البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الجواري في قصور الخلافة.. هارون الرشيد (1)

البوابة نيوز

حفلت قصور الكثيرين من حكام الدولة الإسلامية على امتداد العصور بالجوارى ومن كل لون وصنف وجنس، وبين جدران وأروقة القصور، نشب الغرام بين بعض الأمراء والخلفاء والسلاطين وبين الجواري، والحكايات التى تروى عنه وله وغرام الحكام والسلاطين لجواريهم كثيرة وعجيبة، وكتبوا أرق الكلمات التى تعبر عن عشقهم وولعهم بهن، ورغم الكثير الذى يقال عن هارون الرشيد أمير المؤمنين، فهو يعد من المعتدلين بالنسبة لغيره الذين غالوا في لعبتهم مع الجواري.


كان الرق فاشيا في العالم القديم، إذ عرفه الفرس والرومان واليونانيون والهنود والصينيون، وعرف العرب الرقيق قبل الإسلام، وكانت أسبابه كثيرة أهمها الغزو، ولما ظهر الإسلام أصبح الرق مقصورا على حالة واحدة فقط، وهى التى تكون في أعقاب الحرب ووقوع أسرى الأعداء من الرجال والنساء.

وفى زمن الفتوحات جعل للفاتحين أن يمنوا على الأسرى بالعفو، ولهم أن يقبلوا منهم «الفدية» ويخلوا سبيلهم، وقد رغب الإسلام في عتق الرقيق وإكرامه ومعاملته بالحسنى واحترام آدميته في آيات كثيرة جدا من كتاب الله، وأحاديث كثيرة جدا من كلام الرسول.

والجارية في الشرع الإسلامى كما قال الفقهاء: هى كل امرأة أخذت أسيرة في الحرب، شريطة أن تكون غير مسلمة، لأنه لا يجوز لأى سبب من الأسباب أن تسبى المسلمة وتسترق.


عندما يذكر الرق، يتبادر إلى الأذهان الكلام عن الجواري، ومن لا يعرف تاريخ الجوارى والأدوار التى لعبنها في صناعة الأحداث والتواريخ والمؤامرات، وكذلك تهيئة وإعداد القادة والأمراء، وتشكيل دوائر الحكم وتغيير مجريات الأمور والسياسة، يتخيل أن الجوارى ما كانت إلا لعبة من ألعاب الجنس وذلك ليس صحيحا على الإطلاق، إذ لا يعرف الكثيرون، أن عددا كبيرا من أمراء المؤمنين والخلفاء والسلاطين الذين حكموا الدولة الإسلامية في فترات تعد من أزهى عصورها، كانوا من أبناء الجواري!

فها هو ابن حزم يقول: لم ينل الخلافة في الصدر الأول من كانت أمه من الإماء «أى الجواري» سوى يزيد وإبراهيم بن الوليد، ولم ينل الخلافة في الدولة العباسية ممن كانت أمه من الحرائر سوى العباس السفاح والمهدى والأمين، ولم ينل الخلافة في دولة بنى أمية بالأندلس من كانت أمه حرة أصلا!

ومع ذلك فقد قامت الجوارى بأدوار عظيمة في تاريخ الدولة الإسلامية ورفعة شأنها، والذود عن حماها، وتركن بصماتهن، بأسمائهن وأعمالهن على كثير من وقائع ذلك التاريخ المجيد، إذ عبرت عن طريق هؤلاء الحضارة العربية من الأندلس إلى أوروبا في العصور الوسطى، حيث كانت أوروبا تتخبط في الظلام.

وليس أمراء المؤمنين فقط من أبناء الجوارى هم الذين صاغوا وقائع ذلك التاريخ، فهناك الخلفاء والسلاطين الذين ارتبطوا بالجوارى بصورة أو بأخرى.

وحتى الجوارى أنفسهن فالبعض منهن كتبن صفحات مشرقة ومضيئة في تاريخنا، وما زلنا نتغنى بها إلى اليوم، فجارية السلطان نجم الدين أيوب هى التى تصدت للحملة الصليبية بعد موت السلطان، وتولت قيادة الجيوش وقاتلت الغزاة وأسرت الملك لويس في المنصورة، وحددت الفدية المطلوبة لإطلاق سراحه وصارت حكايتها من الملاحم الشعبية في تراثنا، كانت شجر الدر جارية تحررت بالإسلام وصنعت التاريخ، وردد اسمها على المنابر، ودعوا لها ولقبوها بعصمة الدنيا والدين!


غرام الخلفاء بالجوارى

وأيضا حفلت قصور الكثيرين من حكام الدولة الإسلامية على امتداد العصور بالجوارى ومن كل لون وصنف وجنس، وبين جدران وأروقة القصور، نشب الغرام بين بعض الأمراء والخلفاء والسلاطين وبين الجواري، والحكايات التى تروى عنه وله وغرام الحكام والسلاطين لجواريهم كثيرة وعجيبة، وكتبوا أرق الكلمات التى تعبر عن عشقهم وولعهم بهن، ورغم الكثير الذى يقال عن هارون الرشيد أمير المؤمنين، فهو يعد من المعتدلين بالنسبة لغيره الذين غالوا في لعبتهم مع الجواري.

لقد انطوت صفحة الجواري، ولكن يبقى التاريخ وتبقى وقائعه التى نعود إليها ليس للتسلي، وإنما كما يقول الكاتب سعيد أبوالعينين في كتابه «حكايات الجوارى في قصور الخلافة» لكى نعى ونتدبر ونتفهم ما جرى في ذلك الزمان البعيد، لنستفيد منه في عالم اليوم.

يبدأ الكتاب من قصر الخليفة المنصور، أكثر الخلفاء العباسيين تشددا في الحد من سلطان الجوارى وإضعاف شأنهن، والعمل على منع تسربهن إلى القصر إلا في أضيق الحدود وبعد فحص دقيق.

يحكى الكاتب عن «الخيزران» وكانت جارية لرجل من ثقيف، فقدم بها إلى مكة وباعها في سوق الرقيق. وجاءوا بها بعد ذلك إلى الخليفة المنصور في بغداد، الذى استحسنها ورأى أن يقدمها لابنه المهدى فنادى على غلام وقال له: اذهب بها إلى المهدى وقل له «إنها تصلح للولد».

أى أنها تصلح لأن يأتى منها بولد، وأن تكون بالنسبة له «أم ولد» وهو اللقب الذى كان يطلق على الجارية أو الأمة التى تنجب من سيدها ومولاها.. وهو يقابل لقب «أم البنين» بالنسبة للمرأة الحرة التى يتزوجها.

راقت الجارية «الخيزران» للمهدى وزفت إليه فولدت له اثنين، صار أحدهما بعد ذلك أشهر الخلفاء الذين عرفهم التاريخ العربى بحياتهم المثيرة وهو: هارون الرشيد.. أمير المؤمنين.. صاحب الغراميات الشهيرة والمثيرة مع الجواري.

نشأ هارون الرشيد في قصر أبيه المهدي، وكان المهدى أول من عنى من خلفاء الدولة العباسية بإبراز مظاهر الترف وألوان اللهو، وكان حريصا على أن ينشأ أبناؤه نشأة أقرب إلى الجد وأبعد ما تكون عن تلك الأجواء التى كان يخشى أن ينزلقوا فيها، لكن هذا الحرص لم يمنع أبناءه من الاتصال بتلك الأجواء الفنية اتصالا مباشرا، فقد اتصل هارون الرشيد بتلك الأجواء منذ كان أميرا.


خلافة هارون الرشيد

تولى هارون الرشيد الخلافة بعد أن تجاوز العشرين من عمره بقليل وصار يلقب بأمير المؤمنين وامتدت خلافته إلى ثلاث وعشرين سنة، بلغت فيها الدولة العباسية أزهى عصورها.

كان قصر أمير المؤمنين هارون الرشيد يمثل ما بلغته الدولة من حالة الرخاء المادى والتقدم المعنوى والأدبي، كانت الدولة قد استقرت الأمور فيها، وكان المال يتدفق على بغداد وكانت موارد الدولة من الكثرة والوفرة بحيث كان لها تأثيرها في مظاهر الحضارة وصور الترف.

ويقدر المؤرخون معدل ما كان يرد على هارون الرشيد سنويا من خراج الأقاليم بعد أن يستوفى كل إقليم حاجته، بأربعمائة مليون درهم، أو ما يبلغ نحو ثمانية عشر مليونا ونصف المليون من الدنانير، هذا إلى جانب موارد أخرى، مما كانت دولة الروم تؤديه إلى الخليفة في بعض الأحيان من جزية أو فداء عن بعض من أسر أو سبى من الأشراف والنبلاء، وقد بلغ ما أداه الروم ذات مرة خمسين ألف دينار.

يصف المؤرخون هارون الرشيد بالشخصية المثيرة للجدل، وقالوا الكثير عن تناقضاتها وغرابة أطوارها، فقالوا إنه كان عصبى المزاج، سريع الانفعال حاد العاطفة، قوى الاندفاع، شديد الشعور بالحياة من جميع جوانبها، عظيم الإقبال عليها.

وقالوا: إنه كان سريع التأثر بكل ما يثير عواطفه الدينية أو يمس أوتاره الروحية، فهو من أغزر الناس دموعا وقت الموعظة، وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة، وقالوا: إنه كان يصب الماء على يدى أبى معاوية الضرير وهو من العلماء دون أن يعلم أبو معاوية من يكون، وقد سأله هارون الرشيد يوما: أتدرى من يصب الماء على يديك؟ قال أبومعاوية: لا. فقال هارون الرشيد: أنا... قال أبومعاوية: أنت يا أمير المؤمنين؟ قال هارون الرشيد: نعم، إجلالا للعلم!

ويذكر ابن جرير الطبري، أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يصلى في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، وكان يتصدق من ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان يحج عاما ويغزو عاما.

ومن العجب العجاب أن يكون هذا الرجل الذى هو بهذه الصورة من التقوى، هو نفس الرجل الذى يجمع في قصره أكثر من ألفى جارية! والذى ينغمس في اللهو والمتعة، ويقبل على كل ما يثير عواطفه وشهواته الحسية، وهو أيضا نفس الرجل الذواقة للشعر والغناء والموسيقى، والذى كانت مجالسه تزخر بالعلماء والشعراء والأدباء والندماء، وهو أيضا أول من غالى من الخلفاء العباسيين في تفضيل الجوارى وتقريبهن ومعظم أولاده كانوا من أبناء الجواري.


غراميات أمير المؤمنين

إن غراميات هارون الرشيد لا تقف عند زوجاته من الحرائر اللاتى بلغ عددهن ست زوجات، وإن كان لم يجتمع معه منهن غير النصاب الشرعى أى أربعة فقط، ولا تقف عند الجوارى أمهات أولاده، وإنما تتسع إلى الجوارى اللواتى كان شغوفا بأن يجمع في قصره أكثر ما يستطيع منهن، حتى قيل إن عددهن لا يقل عن ألفى جارية! منهن المغنيات والعازفات الحاذقات، والتوصفيات، الخبيرات بالخدمة ومجالس الشراب، ومنهن من جئن للزينة لجمالهن وحديثهن.

ومن أشهر غرامياته تلك كما يقول الكتاب: تلك التى دارت مع الجوارى الثلاث، اللاتى قدمن إليه كهدية في وقت واحد وهن: «سحر، وضياء، وخنث» وكان الذى قدمهن هو الفضل بن الربيع، من باب التقرب إليه، فقد دخل عليه ذات يوم، فوجده يستمع إلى إبراهيم الموصلى وهو يغني، وكان بين يدى هارون الرشيد جارية عليها قميص مورد، وسراويل موردة، وقناع مورد كأنها ياقوتة على وردة.

وأخذ الفضل بن الربيع يحدث هارون الرشيد عن الجوارى الثلاث اللواتى عنده، ويصف محاسنهن وفتنتهن وظرف حديثهن، على نحو يستهدف إثارة اهتمامه ورغبته في طلبهن وهذا ما حدث.

بعدما رآهن هارون الرشيد غلبن على قلبه وسيطرن على عواطفه، وقيل إن هارون الرشيد قال فيهن شعرا. استبدت «سحر» بقلبه، ويذكر أنها كانت تتدلل عليه وتتمارض أحيانا، لتزيد من حبه لها ومنزلتها عنده.

أما «خنث» فهى الملقبة بـ«ذات الخال» وهى أشهر الجوارى الثلاث، وقبل أن تدخل القصر كانت جارية تغنى في دار تضم مجلسا للغناء، وكانت رائعة الجمال بارعة الغناء، ووقع في هواها بعض الشعراء ومنهم العباس بن الأحنف الذى قال فيها:

ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى/ عشير الذى ألقى فيلتئم الشعب/ إذا رضيت لم يهننى ذلك الرضا/ لعلمى به أن سوف يتبعه عتب/ وأبكى إذا ما أذنبت خوف صدها/ وأسألها مرضاتها، ولها الذنب/ وصالكم صرم، وحبكم قلى/ وعطفكم صد وسلمكم حرب.

وكان ممن أولع بها أيضا وفقا للكتاب إبراهيم الموصلي، وهو شاعر ومغن قال فيها الكثير من المقطوعات التى لحنها وتغنى بها، فكان ذلك من أسباب شهرتها، ويذكر المؤرخون أن الجارية «ذات الخال» ملكت زمام أمير المؤمنين هارون الرشيد، حتى أنه أقسم يوما أنها لا تسأل شيئا إلا قضاه لها، فطلبت منه أن يولى أحد المقربين إليها الحرب والخراج بفارس مدة سبع سنين، فامتثل لها وكتب لها عهدا به وشرط على ولى عهده من بعده، أن يتمها له إن لم تتم في حياته.

ومن الجوارى اللواتى أغرم بهن أمير المؤمنين هارون الرشيد الجارية «ماردة» والتى صارت فيما بعد أم ولده المعتصم، والقصص التى تروى عن غرام هارون الرشيد بها كثيرة، ومنها أنه عندما تركها في الرقة وخرج في إحدى رحلاته إلى بغداد، لم يلبث أن اشتاق إليها، فكتب إليها أبيات من الشعر الجميل.

ومن أغرب الحكايات التى تروى عن أمير المؤمنين صاحب الغراميات المثيرة، حكايته مع الجارية «هيلانة» التى كانت من بين الجوارى اللواتى اختصهن بحبه، فعندما توفيت «هيلانة» غلب عليه الحزن وشاع ذلك في القصر كله، فأقبلوا عليه يعزونه وجلس هو يتقبل العزاء منهم، وأخذ شعراء القصر يكتبون على لسانه الشعر الباكى الحزين تعبيرا عن فجيعته في «هيلانة».

وتأتى حكاية الجارية «دنانير» والتى كانت من أحسن الجوارى وجها وأظرفهن أدبا وأكثرهن رواية للغناء والشعر، وكانت تكن إخلاصا شديدا لصاحبها، يحيى بن خالد البرمكى وزير أمير المؤمنين، ولما لاحظت زبيدة زوجة هارون الرشيد تعلقه بها، اشترت له عشرة من الجوارى المليحات وأهدتهن إليه، لتبعده عن «دنانير» لكن ظل أمير المؤمنين متعلقا بها.

وبعد نكبة البرامكة وفقدان دنانير لسيدها ومولاها يحيى بن خالد البرمكي، دعاها أمير المؤمنين إلى قصره وأمرها أن تغنى فقالت: يا أمير المؤمنين إنى أليت على نفسى ألا أغنى بعد سيدى أبدا، فغضب أمير المؤمنين وأمر بصفعها فصفعت وسقطت على الأرض، وأقيمت وأعطيت العود لتغنى فأخذته وهى تبكى وراحت تقول بصوت حزين: لما رأيت الديار قد درست/ أيقنت أن النعيم لم يعد.

ورغم أن زوجة أمير المؤمنين اشترت عشرا من الجوارى المليحات لتهديهن إلى زوجها، كى تلهيه عن حبه لدنانير، لكن الأمير لم يستطع صرف قلبه عنها.