البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الإنشاد الديني «طرب» دنيا الزاهدين

البوابة نيوز

ثمة اتفاق ضمني بين المهتمين على أن أفعال جماعات الإسلام الحركي تركت بصمات سوداء على مزاج المصريين، من حيث تبني تلك الجماعات أفكارًا متنافية تمامًا مع الأديان.

شيء واحد لم تطله تلك البصمات، وهي حالة صوفية تنتعش مع كل قدوم لشهر رمضان المبارك، والصوفية المقصودة ليست تلك المقتصرة على الجلوس في الحضرات أو ترديد الأوراد، لكنها «صوفية الإنشاد».. التي يحتشد في جلساتها محبون من غير المتصوفة، أتوا طامعين في أوقات من الصفاء الروحي.

الحالة تلك يقيّمها مشايخ الصوفية بــ«الظاهرة الصحية»، إذ قال الشيخ عبدالخالق الشبراوي، شيخ الطريقة الشبراوية، إحدى الطرق الصوفية فى مصر، إنها تعبّر عن انتصار رمزي حققه الشعب على جماعات التطرف، ولفت إلى أن الميل الجمعى نحو الإنشاد وألوانه يعتبر في حد ذاته مؤشرًا على أن بذور الاعتدال وحب الفن مازالت باقية في هذه البلاد. ولا ينفى «الشبراوي» فشل الصوفية في الاحتفاظ بمكانتها التقليدية في النفوس، إذ نجح الإسلاميون فى تكوين حالة رفض لها، مشيرًا إلى أنه؛ وعلى الرغم من ذلك مازالت قادرة على المقاومة، ويقول إن الصوفية تحمل مقومات الدفاع عن نفسها، وأبرز هذه المقومات هو الإنشاد الديني، باعتباره فنًا، «والفن يقدر على اختراق الأرواح حتى لو رفضته الأفكار».


لماذا يميل الشباب إلى تذوق الإنشاد؟

إذا كان الحديث عن قدرة الإنشاد على جذب جمهور جديد من المستمعين في شهر رمضان أمرًا صحيحًا، فتحديد هذا الجمهور في فئة الشباب ربما يكون أكثر صحة.

ويعتبر الميل الشبابي نحو الإنشاد والتصوف بشكل عام ظاهرة حديثة، تُرجمت في استضافة المراكز الثقافية للفرق الإنشادية، لاسيما دار الأوبرا المصرية التي تقيم حفلات إنشاد بشكل دائم ضمن فعالياتها الفلكلورية.

وتعد أحدث هذه الحفلات، تلك المقرر عقدها بالمسرح المكشوف بدار الأوبرا، السبت الموافق ٢٥ مايو، ويحييها شيخ المنشدين، ياسين التهامي. وعلى مدار الأعوام الأخيرة انضم الشباب إلى جمهور «التهامي»، فلم يعد ذلك المنشد الذي يتردد على الموالد ويقتصر جمهوره على المتصوفين، أو كبار السن أو من تعدوا حاجز الأربعين فقط، بل بات ضيفًا أساسيًّا على مزاج من هم في عمر العشرين أو يزيد قليلًا.

وعبّر «التهامي» عن ارتياحه لذلك في حوار صحفي له قبل عامين، إذ سُئِل وقتها عن رأيه في التذوق العربي للإنشاد، وقال: إنه مطمئن لجمهور يعشق الإنشاد ويردده.

ويحظى «ياسين التهامي» بنصيب الأسد من اهتمامات الشباب، إذ يأتي في المرتبة الأولى للأكثر استماعًا من قبلهم، فيما تحل في المرتبة الثانية فرق إنشادية حاولت أن تواكب المزاج الشبابي، من بينها «فرقة الحضرة الصوفية» التي تشارك في حفلات داخل مصر وخارجها، وفرق أخرى سورية تعتمد على تقديم منتج خفيف، مثل «المرعشلي، وأبوشعر» اللتين قدما إلى مصر عقب الحرب السورية (٢٠١١).

ويُرحب المنشد الأزهري، صاحب الجمهور الشبابي، إيهاب يونس، في حديثه لـ«المرجع» بميل صغار السن إلى الإنشاد، مفسرًا الحالة بأن الإنشاد في مصر تَمَكَّنَ من تقديم نموذج شبابي، يعتبره امتدادًا للإنشاد الكلاسيكي (إنشاد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي)، ويضيف أنهم تمكنوا من تطوير الألحان؛ إذ سمحت لهم باستحضار التراث بصورة لاقت انبهارًا من قِبَل الشباب. ويعتبر «يونس» ذلك مكسبًا؛ إذ لم يعد الإنشاد مقتصرًا على موالد الصوفية (احتفالات شعبية تُلقى فيها الأشعار الدينية بشكل غنائي)، بل امتد إلى أبناء الطبقة المتوسطة والثرية وأصحاب الأعمار الصغيرة، بعدما كان مقصورًا على كبار السن فقط.


أمين الدشناوى.. ريحانة المداحين

يتعامل المصريون مع ألحان سيدة الغناء العربي، أم كلثوم كموسيقى تصويرية لحياتهم، لا يضطرون لتشغيلها بل يكفى أن يمروا بجوار مقهى أو يستقلوا سيارة أجرة لتصادفهم واحدة منها.

الأغنيات التي استقرت بوجدان المصريين وتعود إلى خمسينيات القرن الماضي لم تعد تقتصر على جلسات السمر أو البضع ساعات التي تخصصها الإذاعات المصرية يوميًّا لبثها، إذ وجدت لنفسها مكانًا جديدًا في حلقات ذكر يؤديها مدّاح مصري جاء من الصعيد هو أمين الدشناوي (٥٥ عامًا)، والذي يلقى قصائد مدح على نغمات أغنيات الست.

يؤكد «الدشناوي» (نسبة لمركز دشنا بقنا جنوب مصر) أن ذلك يأتي بمحض المصادفة نتيجة استماعه الدائم للكبار مثل الشيخ محمد رفعت وأم كلثوم التي تعلقت ألحانها بذهنه، ويوضح في حديثه لـ«المرجع» أن ذلك ربما يكون سبب شيوع قصائده في الأوساط الشعبية، باعتبار اللحن متعارفًا عليه.

ورغم أن المدّاح المصري لا يرى أزمة في المدح على ألحان غنائية فإنه يرفض أن يسمي ما يؤديه «غناء»، فيقول «لا أغني ولا أنشد أنا مدّاح وهناك فرق بين الثلاثة»، موضحًا أن المدح مرتبة أعلى من أغنيات الغزل في الحبيب أو الإنشاد الذي يؤديه شخص صوته جميل ولا يشترط أن يشعر بالكلمات».

لم يدرس «الدشناوي» المقامات الموسيقي لكنه اتقنها من سنوات عمله الطويلة بالمدح التي بدأها من عمر التاسعة،

فيقول: «لم انشغل بشيء غير المدح، فكنت أنام مادحًا وأصحو مادحًا للدرجة التي خشى بيتي فيها على دراستي وقرروا حبسي، لكن أحد مشايخ الصوفية بقريتي طلب من والدي تركي للمدح فاستجاب».

وانتقل بعدها إلى جنوب مصر في أسوان، حيث شيخ يدعى «أحمد أبو الحسن» الذي تردد عليه «الدشناوي»، ويقول «هناك تفتح عود ريحان عم عطره جنوب البلاد ليلقبني الناس بريحانة المداحين».

وعن وقوفه على المسرح يوضح: «ليس لدي أزمة في أن أقف على المسرح خمس ساعات متواصلة، لكن أحتاج فقط إلى نصف ساعة قبل أي حفل أجلس فيها إلى نفسي لأرتب ما أقوله وكيف»، ليبدأ كل حفلة بوضع يده اليسرى على نصف وجهه في حركة لا إرادية يذهب بها لحالة روحانية تنتقل تدريجيًّا إلى مستمعيه.

ومن مهندسي مصنع سكر بقريته كانوا يطلبونه ليمدح أمامهم في عمر التاسعة، إلى القاهرة في ١٩٧٧، حيث السفر إليها ليسمعه سكان العمارات وجالسو المصاطب، إلي جمهور فرنسي أنيق يجلس داخل مسرح شاتليه (أحد أكبر المسارح الفرنسية)، بحضور الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، كانت رحلة «الدشناوي» مع المدح.

ويقول: «تلقيت دعوة من وزارة الثقافة الفرنسية للمشاركة في حفل بمناسبة عيد الجمهورية الفرنسية وهناك وقفت على مسرح شاتليه الذي وقفت عليه أم كلثوم في الستينيات لأصبح ثاني عربي يقف على هذا المسرح».

وتابع: «أديت قصيدة في مدح النبي أمام الرئيس الفرنسي ليبلغني متابعوه بإعجابه بما قلته»، وتكررت هذه الزيارات بعد ذلك سواء إلى فرنسا أو ألمانيا والسويد.

وبخلاف حلقات الذكر التي يحضرها صاحب الصوت العذب، يشارك في جلسات عرفية لفض النزاعات الثأرية التي قد تنشب في بعض قرى الصعيد.

ويروي «الدشناوي»: «حضرت في إحدى الجلسات لمدح الرسول احتفالًا بفض نزاعات بين عائلتين، فنشبت خلافات تطورت إلى إطلاق نار، ويتابع: أمسكت الميكرفون من تحت طاولة اختبأت تحتها لألقى قصيدة في مدح النبي ليتوقف الرصاص تدريجيًّا بعدما استمر لساعة كاملة».

وتحضر مصر في قصائد «الدشناوي» سواء كونها حظيت بحضور بعض آل البيت إليها، أو بدعائه في قصائده لها بالاستقرار، وفي هذا أحيا «الدشناوي» حفلًا بمحافظة قنا فى تنصيب الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيسًا للجمهورية عام ٢٠١٤.


قوة ناعمة فى مواجهة الإرهاب

لأعوام طويلة قُدمت الصوفية، كحل لمواجهة التطرف، وطُرح مؤخرًا رأي أكثر تحديدًا خص الإنشاد، قال أصحابه بأن الطرق الصوفية ربما يكون حلًا أكثر فاعلية في حماية الأرواح من الإنزلاق نحو التشدد. واستند هؤلاء على السهولة التي يتسلل بها إلى الأرواح حتى لغير المتصوفين، لاسيما الحضور القوي الذي حققه في أوساط الشباب، مشيرين إلى أن ذلك مهم في ظل اعتبار شريحة الشباب الأكثر استهدافًا من قبل الجماعات الإرهابية.

واعتبر المنشد الديني، إيهاب يونس، في تصريح لـ«المرجع» أن الإنشاد ليس فقط وسيلة لمواجهة التشدد، بل هو الوسيلة الأسهل لذلك، مفسرًا رأيه بكون الإنشاد فنًا، والفنون دائمًا ما تكون قادرةً على اختراق الروح.

وأشار إلى أن الإنشاد يعتبر سبيلًا للتسلل إلى حياة الشباب العربي المتعاطف مع التنظيمات الجهادية وأبواقها، والرافض للاستماع لغيرهم من خطب أو مشايخ، مشددًا على إنهم يتعمدون شغل الفراغ الروحي للشباب.

ويكفي للتأكيد على قوة الإنشاد في شغل الفراغ الروحي، استعانة تنظيم «داعش» الإرهابي به في أناشيده الجهادية لتحميس أفراده واستقطاب منضمين جددًا، لاسيما التنظيمات السابقة عليه التي استندت إلى الإنشاد في توفير مادة مسموعة لتوصيل أفكاره لتابعيها. أما عن قوة الإنشاد في تحسين صورة المسلمين بالغرب، قال «يونس» إن رجال دين من العالم الإسلامي عكفوا طوال الفترة الماضية على تحضير خطب دينية تنفي عن المسلمين «التطرف»، مشيرًا إلى أن الإنشاد أبلغ من أي خطبة، «فالحديث السردي المستعين بالآيات والأحاديث عن وسطية الإسلام يمكن توصيله في قصيدة جيدة، ولحن متقن، وصوت جميل».

ولفت إلى أن هذا الأمر تم بالفعل منذ بدأ المنشدون العرب يجدون طريقًا لهم إلى القارة الأوروبية، مطربين لجمهور غير عربي عن الإسلام وسماحة رسوله؛ ليبدأ الجمهور في البحث عن ترجمة الكلمات التي تكون في الغالب بداية تعرفه بالإسلام.

واتفق مع الرأي القائل بأن المنشدين العرب مطالبون باختيار القصائد، التي يقدمونها للجمهور الغربي؛ بحيث لا تكون مركزة على شكل الرسول صلى الله عليه وسلم، بقدر تركيزها على خلقه ورسالته، إضافةً إلى اختيارهم قصائد تتحدث عن تلك القواسم المشتركة بين المسلمين وغيرهم من الأديان الأخرى، مثل الحب الإلهي.


مدارس الإنشاد.. محاولة للإرتقاء بالفن الصوفى

على خلفيات المكانة التي يحظى بها الإنشاد، جاءت بوادر مبشرة في ديسمبر ٢٠١٣، تفيد بحصول المنشدين المصريين على موافقة تسمح لهم بإنشاء أول نقابة للإنشاد في المنطقة العربية.

ورغم أن تلك النقابة لم تتمكن بعد من عبور طريقها إلى التنفيذ بفعل خلافات عالقة مع وزارة الأوقاف، فقد لجأ المنشد المصري والمتبني لمشروع النقابة، محمود التهامي، إلى تأسيس مدرسة للإنشاد الديني، مهمتها تخريج دفعات من المنشدين الدارسين من الأعمار كافة. ويقول التهامي لـ«المرجع» في شرحه لأهمية تلك المدرسة، إن سبب تأسيسه لها، قناعته بأن أغلب منشدي مصر يفتقدون للدراسة الأكاديمية، مشيرًا إلى أن ذلك تسبب في تراجع الإنشاد المصري بالمقارنة بأوضاعه في المنطقة العربية، كما في المغرب العربي مثلًا أو سوريا.

ورغم ذلك يرفض نجل شيخ المنشدين التهامي الكبير، أن يقر بتأخر الإنشاد الديني في مصر عن المنطقة، مشددًا على أن الريادة مازالت له، مستدلًا على ذلك بالأسماء الكبرى التي تأتي إليها الفرق العربية للتعلم، مثل والده الشيخ ياسين التهامي. ولفت التهامي الابن إلى أن أهداف مدرسته لا تقتصر على ذلك فقط، بل تتطرق إلى مواجهة التطرف، إذ يقر أن الإنشاد آلية مثالية لمواجهة التشدد وتقوية عود هذا الفن من شأنه أن يكون حربًا على الإرهاب. وعلى مدار السنوات القليلة التي عملت بها المدرسة تمكنت من تخريج خمس دفعات بين أطفال وشباب من الجنسين، من بينهم شاب في عامه الـ٢١، هو «محمود خالد» ابن محافظة سوهاج، جنوب القاهرة.

والتقى «المرجع» بالشاب السوهاجي، الذي قال إنه عرف موهبته منذ المرحلة الابتدائية من تعليمه، وأنه على مدار هذه الفترة منذ إدراكه لموهبته وحتى قبل التحاقه للمدرسة كان يحاول تطوير نفسه، وتابع قائلًا إن التحاقه بالمدرسة كان حدثًا محوريًّا في تجربته، مشيرًا إلى أنها غيرت رؤيته كليًا للإنشاد. وأوضح أن أهم التحولات التي طرأت عليه كانت معرفته الفرق بين المقامات وكيفية التنقل بينها، لاسيما قدرته على تذوق الكلمات بروحه لا بعقله. ويقيم المبتهل المصري، علي الهلباوي، مثل هذه النتائج التي حصدها "محمود" من التحاقه بالمدرسة بالجيدة، معتبرًا أنها ستكون فارقة في تقويم أداء المنشدين بمصر.

وأوضح أن مصر تفتقد كثيرًا وجود أكثر من مدرسة للإنشاد، عكس دول أخرى يحظى فيها هذا الفن بأهمية ملحوظة، ضاربًا المثل بدولة مثل باكستان التي تضم ١٦ مدرسة للإنشاد الديني. واعتبر نجل الشيخ الراحل محمد الهلباوي، القارئ والمُبتهل فى الإذاعة والتلفزيون المصري، أن المدرسة خطوة على الطريق الصحيح، متمنيًا أن تشهد الفترة المقبلة تدشين المزيد من المدارس المتخصصة في تدريس هذا الفن.

ويدرس الطلاب في هذه المدرسة المقامات الموسيقية وأشعار صوفية وكيفية تذوقها والشعور بها، فيما تبدأ عملية الالتحاق بها بتقديم من يرى في نفسه الموهبة طلبًا بالالتحاق، ليدخل في مرحلة الاختبارات التى يعقدها محمود التهامي بنفسه برفقة مختصين في الإنشاد والموسيقى.

وبناء على تلك الاختبارات يقع الاختيار على أصحاب الموهبة الحقيقية ليمروا بمرحلتين من الدراسة؛ الأولي معنية بدراسة المبادئ الأساسية للموسيقى والتواشيح التراثية، ومن يثبت قدرته على اجتيازها ينتقل إلى المرحلة الثانية ويُسمى الملتحق بها بـ«المنتخب»، وفيها يدرس الملتحقون مراحل أكثر تخصصًا عن المبادئ الأولى للموسيقى والإنشاد.

وتعقد المدرسة دروسها بالمناطق الأثرية، من خلال التعاقد مع الجهات المسؤولة عنها لتوفير المكان لطلابها، ويعد قصر الأمير «طاز» أحدث هذه الأماكن، إذ تشهد حجراته فترات دراسة وحفلات التخرج.