البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

عيون السيبيلا


فذلكة
مما كتبه وولتر سكوت فى عام ١٨٢٩ حول كاتب العجائبيات الشهير «هوفمان»: «لقد كان رجلًا ذا موهبة نادرة. لقد كان شاعرا ورساما وموسيقيا فى آن واحد. ولكنه، لسوء الحظ، كان مصابا بوسواس المرض؛ الشيء الذى ظل يدفعه دوما إلى أقصى الحدود فى كل ما تعهد به: وبالتالى لم تكن موسيقاه أكثر من مجموعة من الأصوات الغريبة، رسوماته الكارتونية، حكاياته، كما يقول هو نفسه، كل شيء كان مبالغا فيه إلى حد بعيد. من المستحيل إخضاع مثل هذه القصص للنقد. هذه ليست رؤى الروح الشعرية. ليس لديهم حتى تلك العلاقة الواضحة التى يتركها جنون الجنون أحيانًا لأفكار الرجل المجنون: إنها أحلام عبقرى ضعيف، مدونة بحبر الحمى، والتى قد تثير فضولنا للحظة بغرابتها أو تفاجئنا بأصالتها، ولكنها لا تتجاوز ذلك إلى الاهتمام الشديد. وفى الحقيقة، فإن رؤى هوفمان تشبه فى كثير من الأحيان الأفكار الناتجة عن الاستخدام غير المنتظم للأفيون، لذا فإننا نعتقد أن هوفمان كان بحاجة إلى مساعدة طبية أكثر من حاجته آراء المنتقدين... رأى غريب من كاتب عاش على حواف التاريخ العجيب الغريب وعلى حواف التخييل فى حق رجل من المفروض أنه من العائلة نفسها. 
على يد أخرى فإنه حينما يورد الشهاب السهروردى سؤالا يضعه فى بعض مناماته ويورده على لسان «أرسطو» حول من ترى يكون أفضل؛ فلاسفة الإسلام الذين عرفوا «الحقيقة المطلقة» أم أفلاطون؟ والأفضلية حسب السهروردى تكون لأفلاطون على جميع فلاسفة الإسلام لفضل طرافة البحث وبعد مدى النتائج... وهذه ملاحظة مسحوبة على فيلسوف من فلاسفة الإسلام طبعا مما يجعلها غريبة أيضا فى حق فلاسفة من عائلته الفلسفية نفسها. 
تنويعات
على يد ثالثة سوف نجد الفخر الرازى فى دراسته لاعتقاد فرق المسلمين والمشركين يميل بقوة على جعل شخصية «هرمس» المحورية فى الفكر الإغريقى العتيق مطابقة لشخص النبى «إدريس» المتقدم فى الفكر القرآني، وهى مطابقة تدعو إلى اليقظة أكثر من دعوتها على التناول كخبر عابر... فتاريخيا يصبح محتوى الميثولوجيا الإغريقية طريقا إلى الحق بالقدر نفسه الذى يكونه القرآن الكريم، وهذا تقدم كبير فى طريقة التفكير الإسلامية التى كانت تحتوى نوعا من الانفتاح الايجابى على الآخر الثقافى.
سيكون طرحا كهذا؛ وهو واسع الانتشار كما يعلم العاكفون على الفلسفة الإسلامية، درسا ممتازا فى الاختلاف الذى ستدور حوله قطاعات مهمة من فلسفة جيل دولوز التى كثيرا ما احتفينا بها كمشروع فلسفى شديد التميز فى المشهد ما بعد الحداثي... المشروع الذى يرى المعرفة ركاما وتوسيعا للرقعة البشرية فى بحث جذمورى لا جذرى (يتوسع أفقيا بدلا من الحفر عموديا)... فجيل دولوز يضع مفهوم التعددية بدلا من مفهوم الجوهر، ويستبدل الواقعية بفكرة الاحتمال... احتمال ألا نكون نحيط بالمعرفة كما فعلت السيبيلا فى الميثولوجيا الإغريقية؛ تلك الكاهنة فى معابد أبولون التى لها عين إذا نظرت من خلالها رأيت كل شيء فى كل مكان فى اللحظة نفسها.
والواقع هو أن محرك السهروردى وهو نفسه محرك كثير من فلاسفة الإسلام؛ أى الإيمان بوحدة الوجود وتعدد مظاهره، لذا فإننا سنجد فيلسوفا حديثا همما هو كارل ياسبرز يكتب كتابه الرئيسى «الفلاسفة الكبار» على أساس اعتقاد يمكن تلخيصه بفكرة أن «الحقيقة مسار لا مادة تامة» وأن «الحقيقة اكبر من الفلسفة» – والكلام كلامه-...لكى يخلق مسافة هامة وضرورية تعودنا على اختزالها بين الفلسفة والحقيقة؛ فالفلسفة مادة الحقيقة واداتها لا العكس... ولهذا فإننا نجد فى كتابه مباحث حول كونفوشيوس، وبوذا ويسوع تجاور المباحث حول سقراط وأرسطو وافلاطون والقديس اوغسطين، وكانط...الخ الخ
إذا كان أرنست ثيودور أماديوس هوفمان شخصا مريضا فكيف سنتعامل معه يا ترى؟
موسيقاه الصاخبة التى كانت (ولا تزال) ترقص عليها جميلات الفولى بيرجير العاريات لم تعد تتعدى لحظات فرح عابرة وعلامات معينة على زمن باريسى مضى وانقضى خلدته الأعمال الأدبية الرومنسية والمصابة بالحنين المرضى للرومانسية...
هوفمان تحول فيما بعد إلى علامة تاريخية، علامة على طريق معين من طرق المعرفة التى ننشغل بها هنا. فقد درس المحللان النفسيان سيغموند فرويد وكارل يونغ عمل هوفمان من وجهة نظر التحليل النفسي.(وليسا الوحيدين على كل حال). وصف فرويد مفهومه عن «الغرابة المزعجة» - (وهو عنوان كتاب له نُشر عام ١٩١٩) - من خلال دراسة قصة هوفمان «رجل الرمل « التى ترمز، حسب قوله، من خلال تخيلات التمزيق والتسلل، والقلق إلى عقدة «الخصى عند الطفل»، ويركز فرويد على التعقيد النفسى لتخيلات هوفمان التى تؤثث القصة بصور من قبيل صورة تمزيق العينين وتركها معلقة. أما غريم فرويد «كارل يونغ» فإنه يستخدم قصة «إكسير الشيطان» لإعطاء أمثلة عن النماذج النفسية الكبرى التى تتحرك داخل النص مثل الظل، والشخصية أو الحيوان/ المتحرك.. ويثير غاسطون باشلار ملمح آخر لا يقل أهمية مما ورد لدى المحللين النفسيين؛ فهو يرى فى كتابه الهام «التحليل النفسى للنار»، أن «الكحول لدى هوفمان هو كحول الذى يلهب ؛ الكحول القوي، المذكر، الكحول الذى هو طريق النار. ويقابله مع الكحول لدى «إدغار ألان بو» الذى يصبح كحولا للغرق، للضياع فى الأشجان، كحولا يعطى النسيان والموت، محول يحيل على الماء وبالتالى على الأنوثة.. وينتهى باشلار إلى اقتراح «عقدة هوفمان» التى تمكن الكاتب، من خلال الجموح والجنون والإدمان، من تحرير الخيال إلى حدود لا قبل لنا بها.. ولكى يصبح هوفمان الذي أراده سكوت فارغا من كل أهمية علامة ثقافية (أى معرفية) أهم مما حوته كتب سكوت المليئة بالكليشهات الفارغة من الدلالة.. كل ذلك علمت به السبيلا ولم يعلمه لا هوفمان ولا الرجل الغربي. 
إلى أين يذهب بنا هذا الحديث؟
فى ظل معطيات كهذه، يمكننا البت فى أمر مهم جدا هو الكبوة الفكرية الكبيرة التى أصابت الفكر الحديث، وفكر القرن العشرين تحديدا، وهو الذى يبدو أنه قد بت فى كل أمر وفهم كل شيء واستوعب تفاصيل التجارب الحديثة كلها على تركيبها وتعقيدها، إلا شيئا واحدا: الظاهرة الإنسانية؛ فى ضوء فكرة أن الإنسان أوسع أفقا من إنسان النهضة الذي هو أبيض، عالم، أت من أفق إغريقى روماني، غير معنى بالدين إلا فى إطار حكائى غير جاد... إنسان ينتهى دوما إلى صناعة ما يسميه وولتر بنيامين «زمن الغالبين».
إنسان متحرر من التاريخ وهارب إلى الفلسفة. الفلسفة التي هى خطاب لصناعة إنسان على مقاسات الخطاب. إنسان يحدث للفلسفة أن تشمئز منه حينما تكشف ألاعيبه، وهو السبب الذى قد يكون دفع بشوبنهاور إلى توريث كلبته بدلا من الأشخاص المتعود عليهم فى مثل هذه السياقات.
والحقيقة أن الفلسفة لا تهرب من التاريخ إلا لكى تعود إليه، فالمؤرخون يستدلون دوما على العقلين الإغريقى والإسلامي، مثلا، بالظرفين التاريخى والأنثروبولوجى فى قراءة ثقافية ترى دائما مضمرات السياسة فى ظواهر المنتجات الثقافية والأدبية والفنية، وتلك طريقتنا فى العمل الموروثة عن النظرة الحديثة للخطاب.
خلاصة القول 
إضافة إلى عالم الفيزيقا الذى أولع به الإغريق فقد لاحظوا وجود عالم التمثل، المنفلت من مبدأ الهوية والتحديد: ففى ظل كون كل شيء قابلا للتحديد والحصر وبالتالى للدراسة، يوجد أيضا «apeyrion»... الذى هو عالم تعمه الفوضى/ اللا تحديد/ الانفتاح/ الهويات المفتوحة المتداخلة. 
والعلم بهذا المعنى لا يضيء إلا جزءا محدودا من العالم، تحتفظ السيبيلا بترف النظر إلى ما خفى منه.
سيتعيد هذا الشعور بأننا نحتاج دوما إلى النظر أبعد وأوسع والشك فى ما بلغناه «لاينبتز» على هامش تجديده لمبدأ الاكتفاء العلمى (وكيف أن لكل شيء أسبابه)، فالحقيقة مائعة فى حين أن العلم مولع بالأسباب والظروف.
هل ما نجده هو هو فعلا؟ المعرفة مسار لا يتوقف.. ولكن هل يذهب فى الاتجاه الصحيح؟ سؤال وجيه. ولو كانت الإجابة بنعم لما ظهر خطل رؤى وولتر سكوت الذى فهم كل التاريخ وصور كل الفترات التاريخية لكى يخطئ تماما فى التقاط ظاهرة أدبية كانت تجاوره وتقابله وتعرض نفسها أمامه..
السؤال الجوهري: كيف كان السير وولتر سكوت سيكتب تاريخياته كلها لو أنه ألقى نظرة على كل ذلك الصخب من خلال عين السيبيلا؟