج الإعلامي، واستضافة شخصيات متورطة في أعمال قتل وإرهاب في احتفالات انتصار أكتوبر.
إلى جانب العمل على أخونة الدولة بدس شخصيات لها في المؤسسات الحكومية وفي مؤسسة الرئاسة، كما سعت لتوطيد علاقتها مع أنظمة يحكمها تيار الإسلام السياسي مثل الشيعة في إيران والسماح لرئيسها بزيارة مصر ولقاء قيادات الجماعة رغم ما تقوم به إيران من تأجيج الأوضاع في الخليج والتأثير على الأمن القومي العربي، كما تعاونت مع تركيا التي تستضيف جميع القيادات الإخوانية الهاربة حاليا، حيث تقوم تركيا برعاية تنظيم الإخوان في جميع البلاد لتسهيل السيطرة عليها وسرعة التمدد فيها وتغليب مصلحتها التوسعية.
حرص الرئيس الإخواني آنذاك على استضافة عدد من الشخصيات المتطرفة داخل القصر الرئاسي، وتحويل اجتماعات الرئاسة لجزء من اجتماعات مكتب الإرشاد، كما دعَّم رئيس الجماعة موقفه وسط جماعات الإرهاب الصديقة لجماعته بأن أصدر عفوا رئاسيًا عن المتورطين في أعمال العنف والقتل.
وفي قمة أوج دعم الجماعات المتطرفة، لم يكفيه أن أصدر عفوا رئاسيًا عن المتورطين في العنف، بل نظم بحضور حشد من مناصريه احتفالية بإستاد القاهرة لدعم التنظيمات الإرهابية على مختلف مسمياتها والتي تعمل بنشاط في تخريب الدولة السورية تحت مسمى "الثورة السورية".
إبان وصولهم للحكم وقبل ذلك أيضا دائما ما كانت تردد التيارات التكفيرية أنها قامت بمراجعات فكرية شملت استخدام العنف واعترفت أنه ليس حلا في محاولة منها لاستغلال فرصة الديمقراطية والصندوق وحشد انصارها للوصول إلى جميع المراكز الحساسة في الدولة، لكنها وبعد ثورة الشعب عليهم وعزلهم من مناصبهم رفعوا السلاح مرة أخرى في وجه الدولة ما يؤكد الخديعة التي مارسوها لفترات طويلة لإقناع البعض أنهم تخلوا عن الفكر المسلح.
ففي كتابه "التأسلم.. فكر مسلح" الذي صدر للمفكر والسياسي الراحل الدكتور رفعت السعيد في سوريا العام 1996 ناقش بشكل جاد ومختصر أزمة التنوير والعلمانية والليبرالية واتجاه تيارات الإسلام السياسي للصدام والعنف المسلح، مفندًا وسط كل هذا أفكارهم الضاغطة تجاه ارتكاب العديد من الجرائم الإرهابية.
يتطرق المفكر السياسي والخصم القوي لجماعات الإسلام السياسي إلى أبواب الفكر التي يتسرب من خلالها الفعل الإرهابي: فأولها فكرة "جماعة المسلمين" التي تقال هكذا بدلا من "جماعة من المسلمين" لأنها تعني كما يقولون "أنهم أهل الحل والعقد في الإسلام وأن من ولاهم فقد والى صحيح الدين ومن خالفهم خالفه ومفارقهم مفارق الإسلام".. ومن هنا اعتبر أن كل من لم ينضم إلى جماعته كافرا والعنف يأتي بعد ذلك سهلا بالاستناد، في خطأ فادح، على الحديث الشريف "ومن خرج على الجماعة فاضربوه بحد السيف".
ثانيها، التفسير النصي للقرآن والحديث: البعض وخاصة الخوارج فسروا القرآن تفسيرا نصيًا، ولم يعتمدوا على دراسة أسباب التنزيل والوقائع المرتبطة به، فأدى ذلك بهم إلى أفعال مشينة، فلما عرضت عليهم الآية الكريمة التي تقول على لسان نوح عليه السلام "وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا" أفتوا بقتل أطفال خصومهم حتى لا يشبوا كافرين ويلدوا كفارًا. وتبعهم في العصر الحديث حسن البنا بجماعته من الإخوان، وشكري مصطفى من "التكفير والهجرة" وغيرهما من باقي التنظيمات.
ثالثها، الخلط المتعمد بين الدين والفكر الديني: حيث يوضح "السعيد" أن الدين إلهي مطلق الصحة والفكر الديني إنساني نسبي الصحة، والخلط بينهما يضفي على الرأي مسحة مطلقة وتجعل صاحبه متحصنًا بادعاء أنه صحيح الإسلام وإن مخالفه مخالف للإسلام. ورابعها، تسييس الدين وتديين السياسة: حيث يقول: "ألم تر كيف أكد حسن البنا أن منهاجهم كلها من الإسلام، كل نقص منها نقص من الفكرة الإسلامية ذاتها".
خامسها، رفع شعار "الخلافة والحكومة الدينية": حيث يبين أن الدعوة للحكومة الدينية هي محاولة للاستقواء بالدين في إدارة شئون الحكم أو في مواجهة معارضي الحاكم، والدعوة التي يطرحها دعاة تسييس الدين تستهدف أن يفرضوا إراداتهم على البشر دونما رادع، منهم حسن البنا الذي يقول "الخليفة هو الإمام الذي هو واسطة العقد ومجمع الشمل ومهوى الأفئدة وظل الله في الأرض. أما عمر عبدالرحمن فيقول "الخليفة في الإسلام مهمته وراثة النبوة".. لينتهي "السعيد" إلى القول بـ"إنهم لا يفتعلون فكرة الحكومة الدينية وإنما يستعدون لحكمنا بقبضة حادة مدعين أنهم "ظل الله على الأرض" أو "وارثي النبوة".