البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

حكايات من دفتر الوطن (3) اليوم المشئوم الذي غير وجه مصر


«إلى مصر.. قضائى الذى أعانقه وقدرى الذى أحتضنه
وأين يهرب المريد وشوقه قضاؤه.. وقلبه قدره».
بهذه الكلمات بدأ المؤرخ والكاتب الكبير صلاح عيسى كتابه الشيق والممتع «حكايات من دفتر الوطن».
يأخذنا صلاح عيسى بأسلوبه البارع في الحكى والسرد، إلى رحلة مدهشة في أعماق التاريخ، إلى حكايات تفيض بالشجن والقهر والأحزان، والخيانة والمقاومة، والاضطهاد والقتل، حكايات تنقل قارئها إلى الزمن الذى جرت فيه الأحداث بكل ملامحه وشخوصه ومبانيه وحوادثه وصحفه وفنونه، حكايات مليئة بالصور التاريخية النادرة لأبطال الزمان الذى ولى، بشرا وأماكن وحوادث.
الأحد الدامى 
وقف المؤرخ الكبير صلاح عيسى في الفصل الثالث الذى حمل عنوان «مقتلة الأحد الدامى»، أمام يوم غير وجه مصر، يوما مشئوما أدى لاحتلال مصر لمدة 74 عاما متصلة!!
يقول: كان يوم «أحد» لكنه اختلف عن كل أيام الآحاد، بات من أطول أيام التاريخ المصرى، يوم مشحون بالأحداث، دموى القسمات، غاضب كبحر هادر، وقاس كعاصفة عاتية!! ماذا حدث؟؟
يوضح المؤلف أن مصر وقتئذ كانت تعيش مرحلة جديدة من مراحل الثورة الوطنية التحررية، إبان الثورة العرابية، فقد أقر حق ملكية الأرض، وأخذ المنتجون يتجهون للزراعة الكثيقة للتسويق الخارجى، وخاصة القطن والحبوب، وتزايدت الدعوة إلى تحرير الفلاحين من السخرة، فضلا عن انتشار التجارة.
وفى ذات الوقت، كانت مصر في تلك الحقبة العجيبة من تاريخها تزدحم ببقايا العصر المملوكى الذى حكم مصر، من الأتراك والجراكسة، وكانوا يحقرون كل ما هو مصرى، ولا يصاهرون المصريين، ويعارضون فكرة تحرير الفلاحين بإلغاء السخرة، وهو مطلب حيوى من مطالب الحركة الوطنية.
جناحا الثورة
يصف عيسى قيادات الثورة العرابية بأنها ولدت منقسمة منذ البداية، ونشب صراع ضاري بين جناحى الثورة، جناح من البرجوازيين اليمنيين غير المصريين، وكان الجناح الآخر في قيادة الحركة الوطنية أكثر تحررا وتطرفا، وهو ما جعل حركته أكثر انسجاما مع التجار والمثقفين والثوريين، فالتفوا جميعا حول قيادة «أحمد عرابى».
في الوقت ذاته كانت السياسة الاستعمارية ترسم خطتها لإجهاض الثورة العرابية، وكانت الدوائر الرجعية في الداخل وعلى رأسها قصر الخديوية وعناصر الأتراك والجراكسة تعمل معها في حركة متناسقة.
اغتيال عرابى
بأسلوب الكاتب المشوق يقول: هكذا تشكلت ملامح الأحد الدامى 11 يونيو 1882.. وأخذ يسرد لنا ما حدث قبل ذلك التاريخ بنحو شهرين، حيث أخطر اللواء «طلبة عصمت» أحد قادة الحركة الوطنيه، صديقه «أحمد عرابى» بأنه علم أن هناك مؤامرة تدبر لاغتيال «عرابى» ومعه كبار ضباط الجيش والوزراء الثوريين في حكومة «سامى البارودى».
على أثر ذلك أمر «عرابى» على الفور باتخاذ الإجراءات اللازمة للتحقيق في الأمر، ومحاكمة من تثبت إدانته، ثم انعقد المجلس العسكرى الذى حاكم المتآمرين، الذين اعترفوا بالتهمة، وقضت المحكمة بنفى المتهمين إلى السودان بعد تجريدهم من الرتب العسكرية والامتيازات والنياشين، على أن يكونوا متفرقين في الجهات التى ينفون إليها.
وفى اليوم التالى لصدور الحكم توجه رئيس الوزراء «محمود سامى البارودى» إلى «الخديو توفيق» للتصديق على الحكم، الذى اعترض بدوره على التصديق، لأن الحكم في نظرة قاس، بينما أصر «البارودى» على أن حكومته مصرة على تدعيم الحكم الوطنى، وأنه سيضرب بيد من حديد كل من يتآمر على مصر.
اللقاء العاصف
يقول المؤلف: طلب الخديو مهلة يومين للنظر في الحكم، فكيف يصدق على حكم ضد أصدقائه وأعوانه؟ لذا قرر استدعاء قنصلى فرنسا وإنجلترا للتشاور!! واقترح القنصلان عدم التصديق، ثم استدعى «الخديو توفيق» قناصل بقية الدول الأوروبية، وطلب منهم معونة دولهم لتثبيت سلطته كحاكم شرعى لمصر.
بعدئذ التقى الخديو بـ«البارودى» وكان لقاء عاصفا أخبره بأنه لن يصدق على الحكم، فثار «البارودى» في وجه ثورة عارمة، واتهمه بتحريض الدول الأوروبية على التدخل في شئوننا، وعرض هذه المسألة على السلطان التركى، هو بمثابة تنازل عن الاستقلال الذاتى، وأن دستور البلاد لا يخولكم الاتصال بالدول الأجنبية إلا من خلال وزير الخارجية أو رئيس الوزراء.
وتزايد السخط على الخديو وأكد الكثيرون أنه يمهد للخيانة، وارتفعت الأصوات تدعو لاتخاذ موقف حاسم، ووضح أن الشارع المصرى كله مع «عرابى» و«البارودى».
أحضان الاستعمار
يصف المؤلف الجلسة الذى عقدها مجلس الوزراء بالعاصفة، التى دعا فيها لطرح قضية الاستقلال الوطنى وأثناء الاجتماع جاء قناصل الدول الأوروبية، ومن ثم رفعت الجلسة وخرج إليهم «مصطفى فهمى باشا»، وأبدى القناصل قلقهم من توتر الأجواء، وأعربوا عن خشيتهم أن يكون هناك خطر يتهدد الرعايا الأجانب.
من ناحية أخرى لقبت جريدة «الطائف» الخديو بالخائن المخدوع، وهاجم «عبدالله النديم» رئيس تحريرها في سلسلة من المقالات الأسرة الخديوية، اتهم فيها «إسماعيل» بسلب الأملاك وتسخير الأبدان، ثم هاجم «توفيق» لضعفه وارتمائه في أحضان الدول الاستعمارية، وعدائه لأهل البلاد، واتهمه بخيانة الوطن، وفى اليوم التالى صدر قرار بإيقاف الجريدة لمدة شهر.
افتعال الأزمة
على الصعيد الآخر، كان القنصل البريطانى - كما يكشف المؤلف - يدرك المخاطر التى ستحيق بالمصالح الإنجليزية وكتب: (إن الوزارة «البارودية» مصممة على تقويض أركان الحماية الإنجليزية والفرنسية، وإننا لن نستعيد ما كان لنا من التفوق، ما لم تتحطم هذه السيادة العسكرية، وأضاف لا بد من حدوث مشكلة يعسر حلها قبل الوصول إلى تسوية المسألة المصرية).
هنا يوضح الكاتب دور كل من إنجلترا وفرنسا لإجهاض الثورة، مشيرا إلى أن الحكومتين قررتا التدخل عسكريا ضد الثورة العرابية، بحجة أن هناك خطرا يهدد حياة الرعايا الأوروبيين، وبعد أيام قليلة قابل قنصلا إنجلترا وفرنسا «البارودى»، وقدما له مذكرة «٢٥ مايو» تطالب بـ إبعاد «عرابى» عن مصر، وإرسال «على فهمى» و«عبدالعال حلمى» إلى الريف، بالإضافة إلى استقالة الوزارة.
وجد البارودى أن الأمر أكبر من أن يبت فيه منفردا، فاستدعى مجلس الوزراء، وقرر رفض طلبات القنصلين، وتحركت القوى الوطنية بسرعة، عقدت الاجتماعات، ووزعت منشورا في الشوارع، يحذر من التدخل الأوروبى، الذى سينتهى باحتلال مصر، وحل الجيش المصرى ونفى ضباطه، والقضاء على الحكم الدستورى، ويحذر من الخيانة.
ثم توجه «البارودى» إلى «الخديو» ليبلغه أن مجلس الوزراء رفض المذكرة، إلا أن الخديو أصر على تنفيذ ما جاء بالمذكرة، وبالفعل قدمت الوزارة استقالتها.
كلمة شرف
يقول المؤلف: أحدثت الاستقالة ضجة كبيرة في كل أنحاء مصر، ما دفعت قناصل الدول الأوروبية للتوجه لـ«عرابى» يطالبونه بتأمين حياة وممتلكات الرعايا الأجانب، فأبلغهم أنه استقال وليس له صفة تخوله بأن يقوم بهذه المهمة، قالوا له: «إن الجيش لا يخالف إرادتك، فأنت زعيم الحركة الوطنية، ولن نستطيع أن نأمن على رعايانا ولا أنفسنا إلا إذا أعطيتنا كلمة شرف».
وافق «عرابى» وأرسل تلغرافا إلى جميع وحدات الجيش المصرى، طلب منهم أن يحافظوا على الأمن العام، فيما اعترض الضباط على المذكرة، كما أرسل قادة الجيش والبوليس في الإسكندرية برقية يهددون فيها بأنهم لم يكونوا مسئولين عما يحدث إذا لم يعد عرابى إلى منصبه في ظرف 12 ساعة، في ذات الوقت امتلأت الشوارع بحشود ضخمة من طلبة الأزهر وعلمائه، وطلبة المدارس والتجار وأصحاب الحرف، وهم يحملون المشاعل في ظلام الليل ويهتفون بسقوط المذكرة وعودة «عرابى».
قنبلة الخيانة
كشف عيسى كيف نجح المتآمرون في تصعيد الأزمة، وتفجير الموقف في مصر!! واختاروا مسألة الأمن العام لتكون الذريعة التى تدفع الأساطيل الأجنبية للتدخل في مصر.
اختار المتآمرون الإسكندرية لتنفجر فيها قنبلة الخيانة، فقد كانت الإسكندرية من أكثر المدن ازدحاما بالأجانب من كل جنس وملة، ومن السهل افتعال حادث ليكون بداية الانفجار.
وأخذ الخديو يخطط لتسهيل الاحتلال، مستعينا بـ«عمر لطفى» محافظ الإسكندرية، وحثه على عدم مساعدة «عرابى» في استقرار الأمن، كما تحالف الخديو مع مشايخ البدو ورؤساء القبائل، وطالبهم بأن يجمعوا ثلاثة آلاف رجل من الأعراب من أجل إثارة الفوضى، وإحداث الاضطراب، والاعتداء على الأجانب، وبذلك يكون «عرابى» قد أخفق في حماية الأجانب.
شيطان الفتنة
يواصل المؤلف سرد أحداث اليوم المشئوم ويقول: في هذه الأجواء المشحونة ألقى «عبدالله النديم» خطبة في الإسكندرية قال فيها: «إن الأجانب والخديو يسعون لإحداث فتنة، ونبه النديم «إلى ضرورة لزوم السكون، إذا كثرت الظنون، والبعد عن مجالس الأجانب حتى تنتهى المصائب»، وغادر النديم الإسكندرية صباح يوم الأحد الدامى 11 يونيو، وفى اليوم نفسه نفذ المخطط الذى رسمه المتآمرون، واشتعلت الإسكندرية، حيث دبت المشاجرات، وتشابك الأجانب مع الأهالى، وسقط العديد من القتلى، ووزعت الأسلحة على البدو والصعاليك، في غيبة تامة من محافظ الإسكندرية، وبدا وكأن شيطان الفتنة تلبس كل الناس، اندفع الجميع يحملون الشوم والعصى والسكاكين والسنج والبنادق ويشتركون في المقتلة.
يفسر المؤلف أحداث هذا اليوم الدامى بأنها جاءت كنتيجة منطقية للخيانة، حيث بدأ الأسطول البريطانى في ضرب الإسكندرية، وهزم جيش عرابى في موقعة التل الكبير، وبدأ الاحتلال البريطانى لمصر الذى استمر 74 عاما.