البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

أشباح في حالة حب


كيف تصبح الكتابة نزفًا لروح جميلة، تزورك فى المساء كجناح فراشة يرسو على مرفأ فكرة طفلة. تتذكر كل شيء. تضيء مصباحها الصغير وتجمع حولها كل يرقات الحنين المضيئة. تتنهد برد الطريق كى تنفخ الوهج فى روحك. تقتحم كل الأبواب بلا مفاتيح. تكسر الجدران كى تربت على عينيك قبل أن تنام. تصحو بعد طول الرحلة فلا تجد إلا أنفاسها الحارة على وسادتك. كأن لم تأتِ أبدًا.
تبدأ رواية «مرتفعات ويذرنج» للكاتبة الجميلة صاحبة الرواية الواحدة «إيملى برونتي» بصوت شبح أنثوى رقيق ينادى على من أحب. ينساب هذا الصوت فى أذن مستأجر المنزل الجديد «مستر لوكوود» ليصور لنا حالة لطيفة. كأن الأشباح أيضًا رقيقة ومقهورة ولا تملك شيئًا إلا تقديم الرقة للعالم حتى بعد موت كل من تسببوا لها فى هذا القهر. تدق النوافذ بهدوء وتتسلل إلى روح المستأجر الجديد، الذى يأخذه الفضول لنبش ذكريات هذا الصوت. تبدأ حينها الخادمة «نيلي» فى سرد القصة. يلازمك صوت الشبح طوال أحداث القصة، كأنه مفتاح كل الألغاز التى مثلت عُقدًا فى حياة هذه العائلة ساكنة المنزل القديم بمرتفعات ويذرنج. 
ما هذا الشبح إلا صوت الجميلة كاثرين ابنة صاحب المنزل التى وقعت فى حب الخادم الأسمر الذى رباه والدها «هيثكليف». تهجره لتتزوج من «إدجار لينتون» حبًا فى الحياة الراقية. يهرب «هيثكليف» وتتحول الحياة للون قاتم. يزور الموت العائلة أكثر من مرة. يعود الخادم الأسمر بثروة غامضة مخططًا للانتقام من كل من آذوه ومن حولهم. تمرض كاثرين وتموت بين يدى حبيبها القديم وهو يبثها رغبته السوداء فى ألا ترتاح روحها أبدًا. تظل روحها شبحًا رقيقًا جميلًا هائمًا. يزور المنزل ليلًا ولا يخشاه أحدًا.
هذا التصوير الجميل لذلك الشبح، تصوير يجعل منه رحيمًا ودودًا، بل وأحيانًا يحملك على الرغبة فى أن تعانقه وتربت على كتفه محاولًا أن تساعده فى الصعود إلى السماء تاركًا كل ما حُمّل به من أوزار الآخرين وأحقادهم، هذا الشبح يحمل كل قصص الماضى ولا يستطيع التحرر منها لأنه الأنقى كما صورته «برونتي».
كتبت هذه الرواية عام ١٨٤٥م، وهى من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، اختبأت كاتبتها وراء اسم ذكورى حين أصدرتها «إيليس بيل» إذ لم يكن يُسمح للنساء فى دخول مجال الكتابة فى ذلك الوقت بسهولة. لم تغادر طوال حياتها منزلًا أقامت فيه مع أختيها إلا ما ندر. وقع المنزل على ربوة ريفية مرتفعة. رحلت فى الثلاثين من عمرها. بعد وفاتها طبعت أختها «شارلوت برونتي» نسخة من روايتها باسم «إيميلي» وأُنتج عن القصة خمسة أفلام سينيمائية.
وفى ذات التيار نجد تلك الأشباح اللطيفة التى ظهرت فى رواية «التوأمان»، أو «فاديت الصغيرة» كما سموها فى بعض طبعاتها، تلك الأشباح، أو «الجنيات» كما كانو يطلقون عليها فى الرواية، هى التى غيرت مسار الأحداث، ظهرت فى شكل أضواء تغنى وتهمهم بصوت مبهم فوق النهر فى القرية الصغيرة. قريبًا من بيت العرافة المداوية المسنة. صورت الكاتبة كيف كان يخشى «لاندري» من تلك الأشباح فى حال أنها رسمتها كلوحة جميلة تشبه - إلى حد بعيد- أضواء الشمال فى القطب الشمالي. تظهر هذه الأضواء فى هيئة بقع وخطوط برتقالية وصفراء وبنفسجية وحمراء. يخشونها بداية ثم يستأنسون إليها إذ لا يوجد فى الليل الهادئ البارد سواها، لذا ضللت الأشباح «لاندري» وتاه عن طريق عودته. تلك الصورة تظل معك طوال الوقت، تلازم صورة «فاديت» الساحرة القصيرة سيئة الهندام صبيانية المظهر التى تستغل ضياع «لاندري» لتغتصب منه وعدًا بمراقصتها فى حفل «عيد القديس أندوش» أمام حبيبته. ثم تتطور الأمور لتنشأ بينهما قصة حب تنتهى بأن تتزوجه رغم أنف الجميع.
إن هذه الرؤية الشبحية الخيالية اللطيفة الغنائية دفعت الكثيرين للادعاء بأنها رواية للمراهقين. لكنها أيضًا رؤية تتفق كثيرًا مع روح «جورج صاند» الرومانسية فى تمرد يعمل على تطويع الخيال فى تفاؤل ومثالية، بل إنه يحاول رسم الواقع بالإرادة كما يراه فى خياله. ظهر هذا الاتجاه لدى من مثلوا الثورة الفرنسية. الكاتبة هنا ابنة الثورة الفرنسية إذ ولدت عام ١٨٠٤م. نجد ذلك فى كل تصرفاتها. هى لامنتين أورو لوسيل دوبين، متمردة منذ بدايات شبابها، تبنت ارتكاب بعض المحاذير علانية فى ذلك الوقت على النساء، ارتدت البناطيل ودخنت البايب، شغلت مغامراتها العاطفية الصالونات الأدبية، تزوجت ثم طلقت ورحلت مع ولديها بعد الطلاق للإقامة فى باريس. اختارت كى تكسب قوتها مهنة لم يكن مسموحًا للنساء بها فى ذلك الوقت «الكتابة»، كما سبق وقلنا فى الحديث عن «إيميلي»، لذا لجأت للاختباء أيضًا كزميلتها خلف اسم مستعار ذكورى كى تتخذها مهنة لا مغامرة.
أردت التعرض لهذه الأشباح اللطيفة التى أطلقتها امرأتان أرادتا التمرد وقضتا حياتيهما أو جزءًا غير يسير منها فى الريف التقليدي، لأن التعرض لها الآن ضرورى فى وقت صار فيه تناول العالم الموازى مرعبًا وقاسيًا بشكل معتاد لا لطف فيه. ما أحوجنا للتمرد للطيف الذى قدمته كاتبيتانا وما زال حيًا فى صورة إنسانية لا إنسان فيها. ولنتذكر قول صاند: «فى يوم ما سيفهمنى العالم أكثر، لكن غير مهم إن لم يأتِ هذا اليوم، سأكون قد فتحت الطريق لإمرأة أخرى». فها هو الطريق.