البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الباحث مينا فؤاد: تاريخ الشارع القبطي مازال مجهولا.. ولا يوجد مؤرخون محايدون ولا قراء محايدون أيضا.. دراسة التاريخ عملية مزعجة لأنها تكشف لنا أن ماضينا لم يكن ورديا طوال الوقت

البوابة نيوز

«نظرةٌ على الكنيسة المُبكرة»، كتاب مهم قدم من خلاله الباحث الشاب مينا فؤاد، عرضا لبعض الجوانب التاريخية واللاهوتية في مصادرها الأولى. وهو يغطي الفترة من نهايات القرن الأول وحتى مجمع نيقية أى عام 325م، وقد نشرته مدرسة الإسكندرية للدراسات المسيحية، وحقق أعلى مبيعات خلال فترة معرض الكتاب الماضي.. "البوابة نيوز" التقت الباحث وكان لها الحوار التالي:


في البداية.. ما ضرورة دراسة التاريخ الكنسي؟

- التاريخ عمومًا ليس للحكى والاستمتاع، ربما هذا صحيح في جزءٍ منه. في مجتمعنا نحن نسردُ التاريخ ونقرأه أحيانًا كنوستالجيا لاجترار بطولات وأمجاد الماضى، وأحيانًا كنوع من الترفيه العقلى والتسلية. لكن هذا هو قصد الروايات وليس قصد الكتابة التاريخية. سأخبرك برؤيتى التى قدمتها في مدخل كتابي. بالنسبة لي، فتاريخ أى كنيسة هو تجربة عاشتها الكنيسة عبر الماضي، وهو الذى يكشف لنا عن هويتنا الحقيقية، كيف أصبحنا هكذا اليوم؟ كيف أثرنا وتأثرنا؟ هل سرنا على الدرب الصحيح طوال الوقت؟ أم حِدنا في بعض الأحيان وسقطنا؟ هل التاريخ فعلا كما يُروى لنا؟ كيف يجب أن يتعلم حاضرنا من ماضينا كى لا نكرر أخطاء سابقة فننطلق نحو مستقبل أفضل؟ ودراسة التاريخ بهذه الطريقة هى عملية مزعجة ومؤرقة لأنها تكشف لنا أن ماضينا لم يكن ورديًا طوال الوقت، بل به شوائب وأخطاء، مثل أى ماضٍ لأى جماعةٍ في أى مكانٍ وزمانٍ.

لماذا كتب المؤرخون التاريخ الكنسى من فوق وأصبح هو تاريخ للملوك والبطاركة والأساقفة؟

بداية التأريخ المسيحى كانت مع يوسابيوس القيصري، والذى لم يُدَوِن تاريخه بهذه الطريقة. لكن مع الوقت وتحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية بصورة رسمية، صار الأساقفة والملوك هم الشخوص الرئيسية ومحور حركة الأحداث وأبطال الإيمان في نظر المسيحيين. وبالتالي، صاروا نقطة الارتكاز لعملية التأريخ.

< كيف نصل إلى صوت الشارع الكنسى لمعرفة الجزء المجهول في هذا التاريخ؟

- الجزء المجهول من تاريخ الأقباط، هو تاريخ الشارع القبطي، تاريخ المواطنين العاديين، وليس تاريخ البطاركة والملوك. وهذا أصعب جزء في الدراسة والبحث. وفى رأيي، لا يجب البحث عن هذا التاريخ بين ضفاف الكتب المسيحية، لكن خارجها. لدينا الكُتب التى تؤرخ لمصر البيزنطية، والكتب التى دونها الرحالة الأجانب لمصر في القرون الوسطى، وكذلك العصر الحديث، ووصف مصر للحملة الفرنسية، كذلك بعض المؤرخين المسلمين، ومثيلاتها من الكتب. هذه الكتب تقدم لنا ضمن وصفها للحالة العامة لمصر، وصفًا لعادات وتقاليد وإيمان الأقباط. وهى بالتالى تعكس لنا نبض الشارع القبطى والمواطن العادي.

< ما أهم النتائج التى توصلت إليها بعد دراسة تاريخ المسيحية المبكرة؟

- النتائج كثيرة. على الجانب التاريخي، فالحاضر أصبح ذا معنى أكثر من ذى قبل. أصبحت أفهم الأسباب التى جعلتنا هكذا اليوم. مكنتنى من رؤية كيف يتكرر التاريخ بأحداثه وأخطائه. وأما الجانب الإيماني، فقد ترسخ يقينى أكثر فأكثر أن إقرار إيماننا اليوم هو ذات إقرار الإيمان الذى آمنت به الكنيسة الأولى، بالطبع هنا أقصد محتوى الإيمان وليس المصطلحات عينها؛ لأن المصطلحات تتطور وتتغير باختلاف الزمن واختلاف اللغة. يمكن أن نرى بوضوح أن الجماعة المسيحية المُبكرة في أورشليم فهمت أن يسوع هو الله وقدمت له العبادة والتمجيد على هذا الأساس منذ وجوده على الأرض. ولم تكن تراه كإله منفصل أو أقل من الله يهوه، لكنها كانت تراه كيهوه ذاته؛ حيث نسبت إليه أعمال يهوه كالخلق، وغفران الخطايا والدينونة.

< هل أثر الانحياز العقيدى على المؤرخ؟

- لا يوجد مؤرخون محايدون، ولا قراء محايدون أيضًا. الجميع يأتى بافتراضات مسبقة. لكن، هناك درجات من الانحياز، فهناك من ينحاز بصورة مجحفة وغير عقلانية، وهناك من يجعل انحيازه ليس في سرد الأحداث، بل فقط في تفسيره للأحداث أو في استنتاجاته.

لكن أعتقد أنه من السهل في معظم الأحيان -وليس كلها- تحديد مدى انحياز المؤرخ بمقارنة الأحداث المذكورة من عدة مصادر. ونحن نرى هذا لا في التاريخ الكنسى فقط، لكن أيضًا في التاريخ العام. هناك مثال جلى نعيشه نحن في مصر، فيمكنك أن ترى كيف سارت عملية التأريخ لثورة يناير 2011 منذ حدوثها وحتى اليوم، وكيف سيطرت انحيازات الكُتاب على سرد الأحداث وتفسيرها؛ بل وتغيرت هذه الانحيازات لهؤلاء الكُتاب بتغير الأنظمة.

< فهل تأثرت موضوعية يوسابيوس القيصرى باعتباره «أريوسيًا» كما يشاع عنه؟

- لم يكن يوسابيوس القيصرى آريوسيًا مثلما يُشاع، لكنه كان من ضمن جماعة من الأساقفة الذين شجبوا هرطقة آريوس، لكنهم في الوقت ذاته، أبدوا تحفظهم ورفضهم لاستخدام مصطلح هومووسيوس (وهو مصطلح يونانى تقنى يعنى في سياق نيقية أن يسوع المسيح هو من نفس جوهر الآب؛ وكان القصد منه التأكيد على وحدانية ومساواة الابن يسوع المسيح مع الله الآب). كانت أبرز الاعتراضات أن هذا المصطلح لم يرد في الكتاب المقدس، وقد طرحوا عدة إقرارات إيمانية بديلة تؤكد نفس المعنى وتتجنب استخدام المصطلح. لكن موضوعية يوسابيوس لم تتأثر بهذه المشكلة. فيوسابيوس يؤرخ في كتابه «التاريخ الكنسي» منذ زمن الرسل، وينتهى قبل مجمع نيقية ومشكلة آريوس. وفى كتابه «حياة قسطنطين» ينتهى عند المجمع ولا يؤرخ للجدال الذى دار بعد ذلك.

< ما خطورة تلوين الشخصيات التاريخية، إما أبرار أو أشرار أو قديسين ومهرطقين؟

- «موت الموضوعية..» في اللحظة التى تصنف فيها كل شيء إلى فئتين، إما أصدقاء أو أعداء، تنتهى الموضوعية تمامًا. فرؤيتك وتفكيرك سيصطبغان بصبغة إقصائية تمنع عنك أى حكم موضوعى على الأحداث أو الأشخاص. وسيرتفع تلقائيًا هؤلاء الأبرار والقدسيون إلى مراتب العصمة، وسينحدر الأشرار والهراطقة إلى عوالم الشياطين. وبالتالي، ستنظر إلى تاريخك وتراثك دائمًا كمعصوم من الخطأ تمامًا، وستنظر إلى الآخر على أنه العدو المتآمر الذى يريد دائمًا تدميرك. هكذا، فرؤيتك وتفسيرك للأحداث ستبدآن في الحياد بعيدًا عن حقيقة الأمور، وسيبقى عقلك أسير الدوران في متاهات الوهم، ودوائر الخرافات.

< لماذا في رأيك حظى تاريخ إيريس حبيب المصرى بهذا الاهتمام؟ وهل هناك أواصر وتشابه بين منهجها ومنهج مسز بوتشر باعتبارهما علامتين على صوت المرأة في التاريخ الكنسي؟

- إيريس حبيب المصرى، هى أول مؤرخة قبطية. وهى أول من كتب اعتمادا على مصادر ومراجع تاريخية، وقد كان لكتابها صدى وقبولا واسعا حتى يومنا هذا، نظرًا لغياب الكتابات التاريخية التى تعتمد على منهج محدد في كتابة التاريخ، وليس مجرد سرد لحكايات من هنا ومن هناك. بوتشر سبقت إيريس تاريخيًا. وقد قضت نحو عشرين عامًا تجوب مصر، كان محور اهتمام تاريخها هو فترة العصور الوسطى. ويمكن اعتبار تاريخ بوتشر هو أكثر حيادية من تاريخ إيريس حبيب المصري. فايريس كتبت لتؤرخ لكنيستها وأمجادها، بينما بوتشر كانت تؤرخ لتاريخ كنيسة تلامست معها وعايشتها أثناء وجودها في مصر.

< كيف يمكن الاستفادة من مناهج التاريخ الحديث في كتابة التاريخ الكنسي؟

- كتابة تاريخ الكنيسة يجب أن يحاول البدء من نقطة حياد، بمعنى، هو يُكتَبُ ليحدد ما حدث ولماذا حدث، لا لكى ينفى أو يؤكد شيء ما. يجب أن نتوقف عن قراءة وكتابة التاريخ كسرد لقصص البطولات والقديسين والأمجاد. لكن يجب أن نفحص التاريخ لنعرف فعلًا ما الذى حدث وكيف حدث ولماذا حدث؟ لا يجب أن نخشى مطلقًا أن يكون أحد أبطال تاريخنا قد أخطأ، أو تسبب في مشكلة ما. هذا أمر طبيعى ووارد، والخطأ مهما كان قد تسبب في مشكلات قد لا ينفى قداسة شخص، فهؤلاء هم بشر في النهاية. في الواقع أجده أمرًا يحمل تناقضًا صارخًا، أن نقبل أن يكون الأنبياء العظام مثل دواد وموسى أو رسل مثل بطرس وغيرهم، قد أعلن الكتاب المقدس أنهم قد أخطأوا، بل وفى بعض الأحيان ارتكبوا خطايا فادحة مثل دواد؛ ولا نقبل على الإطلاق أن نعلن أن أحد شخوصنا التاريخية قد أخطأ!! الله في الكتاب المقدس لم يكتنف أن يذكر أن أعظم أنبيائه هم بشر في النهاية يخطئون ويسقطون، لكننا نرفض أن نقبل هذا على ملوك وأساقفة وبطاركة وقديسى تاريخنا القبطي. مناهج التاريخ الحديث، هى مناهج نقدية. وهذه المناهج ستضعنا في مواجهة أنفسنا، وسيكون علينا أن نقرر هل نكتب تاريخنا كما حدث بالفعل أم سنظل نهيم في حكايات تهلب مشاعرنا وتتغاضى عن أخطاء ماضينا. في الواقع أن النقد الذاتى هو أولى طرق تصحيح المسار، وهذا ما حدث مع داود النموذج الأبرز، حينما أدرك داود خطيته وفداحتها عرف جيدًا كيف يصحح مساره.

< ما مشروعك البحثى الذى تعمل عليه حاليا؟

- اهتمامى الأكبر هو التعليم والتدريس، ولست شغوفًا أو مهتمًا بإصدار كتب أو مشروعات بحثية مثل كثيرين. وأشعر أن التأثير الأكبر هو أن تُعلم من أمامك، التفاعل وجهًا لوجه أفضل من أى كتاب. لكن بوجه عام، فهناك بعض المشروعات التى بدأت الكتابة فيها ولم أنته منها، هناك رواية قد بدأتها تؤرخ للفترة من ما بعد نيقية وحتى خلقيدونية، لكن لم أخط فيها سوى فصل واحد حتى الآن. كذلك، هناك مشروع كتاب عن الثالوث لم أنته منه أيضًا. مشروع ثالث، بدأت فيه منذ فترة، وهو ترجمة ودراسة لاهوتية لكتابين من كتب أنسلم أسقف كانتربرى، وهما «تجسد الكلمة» و«لماذا صار الله إنسانًا»، وهو كتاب مشترك مع أحد الأشخاص.