البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

معهد النقد الفني.. رسالة عِلّم ومحبّة


قبل عامين من الآن، كتبت مقالًا على صفحات جريدة "البوابة"، بعنوان "المعهد العالي للنقد الفني.. لماذا؟"، وكان المقال بعد أيام من قبولي للدراسة بدبلوم الدراسات العليا بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، كنت مبهورًا حينها بتنوع وثراء الفنون المقرر دراستها، قلت حينها أن الأيام ستثبت إن كان الاختيار موفقًا وعلى صواب.
بعد أيام من بدء الدراسة التي كنت أظنها "تحصيل حاصل" تغيرت أفكاري تغيرًا جذريًا، يتناسب وطبيعة الدراسة الجادة التي لا تعرف التكاسل أو الهزل، فإن تغيبت عن محاضرة واحدة، ستجد نفسك في المحاضرة المُقبلة أمام مأزق كبير، فالمادة العلمية دسمة والمراجع كثيرة، والمصادر متنوعة والفصل الدراسي قصير، وجدتني مع كل محاضرة وفي نهاية كل يوم دراسي أعود إلى بيتي محملًا بالكثير من الأفكار والمعلومات والكتب التي تحتاج إلى قراءة ومراجعة وتأمّل، إضافة إلى الإرهاق الذهني والبدني جراء الجمع بين العمل بمهنة البحث عن المتاعب صباحًا، والدراسات العليا التي لا تحب أن يُشاركها في طلابها أحد مساءً، ومن هنا كان التحدي وكانت البداية مع أساتذتي من كل الأقسام الذين حملوا على عاتقهم مسئولية وصول المعلومة للدارس بكل الطرق والأساليب والوسائل الممكنة والمتاحة.
كان كل أستاذ من أساتذتنا حريصًا على مواعيد محاضرته بالدقيقة، بل إن أغلبهم كان يسعى طوال الأيام للحصول على وقت إضافي لشرح المزيد من المناهج أو النظريات النقدية، أو شرح أجزاء إضافية في المُقرر التي لن يسمح وقت الفصل الدراسي بشرحها كاملة وكأن رسالة كل منهم ليست علمية وحسب؛ وإنما رسالة محبة يجود من خلالها بأفضل ما لديه ليكون بين يدي الدارس.
كانت متعة الدراسة في التطبيقات العملية التي كانت تُصاحب جميع المقررات الدراسية في السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون والقصة والرواية والباليه والموسيقى، حيث يكون الدارس مُطالب بمشاهدة فيلم سينمائي أو عرض مسرحي أو عرض باليه أو حفلة موسيقية أو قراءة قصة أو رواية أو مشاهدة برنامج تلفزيوني أو إذاعي ومن ثم الكتابة عنه وفق ما تم شرحه من مناهج نقدية، وفي المحاضرة التالية نجني جميعًا الثمار، حيث التفاعل الخلاّق بين الزملاء وأستاذ المادة، فكل واحد منّا كان يُقدم رؤيته تجاه العمل الفني، وأستاذ المادة يستمع منتبها، ويصوب معلومة هنا، ويصحح مصطلح هناك، ويلفت الإنتباه إلى ملاحظة ما، أو يُذكّر بمعلومة سابقة سقطت من أحدنا سهوًا، وكانت هذه المحاضرات من أروع ما مررنا به خلال العامين الدراسيين، حيث تعلّمنا بشكل عملّي تبادل الآراء والأفكار ووجهات النظر والاستماع دون مقاطعة، والتفكير المتعمق والبحث في التفاصيل، وتحليل الهامش الذي لا يقل أهمية في بعض الأحيان عن المتن.
نعم.. بعد قضاء عامين دراسيين وبعد الحصول على دبلوم الدراسات العليا بتقدير عام جيد جدًا، بترتيب الثاني على الدفعة، استطيع أن أقول بثقة كبيرة أن المعهد العالي للنقد الفني لم يكن الاختيار الصحيح وحسب، وإنما كان الاختيار الأمثل بالنسبة لي، فكما حظيت بالعلم على أيدي أساتذة أفاضل وعلماء أجلّاء، حظيت أيضًا بأخوة لن يجود الزمان بمثلهم، فكل واحد من أصدقائي وزملاء دفعتي كان إضافة كبيرة تعلمت منه الكثير، وأدين لهم جميعًا أساتذة وزملاء بالفضل الكبير. كل ما سبق كان يتكامل مع دور إدارة المعهد التي أكدت بشكل عملي على سياسة الأبواب المفتوحة، فالجميع في المعهد سواء طلبة وأساتذة تسود علاقاتهم وتعاملاتهم المودة والاحترام المتبادل، ولن أنسى موقف إدارة المعهد المُحترم معنا في لحظات هي الأسوأ في تاريخ البشرية، وهي فترة تفشي فيروس كورونا في أنحاء العالم، ما تسبب بتعليق كافة مظاهر الحياة، وفي مقدمتها الدراسة، كان تواصلهم معنا مستمرًا مطمئنًا ومذللًا جميع العقبات بقدر ما هو متاح لهم.
هذه ليست شهادة تجاه المعهد وأساتذته الأفاضل فهم ليسوا بحاجة لهذا، لاسيما وكل واحد منهم صاحب بصمة واضحة ومؤثرة في الحياة الثقافية والفنية بعيدًا عن دوره كأستاذ بالمعهد، وإنما مقالي هذا بمثابة حديث حدثتني به نفسي تجاه عامين دراسيين قضيتهم بين جدران المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، تعلمت خلالهم الكثير على المستوى العلمي والإنساني، رُغم ما واجهته من صعاب تغلبت عليها واجتزتها كما تغلب عليها واجتازها زملائي الأعزاء.
حقيقية مررنا بلحظات سعادة وفرح، ولحظات ضيق وحزن، ولكن الله كلل جهدنا جميعًا بالنجاح والتوفيق، ولم يتبق لنا من مشقة الدراسة والبحث؛ سوى الفرح والسعادة بالنجاح والتوفيق.