البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

سياسات الخطاب الأدبي


مما مر بنا جميعا خبر المفاضلة بين الشعراء الوارد عن الأصمعى عن ابن أبى طرفة والذى نصه: «كفاك من الشّعَراء أربعة: زهير إذا رَغِب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طَرِب وعنترة إذا كَلِب وزاد قوم وجرير إذا غضب».
من الأشياء الجميلة أن هناك من نسب هذه المقولة إلى السياسى الكبير المنسى «محمدبن مروان» الشقيق المحنك الواقف فى الظل للخليفة الكبير الشهير عبدالملك بن مروان...
وتستدرجنا هذه النسبة إلى طرح سؤالنا الفلسفي: كيف كان يُنظر إلى الدور السياسى للشعر والشعراء من قبل الساسة الكبار من قبيل هذين الأخيرين؛ الذين عرف منهما الخليفة بأنه واحد من أفقه الناس فى زمنه؛ خسره العلم وربحته السياسة، فيما عرف شقيقه الأصغر بالثقافة الأدبية والذوق الرفيع اللذين لم يخدشا ملمحيه السياسى والعسكرى القويين.
المقولة التى تستحضر الشعراء الأربعة كظواهر غير تاريخية، أبنية بشرية فنية ولكنها غير اجتماعية، كائنات ورقية تكتب شعرا تركع أمامه العصور وتهتاج له أذواق الناس طورا بعد طور، ولكنها تلغى الشاعر كمكون كمجتمعي، كفاعل سياسى وثقافى، كمحرك للتاريخ لا كلوحة جميلة معلقة بصمت وهدوء مريبين على جدار التاريخ الصاخب.
كيف سيقرأ هذه الأشعار كل من الخليفة الناجح اقتصاديا وعسكريا وثقافيا أو أخوه الوالى المحارب الذى عليه أن يرسم استراتيجيات لحرب على ثلاث جبهات متوترة جدا: الخوارج فى الجبهة الداخلية، والفرس، وخاصة الروم على الجبهة الخارجية؟
ماذا لو أن كتاب الأغانى قد كتب فى زمننا؟ ألم نكن ساعتها سنحظى بمدونة مشبعة بالنظرية السياسية؟
تنويعات
فى بعض تحليلاته أبدى جورج لوكاتش ملاحظة مهمة فى كتابه «إشكاليات الواقعية» على هامش المقارنة بين بلزاك وزولا؛ قائلا إن الأول يصور مصائر الشخصيات مكتملة التكوين وهى تصارع لفرض نفسها فى عالم ترى أنها فاعلة فيه، وأن لها دورا تلعبه، فيكون عمل الكاتب متمركزا على ترتيب الأفعال البشرية فى إطار ينتهى إلى فضح الميكانيزمات الاجتماعية التى تتحكم فى هذه المصائر. وهو الشيء الذى يراه لوكاتش بعيون بلزاك منتهيا إلى فضح انتشار الرأسمالية.
عالم بلزاك هو عالم حركي، وأبطاله أبطال تاريخيون... فى حين يرى الفيلسوف أن أبطال زولا – فى المقابل- يسيرون حسب مسارات ثابتة، بل إن الأوصاف المتجاورة نفسها تشمل الأبطال وعالمهم، تؤاخى بين الإنسان والأشياء المحيطة به. فى عام زولا يصير الوصف كسلطة للأشياء، وتصبح المسارات كشاهد فقط على ما حدث وانتهى إلى ما هو أمامنا، عالم زولا يصبح عالما سكونيا ستاتيكيا، والأبطال ضحايا سلبيون للحياة.
كضحايا عمودية لهذه الأنظمة السائدة فى العالم (بلغة الحرب)، سيكون سؤالانا موجهين صوب الأهم: بماذا كان أرسطو يفكر وهو يتأمل عبيده مستعدا لتدوين أفكاره النبيلة العالية بلغته البليغة الراقية؟ هل حدث له أن فكر فى أن هذا الوضع قد لا يكون وضعا سليما؟
لا بد أن الإغراء كبير جدا لمعرفة الوجه الآخر الذى كانت الأمور ستسير عليه لو أن أرسطو قد حدق جيدا فى وجه عبده واقترح أن يخلق له سردية تهبه اسما وصفة وتاريخا خاصا بصاحب الاسم لا تاريخا جماعيا يجعل الفئة «عبد» عنوانا لعدم جدوى التعرف على أى «عبد» وسط العبيد.
كل ذلك كان سيكون رواية أخرى. كل ذلك كان سيشكل خطابا يكتب مصائر مختلفة تماما.
الواقع أن «نظام الخطاب» هو منظمة فكرية سرية بشكل ما، منظمة سرية أفرادها عامة ما يعدون بالملايين، ولكن الجوهر اللطيف الخفى لعمل هذا النظام يلحقها بالضرورة بالمنظمة السرية. أو ربما جاز لنا أن ننعتها بأنها شكل تآمرى على مكتسباتنا فى دوائر المعنى.
بهذا الشكل سيكون الأدب هو الشاهد الصامت المتواطئ بجمالياته مع المنظمة السرية. الأدب يقوم بتزكية «لا زمنية» للمعنى.
الأدب نظرية مؤامرة على المعنى وعلى الإنسان.
سيقول جمهور المحللين العاكفين فى استغراب على تفكيك أسباب الولع البشرى القديم بالأدب، ذلك الكلام الذى قاله أناس ماتوا وذهبت تحدياتهم معهم، سيقول هؤلاء: المسالة أيديولوجية دائما. هنالك نظام لتزكية أفكار واختيارات عقيدية وسلولكية لفائدة استجلاب أخرى والدعاية لها وربما – فرضها- عليهم. وهذا التأويل المستمر لأنظمة الحقيقة هو ما نسميه الأيديولوجيا. الأيديولوجيا جوهرها تأويلي...هى أفكار خاطئة تجيد التلاعب بعقولنا وأمزجتنا، وهذا هو جوهر عمل الأدب مرة أخرى...
مع مرور الوقت وتراكم التجارب الكتابية أصبح هنالك سؤالان يطرحان بإلحاح: هل الإنسان صانع الخطاب أم صنيعته؟
إذا كان صانعها فهو مسئول «سياسيا» على ما أحدثته يداه. وهنا نواجه مشكلة معقدة لأننا لن نجد إجابة فى القانون المدنى للخطاب يجيب السؤال الاضطرارى الذى هو: لمن سيشكو الإنسان شقاءه من زحام الخطابات وخبثها (يا لها من كلمة قديمة وفعالة!) يا ترى؟
ميشال فوكو ذهب فى اتجاه ماركسى تماما هو الذى كان فى فترات نضجه يبشر بالليبيرالية الجديدة كحل للإشكاليات اليسارية التى أثثت فترته بنقد خرائط العالم اليساري، كان قد ذهب فى اتجاه ماركسى وهو يدخل الوثائق «الأدبية» بعين طبيب الحضارة – كما يصف أبناء مهنته من الفلاسفة ويصف نفسه - ليجد أبنية تحتية تفسر التيمة والشكل وغالبا ما تتحكم فى عمليات التلقي...
وقد وصفنا هذا السلوك بالماركسى لأنها مقاربة شبيهة بما فعله ماركس وإنغلز وهما يتعرضان للنصوص الأدبية. (أكاد أشعر بالرغبة فى جعل ماركس أول دارس ثقافى على طريقة مدرسة بيرمنعهام وجماعة الدراسات الثقافية cultural studies)...
إن مواجهة الخطاب الأدبى إذن هى مواجهة المسئولية السياسية على مخرجات مسائل ظريفة بريئة كالذوق والإعجاب و«الطرب» هذه الكلمة التى أولع بها الشعراء وأهملها النقاد، والتى تبدو بحاجة إلى دراسات ثقافية وفلسفية معمقة فى المدونات القديمة. تتأتى سلطة الخطاب الأدبى من العمل الداخلى التحتى المتأرجح دوما بين دائرتى الوعى واللاوعي. إن الدرس الكبير للفلسفة هو أننا ونحن نتحدث عن أخبار الظرفاء والشعراء والخلفاء نقرر مصير العالم، وربما نقوم باختيارات على درجة عالية من الأهمية.
كان جيل دولوز يقول: «إن كل قارئ هو مفككُ شفرةِ هيروغليفيا شيءٍ ما»...
بمعنى أن فعل القراءة – فى المطلق- قد يغير وجه التاريخ بشكل نهائي... وهنا يمكننا العودة الافتراضية إلى وجوه تراثية مثل سقراط وسيبويه مثلا لكى نتساءل على الطريقة الحديثة التى يبدو فيها دوما صدى لأسئلة تحوم حول حمى الخطاب كسؤالنا: هل قتل سقراط وسيبويه هذين شيء آخر عدا المسائل الخطابية؟
ربما يقول قائل: الأمور بالنسبة لشخصين مثل هذين قابلة للتأويل دوما. ولهذا يبدو الخطاب الأدبى أكثر صلابة فى مواجهة التاريخ، من باب كون الحقائق الأدبية غير قابلة للنقض خارج إطار المحاكم الأدبية، وفى هذه الأخيرة المبدأ الأساسى هو الطرب، الطرب الذى هو تلاعب للكلمات باللاوعي... و« قاضى قضاة العشق يقتله الهوى»
خلاصة القول:
أجمل ما صنعت المباحث ما بعد الحداثية بهذا الوعى التركيبى بالخطابات هو ابتكار شخصية الجينيالوجي، والجينيالوجى ليس هاربا من التأويلات كما قد يبدو لأول وهلة بل هو هارب صوبها... وليس طبيبنا الكبير فوكو من يبشر بذلك بل هو الشاعر (مريض الحضارة الأكبر والأخطر والأشهر حسب تعبير ألفريد دى موسيه المحور قليلا) «بول فاليرى الذى كان يقول: «خطران يتهددان العالم باستمرار: النظام والفوضى». فالفوضى عنده حال أخرى تشبه تماما النظام... وجهان لعملة واحدة...وهذا جوهر العمل الأدبى الذى لا يمل من التراوح بين المعانى الحقيقية والمعانى المجازية. وهو جوهر عمل الجينيالوجى الذى كلما وصل فترة تاريخية افترض وجود طبقة (أو جيل أو....أصل) سبق ما هو بصدده، فسعى صوبه منقبا مفككا ومجريا حفرياته. وهنا يمكننا أن نقول إننا استعملنا التراث الماركسى متجاوزين العقبة الأساسية التى واجهت كارل ماركس، فهو يبدو أنه قد قتل نفسه لرغبته فى الوصول إلى نهاية التأويلات: نهاية التاريخ...
ولكن هذه حكاية (أدبية) أخرى.