البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

قلوب هائمة في دنيا الله.. الإنشاد الديني فن يؤرخ للغناء الروحاني عبر العصور

البوابة نيوز

لا تزال الأناشيد والابتهالات والموشحات الدينية تستحوذ على مساحة كبيرة ومستقلة لنفسها فى الفنون الإسلامية التى لا ينافسها أحد، حيث مر الفن بمراحل مختلفة منذ النشوء إلى أن انتظم فى قالب فنى متكامل، ولاحقًا تطور الإنشاد بشكل يلاحظه الجميع، فقد ارتبط على مر العصور الإسلامية تحديدًا بوجوده فى مختلف المجالس والمحافل الدينية لذكر الله والتهليل والتسبيح باسمه وصفاته، ومدح النبي، وتردد غالبًا فى المواسم والمناسبات الدينية لربط الإنسان بدينه.




نالت هذه الفنون حضورًا اجتماعيًا وثقافيًا منتشرًا فى العديد من الدول العربية مثل مصر وتونس واليمن وسوريا، البلدان التى أخرجت الكثير من المواهب التى نجحت فى تصوير الحب الإلهى والنبوى فى صوتها حتى وثق جمالها فى تاريخ الفن الإسلامي، ويرتبط الإنشاد الدينى فى أذهان الكثيرين بالغناء والأناشيد المرتبطة بمدح النبى محمد صلوات الله عليه وسلم، حيث تلقى «البوابة» الضوء عن تاريخ الإنشاد الدينى وعلى جذوره التى تعود إلى عهد الفراعنة.

«تبزغ فتملأ الكون بجمالك» 
عرفت مصر طريق الإنشاد الديني، وهو الإنشاد المصاحب للطقوس والعبادات وإقامة الشعائر، وأيضًا الصلوات داخل المعابد عبر مجموعة من الترانيم التى كانت تصاحب الرقص الدينى وهو أحد الفنون المتوارثة حتى الآن، وكانت أشهر هذه الأناشيد على الإطلاق للملك الفرعون إخناتون، فمعنى الإنشاد الدينى عند الفراعنة والإشارة إلى بعض النصوص والتراتيل الجنائزية التى وجدت منقوشة على جدران بعض المعابد وتوابيت الموتى أيضا والبرديات لا سيما أن الأهم بردية كتاب الموتى.
عُرِفَ المصريون القدماء بحبهم للموسيقى وشغفه بالنغمة العازبة واللحن الجميل اعتقادًا منهم على أنها تساعد على تهذيب المشاعر وترقية الإحساس وبجانب الغناء والأناشيد التى صاحبت تلك الطقوس الدينية اهتم المصريون القدماء بضبط الإيقاع وتنظيم الحركات وانتقال النغمات واللحن فهذا ما توارثه المنشدون القدماء، وبهذا ارتبطت الموسيقى بالحياة الدينية وكان لها مكانتها بداخل المعابد عند إقامة الشعائر الدينية، ولعل أكبر دليل على ذلك هى مقبرة «نفر» الموجودة بجبانة سقارة ونفر هو مطرب الملك التى تحمل العديد من الآلات الموسيقية التى كانت تستخدم فى العزف حينذاك، وكانت أشهر هذه الأناشيد نشيد أخناتون الذى ربط بعض الباحثين بينه وبين المزمور ١٠٤ من مزامير النبى داود من حيث المضمون وتوافق بعض الجمل معه، وفى بدايته «أنت تطلع ببهاء فى أفق السماء.. يا آتون الحى يا بداية الحياة عندما تبزغ فى الأفق الشرقى تملأ كل البلاد بجمالك».

«تراتيل الكنيسة»
انتشر الإنشاد القبطى مع ظهور وانتشار الديانة المسيحية، وكان يؤدى بشكل فردى أو جماعي، ولكن بعد انتهاء عصر الخلاف مع المسيحيين فقام آباء الكنيسة بتأسيس نظام للطقوس الدينية المؤلفة من الأناشيد التى يترنم بها المنشدون فى المناسبات المختلفة طوال السنة، وصاغوا كلمات وموسيقى الأناشيد الدينية وتأثروا بالشعر الغنائى فى العهد القديم أو المزامير ثم بدأت كل كنيسة فى وضع الأناشيد الخاصة بها، بعد ذلك ظهرت الموسيقى الكنسية القبطية فى الكنيسة الأرثوذكسية، ووصف عالم الموسيقى الإنجليزى إرنست نيولاند سميث هذه الموسيقى بأنها إحدى عجائب العالم السبع.
ليبقى لدينا تراث الألحان القبطية والتى حفظته الكنيسة على مدى واحد وعشرين قرنًا من الزمان، وسلمته جيلًا بعد جيل بطريقة التسليم أو التقليد الشفاهي، ويعتبر حفاظ الكنيسة المصرية على الألحان القبطية التى تسلمتها من القرون الأولى للمسيحية معجزة يشهد بها التاريخ».
أصبح الإنشاد لا يقتصر على الموالد الشعبية المرتبطة بالدين الإسلامى وإنما توجد أيضا موالد قبطية كثيرة منها مولد السيدة مريم العذراء والقديسة دميانة فى الدقهلية ومارمينا بالصحراء الغربية، وذلك جاء وفقا لإحصاء صادر عن الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية بلغ عدد الموالد الشعبية فى مصر ٢٨٥٠ مولدًا للمسلمين والأقباط.

«أحسن منك لم تر قط عينى» 
تُعد قصائد المديح النبوى عماد الإنشاد الدينى الإسلامي، والذى بدأ بنشيد «طلع البدر علينا»، باعتباره أول إنشاد فى الإسلام، وكان من أشهر الشعراء حينذاك حسان بن ثابت فارس هذا النوع من الشعر وأشهر من نظم أشعار المدح النبوي، وكان شعره فى الرسول يمتاز بالصدق والإخلاص حتى عندما سئلت السيدة عائشة عن وصف الرسول قالت «والله كما قال فيه شاعره حسان بن ثابت: متى يبد فى الداجى البهيم جبينه.. يلح مثل مصباح الدجى المتوقد.. فمن كان أو من قد يكون كأحمد.. نظام لحق أو نكال لملحد».
كما أنه ذكر فى أحد مدائحه بيتين أصبحا مصدر إلهام للشعراء المحبين للنبى محمد قال فيهما: وأحسن منك لم تر قط عيني.. وأجمل منك لم تلد النساء.. خلقت مبرأ من كل عيب.. كأنك قد خلقت كما تشاء.
لننتقل فيما بعد ذلك إلى الإنشاد الدينى بعد عهد النبوة وكيف انتشر وازدهر حيث تحول فى العصر الأموى وما تلاه من عصور مزدهرة مثل العصر العباسى إلى فن له قوالبه وأصوله وقواعده، وخلال هذه الفترة ذاع صيت إبراهيم وإسحق الموصلى أشهر الموسيقيين حينذاك وزرياب تلميذ إسحق الموصلى الذى كان من أهم من قاموا بغناء وتلحين الأناشيد الدينية، وذاع صيت مدينة حلب السورية فى هذا اللون من الإنشاد خلال هذه الحقبة.

«العصر الفاطمى»
شهد العصر الفاطمى تطور الإنشاد الدينى بشكل كبير وانتشر انتشارًا واسعًا وكانت مصر ركيزة هذا التطور، وارتبط الإنشاد الدينى فى العهد الفاطمى بالاحتفالات الدينية خاصة أن الفاطميين كانوا يحرصون على إقامة احتفال عظيم عند تولى الخلافة لإضفاء نوع من القداسة الدينية والمكانة على منصب الخليفة، بشكل الحضرة والإنشاد الفردي، إلى أن تطور الاحتفال للفقراء بالموالد الشعبية باعتبارهما من أهم منافذ الإنشاد الدينى فى الوقت الحديث وإن اختلفا فى أن الحضرة يغلب عليها الطابع الدينى البحت والنزعة الصوفية بينما تتجلى فى الموالد الشعبية تقاليد وعادات أصيلة ترتبط ارتباطًا كبيرًا بالمنطقة التى يقام بها المولد الشعبي.
وتنتشر الموالد الشعبية فى محافظات وقرى مصر وأشهرها على الإطلاق موالد آل البيت وأولياء الله الصالحين ومنها مولد الحسين والسيدة زينب ومولد أحمد البدوى وإبراهيم الدسوقى وعبدالرحيم القنائى وأبوالحجاج الأقصري.

منشدون وفرق عربية ومنافسة قوية
يزخر سجل الإنشاد الدينى بالعديد من المنشدين وفى صدارتهم فى عصرنا الحالى المنشد وقارئ القرآن نصر الدين طوبار والشيخ سيد النقشبندى ومداح النبى محمد الكحلاوى والشيخ طه الفشنى ومنشد البردة عبدالعظيم العطوانى والشيخ أحمد التونى الذى استطاع نقل الغناء الصوفى من المحلية إلى العالمية، وأيضًا مساحة كبيرة ليوجد لدينا مشدون أقباط فهم من الظواهر المهمة فى الإنشاد الدينى فى مصر حيث تخصص بعضهم فى مدح النبى محمد وأهمهم مكرم جبرائيل غالى الشهير بمكرم المنياوى الذى وُلد فى ١٩٤٧ بمحافظة المنيا وذاع صيته فى صعيد مصر فى الستينيات بالمواويل والقصص التاريخية، أضافت للإنشاد أيضًا المرأة فالمنشدات لهن دور عظيم وأشهرهن خضرة محمد خضر ونبيلة عطوة والمنشدات من الجيل الأصغر سنًا مثل آية الطبلاوى التى بدأت مسيرتها فى الإنشاد فى سن السابعة ونبوية حسان وغيرهن.
كل تلك التطورات والتغيرات كانت راسخة لحقبة زمنية كبيرة فتغيرت الأناشيد وتطورت ليحدث طفرة جديدة به فتغيرت الآلات الموسيقية والمؤدون له فكان الإنشاد: على الآلات الموسيقية ويصاحبها إيقاع سريع ونغمات مكررة، يتخلل الإنشاد الدينى كثير من الحوارات الغنائية بين المنشد الرئيسى ومجموعة المنشدين من خلفه، إذ يختار المنشد مقطع من القصيدة أو جملة ويجعلها محور جميع الردود، ثم تأتى الوصلة الثانية فيختار لها مقامًا موسيقيًّا، والهدف من تنويع المقامات هو عدم إشعار جمهوره بالملل.

يقول المنشد الدكتور أحمد الكحلاوي: عن الاختلاف الحديث فى الإنشاد فالآلات الموسيقية الشعبية فى مصر كالطبلة والدربكة والدف والرق معلم من معالم الفرح فى المجتمع، مثلًا لا يكاد يخلو بيت فى مصر من دربكة أو رق، وأيضًا لن نجد فتاة أو امرأة لا تعرف الضرب على الدربكة وترقص وتغنى على إيقاعاتها والأغنيات الشعبية أيضًا فالإنشاد الدينى لا يحلو إلا بهما وبطبيعتنا كمواطنين وأحفاد الفراعنة نميل إلى هذه الأنواع من الآلات الموسيقية، وكانت دائمًا موجودة وما نضيفه من الآلات للإنشاد هو فقط مواكبة العصر بما تقدم من أنوع موسيقية جديدة ويبقى المضمون واحدًا على مر العصور، فنجد أننا من صنعنا تلك الآلات وتلك التغيرات التى لاقت استحسان العالم على مر عصور مصر، فمثلًا: هناك ثلاثة أنواع من الآلات الموسيقية الشعبية فى مصر لا يعرف العديد أن الذى صنعها الفنان الشعبى وكانت من خامات البيئة مثل الغاب وشعور الحيوانات وجلودها والفخار، أولها آلات الإيقاع وتضم آلات ذات الرق الجلدى مثل الدف والدربكة، والآلات المغلقة من الجهة المقابلة للرق مثل البازه والنقرزان والنقارة، والآلات ذات الوجهين من الرق مثل طبل المزمار وطبل السيوى والطبل الكبير، وآلات المصوتة بذاتها مثل الصاجات والطورة والكاسات والناقوس وصاجات الباعة والمثلث، وآلات التوقيع هذه ربما كانت بديلًا أو مكملة لأقدم ما اكتشفه الإنسان من أساليب التوقيع عندما استخدم كفيه فى التصفيق ورجليه فى الدق على الأرض.

فيؤكد المنشد ونقيب المنشدين محمود التهامى قائلًا: إن الموسيقى التى أثارت جدلًا واسعًا عندما تداخلت مع الإنشاد الدينى هى نمو وتطور طبيعى لمواكبة تطور العصور فأعتقد أن القالب الغنائى لا مساس به فقط أدخلنا تطورًا موسيقيًا وهذا كان موجودًا من أيام الرسول كالغزل فيه ومديحه، ويتم ترديدها فى سهولة ويسر ودون مشقة، وهى تحمل قيمًا جمالية وفنية عالية لراويها، وأضاف التهامي، أن أسوأ فترة فى الإنشاد الدينى كانت السبعينيات لأن الفن الشعبى اختلط بالإنشاد، وذلك لم يكن موجودًا مسبقًا ولا توارثه إلا الداخلين عن الفن بالخطأ، كما أن فن الإنشاد الدينى أصبح عالميًا ويشارك فى مسابقات عالمية ويفوز بجوائز، مؤكدًا أن الاشتراك فى مسابقات الإنشاد الدينى العالمية يساعد على نشر مبادئ الدين الإسلامى الوسطية الصحيحة ودخول الآلات المتعددة كان إضافة لنهضة الإنشاد حتى يتجمع حوله العديد من الشباب والأطفال والنساء والشيوخ أيضًا، وهذا ما نتمناه لأنفسنا حتى نسمو بديننا للرقى بأى طريقة ماعدا الطرق الخاطئة.

وأضاف الدكتور عامر التونى مؤسس المولوية فى الوطن العربى قائلًا الإنشاد الدينى متواجد من قبل أيام سيدنا محمد ولم يتناف مع ديننا فكان بدايته مع بداية الأذان، وكان الصحابى بلال بن رباح، رضى الله عنه، يجود فى أذانه كل يوم ٥ مرات، ويرتله ترتيلًا حسنًا بصوت عذب، فدمج الإنشاد الدينى بالموسيقى المختلفة هو الحفاظ على هويتنا الإسلامية ليصل بها إلى كل الثقافات، كما أنه هو الحصن الأخير للحفاظ على العديد من التراث الموسيقى الشرقى والعديد من الآلات الشرقية التى أصبحت تعانى الإهمال، ونحرص من خلال تقديمه على إيصاله للأجيال الجديدة وتعريفهم به أكثر، وأعتبر أن مشروع عمرى هو إحياء هذا التراث الفنى الغنى الذى يتميز بتعدد روافده، من الهند إلى مراكش ومن آسيا الوسطى إلى اليمن وأفريقيا، وعلينا نقل الإنشاد بالموسيقى لنواكب العصر كما يحدث فى كل شيء، فلدينا العديد من المقامات التى درج استخدامها فى الإنشاد، مثل الحجاز والبياتى الحسينى والنهاوند والكوردير، وبشكل عام فإنه من الفنون الراقية التى تقدم المعانى السامية، والكلمات التى تهذّب النفس وتشبع الروح، وتقديم هذا النوع على خشبة مسرح الأوبرا أمر مطلوب وضروري، ليحمل تراثنا العربى والإسلامى إلى العالمية.

ويقول المنشد «نور السيد»، مؤسس فرقة الحضرة للإنشاد الديني: لا خلاف على دخول الآلات الموسيقية فى الإنشاد الدينى فكان سابقا ينشدون بالدف والناى وتطور الإنشاد بالعود والرق وتناولنا تلك الآلات عنهم لم نكن نعرفها لأنها صنع أيادى فتنوَّع المضمون الذى يتضمَّنه النشيد الإسلامى لأنه مناجاة رقيقة تحلِّق بالروح بعيدًا عن ثِقَلِ الأرض، وبعضها أناشيد مبهِجة كى تُقال فى حفلات العرس الإسلامية، فلا يصح عرس بدون موسيقى كما يحرم البعض ذلك، ولكن أكثر ما يميِّز النشيد الإسلامي من جهة المضمون هو اهتمامه بواقع الأمَّة الحالى وعمله على رفع وتحفيز الأمة للنهضة، والتذكير بالمجد التليد الذى كان، والجرح الأليم الذى ينزف، وإشعال جذوة الجهاد فى النفوس التى ركنت للأرض طويلًا.
ويتابع: ذات مرة قالت لى فتاة فى بداية التزامها عندما حفَّزتها كلمات الأناشيد: إنه لون رائع من الفن، ولو أُتِيح للشباب اللاهى والمتسكِّع والجالس على المقاهى أن يستمع إليه، فربما تغير مجرى حياته تمامًا، هذه الكلمات ربما غلب عليها الانبهار بلونٍ من الفن لم يعتده شبابنا، ولكنه يمثِّل الحقيقة على نحو ما إذا تَمَّ كانت الاستفادة القصوى من هذا الفن الهادف الجميل.