البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

«ذهب مع الريح».. جرح أمريكي لا زال ينزف

البوابة نيوز

في منتصف ستينيات القرن الماضي، شهدت الصين الشيوعية صراعاً عنيفا ودمويا على السلطة داخل الطبقة الحاكمة، عقب تدشين الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، ثورة البروليتاريا الثقافية الكبرى (الثورة الثقافية). وكان الهدف الأساسي منها هو التخلص من البرجوازيين الذين اقتحموا الحزب الشيوعي وباتوا يشكلون مصدر خطر على مؤسسه. لذا دعا "ماو" الشباب إلى الوقوف في صفه، وتم تشكيل ما عُرف لاحقا باسم "الحرس الأحمر"، وتمثلت مهمتهم في مهاجمة البيروقراطية المحلية وتنديد الأشخاص بجرائمهم علنا في الطرقات والميادين، بالإضافة إلى التخلص من كل رمز يمكن اعتباره "برجوازيا" أو "إقطاعيا"، فتم حرق المكتبات ونهبت المعابد والمتاحف التي كانت تحتوي على أعمال لا تقدر بثمن، وأبيد جزء كبير من تراث الصين الثقافي.
ربما كان هذا المدخل مناسبا لقراءة ما بين السطور فيما يخص أزمة محاكمة التراث التي تعيشها هوليوود في الوقت الراهن، عقب سحب واحد من كلاسيكيات السينما العالمية وهو فيلم "ذهب مع الريح"، من جداول عرض منصة "HBO Max" للبث الرقمي، بحجة أن العمل يكرس للعنصرية ويظهر السود بصورة غير لائقة. وذلك في خضم الاحتجاجات ضد العنصرية والعنف الممارس في حق السود من الشرطة الأمريكية، على خلفية حادث مقتل جورج فلويد في مدينة مينيابوليس الأميركية، الشهر الماضي.

بدأت القصة الأسبوع الماضي، حينما نشر كاتب السيناريو الأمريكي جون ريدلي، مقالاً في صحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، طالب فيه بضرورة وقف عرض الفيلم الذي وصفه بالعنصري، مستنداً في طرحه على تجاهل العمل لأهوال العبودية في حين أهتم بتمجيد الجنوب قبل الحرب الأهلية – الفترة التي تدور فيها أحداث الفيلم – وتكريس صورة نمطية مؤلمة للأشخاص الملونين. 
في الواقع هذا الخلاف والجدل الدائر ليس حديث العهد. ففي عام 1939، وصف الشاعر الأمريكي ميلفين ب.تولسون في مقال نشره بصحيفة "واشنطن تريبيون"، فيلم "ذهب مع الريح"، عقب عرضه الأول بالسينمات، بأنه أكثر خطورة من فيلم "ولادة أمة" لعام 1915 والذي كان عنصريًا جدًا في تصويره للسود.
كتب "تولسون" في ذلك الوقت: "فيلم ولادة أمة كذبة بغيضة وواضحة للعيان لا تقبل أي تشكيك، أما فيلم ذهب مع الريح كذبة خفية لدرجة أنه سيتم ابتلاعها كحقيقة من قبل ملايين البيض والسود على حد سواء".

المسألة برمتها شائكة ومليئة بالجدل، ولكن إذا ما أخذنا في الاعتبار طريقة تناول القصة والسرد العنصري الموجود في الفيلم والذي اعتمد على تهميش الحديث عن أوضاع السود المتدنية على الرغم من أنهم لعبوا دوراً هاما خلال الحرب، فلولاهم ما كانت لتحفر الخنادق لمساعدة الجنوبيين. إلا أنه يبقي نتاج حقبته وزمنه وعكس ثقافة كانت سائدة في ذلك الوقت، حيث كانت الأفكار العنصرية لا تزال متوغلة بشكل أصيل في الولايات الأمريكية، خاصة الجنوبية، وهذا بدوره يطرح عدداً من الأسئلة الملحة، هل يمكننا محاكمة هذا الإرث الأن بعد مرور أكثر من 80 عاما على طرحه؟ وهل باستطاعتنا محو شيئاً ما من الذاكرة كأنه لم يكن موجوداً من قبل؟ أم أننا أمام إعادة إنتاج لفترة الثورة الثقافية مجدداً؟
على الرغم من تقديم الفيلم صورة منمطة عن حياة السود في زمن العبودية، إلا أنه يمكننا اعتباره أداة ووثيقة تاريخية عن أشكال الوقائع الاستعبادية التي حدثت في الجنوب الأمريكي، ستظل باقية إلى أبد الدهر بوجه الذين شككوا في حدوث مثل تلك الجرائم البشعة في حق الأفرو-أمريكيين.
تقول الناقدة السينمائية ريبيكا ثيودور فاشون، في تصريحات لمجلة "تايم": "لا يمكنك تجاهل السياق التاريخي للفيلم. تمركز ذهب مع الريح حول قصة امرأة بيضاء غنية واستخدمت العبودية كخلفية. دعنا نتحدث عن روايات واقعية للناجين من العبودية الذين تحدثوا عن الانتهاكات التي أجبروا على تحملها تحت وطأة هؤلاء النساء البيض الأغنياء".
لذلك أوضحت شبكة "HBO" في بيان لها الأسبوع الماضي، أن هذا السرد العنصري كان ولا يزال خطأ، وأن استمرار عرض الفيلم من دون تنديد أو توضيح كان توضيح أو تنديد بهذه الطريقة في عرض الأحداث كان سيشكّل خطوة غير مسؤولة. لذا تعتزم المنصة طرح الفيلم في الأيام القليلة القادمة، مع اضافة مقدمة لوضع الفيلم في سياقاته التاريخية المتعددة بواسطة الباحثة جاكلين ستيوارت.
لم يتوقف الأمر داخل الولايات المتحدة وحسب، بل وصل صداه إلى العاصمة الفرنسية التي كانت على وشك عرض الفيلم في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، على شاشة سينما "ركس" العريقة بمناسبة عودة الحياة السينمائية إلى طبيعتها بعد إغلاق دام قرابة ثلاثة أشهر بسبب جائحة (كوفيد-19)، قبل أن تقول الشركة المنتجة كلمتها وتقوم بسحب عرض الفيلم لتخفيف حدة التوتر المتصاعدة.