البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

اللغة وأنظمتها البيئية


فذلكة
«المفردة» تعنى اللفظ أوالصوت اللفظى، غير أن ارتباط هذا الصوت بكينونة متعالية جعلها logos، صفة تخص قوى التحكم بالكون فى الموروث الإغريقى، وتخص الذات الإلهية فى الفكر المسيحى، لكن الفكر المسيحى نقل الفكرة إلى مرحلة ثانية هى مرحلة الخلق المتجسد؛ ومن هنا كانت الافتتاحية الإنجيلية «فى البدء كان اللوغس، ثم تحول إلى كينونة متحققة» وقد أخذ اللوغوس يبحث له عن امتدادات أهم ما يثيرنا فيها فى هذا المقام هو بنوة العم التى ربما ترتقى السلم التاريخى لتصير أخوة مع لفظة «لغة»، فبين «لوغوس» و«لغة» لا يوجد سوى الحد الجغرافى الواهى.
هل لغة/لوغوس هى الكلمة التى نطق بها آدم أول الأمر، وهو يحاول أن يتكلم لكى يفهم أو يشرح رؤيته المبكرة للأشياء؟
تنويعات
إن مقاربة اللغة هذه؛ والتى يجب ألا ننسى أن الثقافة الكلاسيكية فصلت فى إنسانية الإنسان بواسطتها (الإنسان حيوان ناطق) مثيرة جدًا من زاوية كون اللغة جسدًا ملموسًا دالًا على قوى غائبة.
إنها نفسها صفة الكلمات التى تحضر فيزيائيا لتختزل الأشياء وتعوضها الأصوات (تلك الموجودات الفيزيائية) التى تقوم بتورية متلازمتين دائمتين فهى تخفى الشىء الذى يكون غائبًا عنا، وتستحضره من خلال الخصائص اللغوية الفريدة التى تربط الصورة الأكوستيكية بالصورة الذهنية دائمًا وأبدًا.
مما يرويه إدوارد سابير، وهو الخبير الكبير بلغات الهنود الحمر، أن كثيرًا من الهنود الحمر حافظوا على تقليد غريب وصلهم من سالف الحقب البائدة، ذلك هو التقليد اللغوى القائل بأن التذكير والتأنيث ليسا حالتين لنمط واحد من الكلام بل إنهما خطابان مختلفان تمامًا.
ففى كاليفورنيا، ولدى بعض القبائل المتميزة بالمحافظة على عراقة أدائها الغوى دون عظيم تغيير، يحدث أن هنالك من «يستعمل نوعين من المفردات ونوعين من التراكيب: واحد للنساء وآخر للرجال أى أن لفظة بيت تكون كلمة مغايرة فى لغة النساء للفظة بيت نفسها فى لغة الرجال. وهناك لغات لا تعرف لفظًا واحدًا عامًا لفكرة عامة، ولا تستطيع التجريد، فإننا نقول أكل خبزا وأكل لحما وأكل عنبا،
أما عندهم فلكل نوع من الأكل لفظ خاص، فعل أكل فى «أكل عنبًا» هو غيره فى «أكل موزًا» ولا يقف الأمر عند هذه الغرائب بل نجد أن الفعل الماضى يكون غيره فى المضارع وليس كما هى الحال عندنا حيث نقول أكل يأكل».
هذه الآثار نجدها فى كل اللغات فى واقع الأمر، فالعربية تؤنث الحمار إلى أتان، والرجل إلى المرأة والأسد إلى اللبؤة، وشرب فى الفرنسية تنتقل بين boire وingurgiter وprendreو se taper وsiroter وsusurrer..
وإذا كنا ننظر إلى هذه الظواهر اللغوية على أساس كونها تعقيدات قديمة يعمل التطور على نبذها فائدة قواعد ذات طواعية، من جهة، وذات قابلية للتلقين، من جهة أخرى، فإننا لا نستطيع تجنب الشعور بحسرة ما لهذه الأنظمة اللغوية المضبوطة التى تفصل فى الأمور فصلًا تامًا وكاملًا، وتقطع كل إمكانيات الحركة، ولا تكون واسعة الشبهة شاسعة اللبس كثيرة التلاعب، فتكون اللغة بذلك عاملة وفعالة أكثر، دون الوقوف عند التفاصيل، وهو المنزع الذى تنزع إليه اللغة فى تطورها باستمرار.
على يد أخرى، يبدو أن ميدان العبارات -حسب ميشال فوكو العزيز علينا دوما فى هذه المقامات- يتحدد حسب اعتبارات ومعطيات تاريخية، ويتميز بأنواع مختلفة من الوضعية، وينقسم إلى تشكيلات خطابية متمايزة، إنه ميدان لا يتخذ هيئة سهل أو أرض منبسطة تمام الانبساط لا نتوء فيها ولا انحراف، تمتد بلا نهاية، مثلما اعتقدت ذلك فى البداية عندما كنت أتحدث عن «مساحة الخطاب» لن يظهر كعنصر ساكن، صقيل ومحايد، تأتى الخطابات لتستوى فيه وتنتصب، كل منها وفق حركته الخاصة، أو تأتى إليه مدفوعة بدينامية غامضة: دينامية موضوعات وأفكار ومفاهيم ومعارف. بل يتعلق الأمر بكتلة معقدة، تتمايز فيها جهات مختلفة، وتنتشر فيها حسب قوانين نوعية، ممارسات لا يمكن أن تكون متطابقة، وعوض أن نعثر فيها على كلمات تعبر بالأحرف البارزة عن أفكار نشأت فيما قبل، وفى موضع آخر، كلمات مصفوفة على الكتاب الميثى الأكبر للتاريخ، نجدها داخل سمك الممارسات الخطابية، وأمام منظومات تقيم عبارات، مثلما تنشئ الأحداث (لها شروطها وميدان ظهورها) وأشياء تتضمن إمكانيات وحقل استعمالها. فجميع منظومات العبارات تلك (الأحداث من جهة، والأشياء من جهة أخرى) هى ما اقترح تسميته Archive؛ نظام احتفاظ العبارة وظهورها». (حفريات المعرفة - ص١١٩)
السؤال الذى يفرض نفسه هو: هل من لغة للحيوان.. هل من حيوان للغة؟
هل الدليل اللغوى ميزة إنسانية تستثنى كل ما هو غير إنسانى أم أن للحيوان أيضًا لغة؟
سؤال متكرر دائمًا.
لقد وضح ماكس فون فريش فى تجاربه الشهيرة حول طرق التواصل لدى النحل أن هنالك لغة لا شك فيها تتفاهم بها عناصر النحل، إشارات مثل الدوائر والأقواس والدوائر المزدوجة على شكل الرقم ٨، وسرعة الدوران.. إلخ، وهى إشارات دالة على مجموعة معينة من المعلومات المرتبطة لأغراض النحل وممارساتهم الحيوية.
ولكن الرأى الغالب هو أنه إذا كانت هناك فعلًا عملية تواصل لدى النحل، فإننا لا نستطيع عدّ هذا التواصل لغةً، لأن سريان المعلومات لا يفضى على الحوار، فالمعلومة التى تبعثها النحلة لا تستدعى إجابة، إنها وحيدة الاتجاه، محدودة الأداء، لأنها لا تفعل سوى تهييج أداة تواصلية نفعية متعارف عليها.
ويلخص إيميل بنفنست الفرق بين التواصل لدى النحل كما وصفه فون فريش والتواصل البشرى كما وصفته أجيال اللغويين والألسنيين المتعاقبة، بأنه يكمن فى كون اللغة منظومة إشارية، فى حين أن تواصل النحل يمثل فقط قانونًا إشاريًا، والقانون مغلق، وحيد الاتجاه، محدود الفعالية، مستغن عن الآفاق الاجتهادية، وملغٍ لكل هامش من هوامش المناورة، فى حين أن المنظومة هى إسقاط نسق معين على عناصر معطاة، ولكن النسق منفتح والعناصر متوالدة، ولذلك فهامش المناورة (من خلال الأخذ والرد والحوار) واسع وأفق التحرك بالعناصر فى إطار النسق الواسع، وهذا ما يفسر التطور المستمر للغات البشرية فى مقابل السكونية الكبيرة لقانون التواصل الحيوانى.
خلاصة القول
الكوسموس لدى الإغريق كلمة تحيل على التنظيم، وهذا يحيلنا على الخطاب بالمعنى الفوكوى؛ أى تنظيم عناصر اللغة لتحديد عناصر العالم.
وبين اللوغوس والكوسموس عتبة صغيرة الغالب فيها أن تكون تقليدية؛ أى أنها عادة سيئة فقط. لا شىء يعدو كونها كذلك.
فاللوغوس إذا بحثنا عنه فى بطون الكتب والتقاليد الإنثروبولوجية، نجده قد تورط فى كونه يمثل الله (الذى كان وهو دائما فى البداية، وهو نفسه البداية) ويختصر العقل (الذى هو ترتيب لغوى) ويختزل القدرة على الإبداع، والمعرفة المتصلة بالله والنظام والعرف والعام والبديهية، ثم صار - بفضل المفسرين - القوى الخفية المتحكمة فى الكون، ثم حوله رجال الكنيسة إلى مرحلة «الحلول» والتجسد الدنيوى ليصبح اللوغوس (اللغة ممتلكًا كيان ملموس بشرى (لحم ودم) وهو ذات المسيح نفسها.