البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

كراهية الجغرافيا


اعتقد اليابانيون أن إلَهْ الشمس "أماتيراسو- كامي"، فتح عليهم أبواب الجحيم؛ حين سطعت سماء "هيروشيما"، بومضة فضية كئيبة تعمي الأبصار، يكتنفها انفجارًا مهولًا، حرارة مركزه عدة ملايين درجة مئوية. لم يكن الإله "كامي"، بل هو الأشَد وطأة؛ الرئيس الأمريكي"هاري ترومان" وقد أصدر قراره بقصف اليابان بالقنبلة النووية.
لحظتها؛ انبري الانشطار اللانهائي لنظائر اليورانيوم المُشِّع U238" " يحرُّث الإنسانية - بلا رحمة. دامت نوبة الذُعر لدقيقتين فقط؛ لكنهما غيَّرتّا وجه العالم.
كان الهدف الحقيقي من السحق الذري للجُزر اليابانية هو؛ فرض قانون الإمبراطورية الأمريكية الجديد، الكاره للجغرافيا من وقتها؛ والقنبلة النووية باتت سلاح رادع وكابوسي، لأي محاولات تمدُد جغرافي محتمل، عساهُ يُغَيِّر موازين النفوذ في العالم؛ فديمومة الحدود الإقليمية ثابتة تُتيح استقرارًا سياسيًا - ولو شكليًا، يلفظ حكومات طيّعة، تُبرم معها ثنائيات الشراكة الإستراتيجية المجحفة، المسترشدة بخرائط الثروات الطبيعية والمعدنية.
التدخُل العسكري الأمريكي حسَمَ الحربين العالميتين، غير أنَّ الولايات المتحدة - وهي القوة المفرطة - من بعد الحرب الأولي، لم تأخذ نصيبها في التعويض عن خسائر الحرب، من الإرث الجغرافي للإمبراطوريات المهزومة في الحرب (العثمانية , الألمانية، الروسية)؛ مثلما اقتطعت منه فرنسا وإنجلترا في "سايكس بيكو"، و"فرساي"، إنما تسلمت أطنان من سبائك الذهب. انجلترا وفرنسا، كانتا علي استعداد لبذل أي شيء يُرضي المارد الأمريكي، ليعود من جديد إلي عزلته وراء المحيط الهادي؛ اعتقادًا منهما أن فَرض النفوذ، لن يكون إلّا عبر التواجد الإستعماري للجغرافيا! 
فالواقع أن؛ أوربا العجوز (الملكية، الجمهورية، الملكية الدستورية) لم تتخلَ يومًا عن التفكير، بمنطق وأطماع الأمير الأوربي في القرون الوسطي، المفتون بآفة النهم الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية، التهم الاتحاد السوفيتي من الجغرافيا (الأوربية والأسيوية)، ما لم يحلم به أي فارس أوربي علي مر العصور . 
ونلاحظ أيضًا: أن الولايات المتحدة لم تبحث عن الجغرافيا، أو تكترث بحظيرة الجغرافيا السوفيتية المهولة، بل استخدمتها سلاحًا ضده؛ إدراكًا منها أن الاحتضان الواسع للجغرافيا، يَحمل في نواتهِ فيروس التفكُك الذاتي، وفالج الزلازل الإستراتيجية الناجمة عن تباين: القوميات، والأعراق، والأديان، داخل نظام سياسي واحد، ما سيؤدي في النهاية لانفراط الزمام الأمبراطوري، المفروض بقوة السلاح لكبح تطلعات الشعوب.
الاستعمار الجغرافي، خلاف أنه عبء ثقيل علي أجنحة وقلب الإمبراطورية الأم؛ هو فرضية محكوم عليها تاريخيًا بالزوال بعد عصور- طالت أو قصرت - من الهيمنة والسطوة . 
ومن هنا ؛ يمكننا رؤية الحرب الباردة - خلاف أنها تناحُر أيدولوجي - بمثابة صراع بين فرضيات : الجغرافيا واللاجغرافيا . وإذ نطبق هذا التصور بعَقد مقارنة بين : الأمير الأوربي، والملياردير الأمريكي. ملك بلجيكا، بيل جيتس؛ كمثالين. ملك بلجيكا : يزهو في سُترة عسكرية متخمة بالأنواط والنياشين، لديه سيادة جغرافية - محدودة - وتاج ملكي يستمد شرعيته من الماضي وحده، ينحدر من سلالة عريقة لها تاريخ . 
أما بيل جيتس: يرتدي "الجينز والتيشيرت"، يمتلك تقنية عابرة لكل أنحاء جغرافية العالم، ولا يعيش إلّا في حومة المستقبل، متجاوزًا فكرة التاريخ نفسها. التحولات التاريخية الكبري، تسير وفق قوانين التطور التي تسنها القوي الأكثر مواكبةً للعصر؛ فالجغرافيا مهما اتسع نطاقها، لا يمكنها اعتقال الزمن الوثّاب خلف حدودها، أو إعادة عقارب الساعة للوراء؛ لذلك كان من المنطقي أن تنتهي الحرب الباردة لصالح؛ اللاجغرافيا الأمريكية .