البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

بطون الكتب وظهورها


ماذا يوجد فى بطون الكتب مما يخيف الساسة؟ وهل تصرف أفلاطون كرجل سياسة حينما قرر حرق جميع كتب ديمقريطس؟ هل كان أفلاطون يتحكم فى الشباب الأثينيين ويطمع فى الهيمنة على عقولهم بطريقة رجال السياسة؟.. وليست الإجابة مهمة لأن بعض الطلبة المقربين قد أثنوه عن الفكرة بحجة بسيطة جدا هى أن كتب ديمقريطس منتشرة أكثر جدا من الحد الذى يجعل حرفها مجديا.
فى رواية الخيال العلمى الشهيرة لراى برادبورى «فهرنهايت ٤٥١» يصور لنا الكاتب عالما منظما بشكل يذكر بالنظام النازي، عالم أهم ميزة فيه هى عداء الكتب، الكتب التى هى طريق لزعزعة النظام الجيد لهذا العالم اليوطوبى الذى يتعين حينما نقترب منه ديسطوبيا؛ فهو عالم ظاهره جنة وباطنه من قبله الجحيم.
ما الذى يزعج الأنظمة القائمة فى الكتب؟
تنويعات
قديما كان أفضل الناس وهم الأنبياء ينتظرون مجيء الكتب من السماء. ولأجل تمام ذلك السيناريو الرائع كانوا ينتظرون مجيء الوحي. فقد كان الكتاب كلام الله الآتى من السماء، إلا أن الكتب قد غيرت مساراتها، فقد صار الصوت الآتى بالكتب من السماء بنفس أهمية الإله، وصار الوحى حيلة لدى الشعراء الذين طردهم أفلاطون والنخب الإغريقية من الجمهورية بسبب عدم وضوح كتبهم وبسبب مسافة رفضوا التضحية بها بين الكتب «السماوية» والكتب «الأرضية».
الزمن عند أهل الكتاب يسير عكس اتجاه رقاص الساعة التى لا يعترف بها أهل الكتاب، لأنهم يعدون فناء الزمن الأرضى بداية ويرون فى حلول الكوارث التى تبشر بها الكتب السماوية بداية لحلول الملكوت الإلهي (الزمن الإلهي)... فالزمن عندهم كارثة تتناقص صوب الفناء، والتردى أو الفساد عندهم سبيل على الكمال حينما تعود أقسام محظوظة من البشرية (بنو إسرائيل/أهل الكتاب) إلى العالم الموصوف بالكتاب والذى أهم صفاته عدم حاجته إلى الكتاب.
على ذكر أهل الكتاب لا بد من التساؤل عن سر خوف الربيين من تدوين التلموذ وتعاليمه؛ خوف تجاوزه الربى «أكيفا بن يوسف» مع نهاية القرن الأول للميلاد فبدأ فى عمله المركزى الذى هو تدوين الميراث اليهودي المقدس الذى ظل قرونا طويلة شفهيا وشفهيا فقط. ماذا يُخشى على المعرفة الحقيقية من النزعة الشعبية؟ وهل على الكتب أن تظل حبيسة فئة محدودة من العارفين (سيعنون الغزالى كتابا هاما من كتبه (إلجام العوام عن علم الكلام)؟
الترسيمة نفسها حاربها صولون فى أثينا القديمة حينما حارب استئثار جماعة المعبد بالحقيقة (تفسير النبوءات الذى يعد رسما لمعالم الحقيقة، والذى هو تفسير ملزم يتكئ كليا على مسند الآلهة).. كان قراره نزع سلطة قراءة الكتاب الماورائى من جماعة رجال الدين (بشكل ما) هو اللبنة الأولى فى البناء الديمقراطي.. لو كان صولون يهوديا لتأخرت الديمقراطية فى العالم ألف عام أخرى.
من أهم ما يسكن الكتب منذ أقدم العصور تدوينات الخيال البشرى على مر العصور. تدوينات تعتمد على الخيال لعلاج أمراض الحياة. ويجرنا هذا إلى فهم حرج أفلاطون من الشعراء الذى كان تحرجا من الشعراء المسرحيين الذى كانوا – حسبما يذهب إليه جان بول فيرنون؛ أكبر العارفين بالعصر الإغريقى فى وقتنا – الناطقين الرسميين باسم السلطة القائمة، ولذا كانت الصفة التى استبعدهم بسببها هى ركونهم إلى الخيال بدلا من الالتصاق بالحقيقة.
هل يمكن أن نتصور أن أفلاطون كان سطحيا فى فهمه بهذا الشكل؟
سنقول عنوان الكتاب الذى تم فيه هو الجمهورية والجمهورية كتاب فى النظرية السياسية، ولهذا علينا أن نفسر هذا الأمر بعقل سياسى لا بعقل بلاغي. وهنا ستفيدنا فكرة فيرنون القاضية بأن الشعراء المسرحيين كانوا أبواق السلطة القائمة التى نعرف أن أفلاطون وجمهور أكاديميته كانوا ضدها لأسباب بلغت حد إعدام سقراط لأسباب سياسية مغلفة.
الكتاب مسألة حياة أو موت، ولعل الآية المتخيلة فى علم الأعصاب حاليا ستقول على لسان مارتا نوسباوم: «ولكم فى الخيال حياة».
فى كثير من الأحيان تعمل الكتب على جر الحقيقة الخيالية إلى الواقع، كفكرة قاعدية سنقول إن الهدف الأساسى للكتب هو إنشاء تعليقات حول الحياة (حسب المسار النيتشوي)، أو سنقول بالتعبير السياسى بأن الكتب تضخ أفكارا جديدة فى واقعنا.
بعض الكتب (وخلفها بعض الكتاب) تتلاعب بهذا الحد بين الخيال والواقع. مبكرا وقف ميغول دى سيرفانتيس على الأثر السلبى للكتب على الحياة. كانت علاقة دون كيخوت المرضية بالكتب مانعا كبيرا للدخول فى حياة غزت كل القطاعات عدا دماغ هذا الرجل الذى يجد جدوى وجوده كلها فى محاربة طواحين الهواء والتولع بامرأة غير مبالية به والحديث إلى خادم ذى وعى عميق بالحياة وبمفعول الكتب القاتل.
هل تجمع الكتب اشتات الإنسان كما نظر إليها العرب قديما (الفعل «كتب» عند العرب للخط والتسطير، ولكنه للتجميع أيضا ومنه تسمية الكتيبة بذلك الاسم) أم أنها تفرقها؟
الكتب تصنع شتاتا من خلال اللعب بالكلام، لعب نمارسه فيذهب بالكلمات فى زحام الأيام، لكى تعود بعد زمن لتكشف ما كان مخفيا بين السطور؛ ففى بطون كتب تعودنا ألا نتجاوز ظهرها تختفى حقائق كثيرة مزعجة جدا: من قبيل أن هابرماس قد انتمى شابا إلى الأشبال الهتلريين، وأن هاديغير قد كان شديد الولع بالنازية، وأن بول ريكور كان مندرجا وهو شاب فى تنظيم شبيبة الجنرال الخائن «بيتان»، كما سنجد على الصفحة الأولى من أحد كتبه إهداء لسيغموند فرويد يعبر عن شدة إعجابه بموسيليني.
يبدو أن نشأة الكتب كممارسة مجتمعية لدى الإغريق هى قفزة كبيرة فى التاريخ الذى كان واقعا تحت سطوة الأصوات التى تملك الحق فى الكلام...أصوات/ كتب مثلما هى حال أبطال رواية برادبورى التى ذكرناها والذين يثورون على النظام الشمولى المتهيب من الكتب... ففى نهاية الكتاب نكتشف أن الثوار قد قرروا المحافظة على الكتب بعيدا عن ألسنة اللهب التى تهدد الكتب بالحرق (الكتب تنتفى تماما عند درجة اللهيب ٤٥١ درجة فهرنهايت؛ وهو تفسير العنوان)..
لدى الإغريق أصبح الفلاسفة كتبا تنتشر فيما الكتاب ينسحبون من الفضاء العمومي؛ وهو ما حدث لديمقريطس الذى فضل بناء كوخ فى الغابة يلجأ إليه، فيما التلامذة والقراء من نبلاء القوم بتناقلون كتبه التى تبشر بالمادية قاطعة شوطا تاريخيا كبيرا بين الصوت الإلهى (الذى سيحاول استحضاره أفلاطون؛ عدو ديمقريطس الذى أراد حرق كتبه) والصوت البشرى الذى سينقله فى الجيل الموالى أرسطو تلميذ أفلاطون الذى سيسترجع فى كتبه الكثيرة أفكار ديمقريكس كلها.
خلاصة القول
يقترح الكاتب الفرنسى المثير للجدل ألان فينكلكراوت طريقة للسفر عبر الحياة هى السفر على ظهر كتاب، ففى كتابه «قلب ذكي» يحاول أن يفك رموز العالم الذى يعيش فيه من خلال قراءة تسعة أعمال أدبى من قبيل «مزحة» لميلان كونديرا، و«كل شيء فانٍ» لفاسيلى غروسمان، و«الرجل الأول» لألبير كامو، و«البصمة البشرية» لفيليب روث، و«لورد جيم» لجوزيف كونراد، و«مذكرات القبو» لدستويفسكي... الخ... يثيرنا هنا عنوان الكتاب المأخوذ من الكتاب المقدس فبعد زواجه من ابنة الفرعون، حلُم سليمان بأنه يدعو الله: «أعط عبدك قلبا ذكيا للحكم على شعبك، لتمييز الخير من الشر!»... قلب بتجلى للفيلسوف الحديث فى غضون الكتب.