البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

"حراك الجزائر".. السيناريوهات المحتملة عقب خارطة طريق "بوتفليقة"

بوتفليقة
بوتفليقة

المعارضة والسلطة تحرصان على التوافق لتلافى دماء «العشرية السوداء».
تراجع الرئيس الجزائرى عن ترشحه لـ«العهدة الخامسة» معلقًا بـ«المرحلة الانتقالية».. «جبهة التحرير» تشيد بالقرار.. و«طلائع الحرية» تصفه بالالتفاف الدستورى.. وتلون موقف «حمس الإسلامية».
السيناريو الأقرب دعم «المؤسسة العسكرية» لشخصية وطنية أمام «المتطرفين».. السيناريو الثانى استمرار «الزخم الشعبى».. والأخير الحوار المجتمعى والانتقال السلس للسلطة.

أدرك الشعب الجزائرى أهمية الحراك السلمى الذى بدأ منذ ما يقارب شهرًا، وانتهى فى ١٢ مارس الجارى، بإعلان الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة، التراجع عن الترشح لرئاسيات ٢٠١٩ أو ما يعرفه الجزائريون بالعُهدة الخامسة. 

وكانت العُهدة الرابعة محل جدلٍ طويل فى عام ٢٠١٤ على وقع حالة الرئيس الصحية وقتها، ورغم ذلك استطاع النظام السياسى بمؤسساته تمرير الترشح، وهو ما لم يتمكنوا منه فى العُهدة الخامسة التى شهدت أكبر حراك جماهيرى فى الجزائر، منذ ما يُعرف بـ«العشرية السوداء» التى عانى خلالها الجزائريون من الاقتتال الأهلى الذى استمر حتى بدء مرحلة الوئام والسلم الأهلى التى أطلقها «بوتفليقة» نفسه فى عام ١٩٩٩. لذلك، ترسخ فى أذهان الأجيال المتعاقبة من الشعب الجزائرى أن وجود الرئيس «بوتفليقة» يُمثل صمام أمان لمكتسبات مرحلة السلم والوئام، وهو ما حاول القائمون على الحكم ترويجه فى العُهدة الخامسة، لكنه فشل للتغيب الفعلى لـ«بوتفليقة» الذى لم يُمكنه مرضه حتى من إعلان ترشحه بنفسه أو أن يخاطب شعبه بشكل مباشر.
سنحاول فى السطور المقبلة، رصد المشهد السياسى الجزائرى، والعوامل التى أثرت فى الأزمة الحالية كالاقتصاد، ومؤسسات الدولة كالجيش وأجهزة الأمن، وتأثير العامل الإقليمى والدولى على تطورات الأزمة وسيناريوهاتها المحتملة بعد إعلان الرئيس «بوتفليقة» تمديد عُهدته الرابعة والبدء فى مرحلة انتقالية تبدأ بتعديل الدستور، وتنتهى بإجراء انتخابات عامة.

خطاب بوتفليقة وبدء العُهدة الشعبية

يرى المتفائلون بتطورات الحِراك الجزائرى أن إعلان «بوتفليقة» عدم ترشحه لرئاسيات ٢٠١٩ هو بداية حقيقية لانتهاء الحديث عن العُهدة الخامسة بل يعتبرون أنه فرصة حقيقية لبدء الولاية الأولى للشعب الجزائرى، ورغم هذه الحالة من التفاؤل فإن الأمر بات معلقًا على من سيقوم بإدارة المرحلة الانتقالية، التى ستضطلع بالتعديلات الدستورية والانتخابات الرئاسية والنيابية بعدها.
وقد استمرت حالة الحراك فى الشارع حوالى ثلاثة أسابيع، وكانت حركة الشارع تدعو إلى التصعيد السلمى ضد القائمين على الحكم، وهو ما كان يخشاه الجزائريون سواء على مستوى المؤسسات أو الشعب؛ حيث ما زالت أحداث العشرية السوداء وما خلَّفته من دمار فى بنية الدولة ومقوماتها الأساسية عالقة فى المخيلة الذهنية للمجتمع الجزائرى، وفى هذا السياق، تعتبر بعض التحليلات أن سيناريو الانجراف نحو العنف غير وارد فى الحالة الجزائرية؛ إذ تحرص المعارضة والسلطة على التوافق، وعدم ترك الأحداث لأى تطورات غير محسوبة كما حدث فى أوائل الثمانينيات، ويُفسر ذلك بدرجة كبيرة حرص مؤسسات الدولة القوية كالجيش، وكذلك المجموعة الصغيرة المحيطة بالرئيس «بوتفليقة» على التفاعل مع مطالبات الشارع بالعدول عن إجراءات السير نحو العُهدة الخامسة. يُذكر أن بيان الرئيس «بوتفليقة» قد تضمن إجراءات سير المرحلة الانتقالية، وتعهد فى بيان عدم الترشح بتنفيذ اصلاحات عميقة فى كل المجالات سواءً تلك التى تتعلق بالبنية السياسية أو المؤسساتية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وذلك من خلال توسيع قاعدة المشاركة للمجتمع الجزائرى بكل تصنيفاته وتعقيداته، وتضمنت قرارات «بوتفليقة» الأخيرة عدم الترشح للانتخابات الرئاسية والاكتفاء بما قدمه للجزائر، سواء مجاهدًا فى صفوف الثوار ضد الاستعمار الفرنسى أو مسئولًا حكوميًا منذ أن تدرج فى مناصب حكومية حتى وصل لرئاسة الجمهورية عام ١٩٩٩. ولم يكتفِ «بوتفليقة» فى بيانه بالتراجع عن العُهدة الخامسة، ولكنه أعلن بدء مرحلة انتقالية تحت إشرافه، وهو ما يعنى تمديد عهدته الرابعة بعد قراره بتأجيل الانتخابات الرئاسة إلى أجل غير مسمى. 
وتعهد «بوتفليقة»، فى بيانه، بالعمل على إرساء أسس الجمهورية الجزائرية الجديدة التى ستعبر عن نداءات الشارع الأخيرة، وأهمها تعاقب الأجيال وتحقيق الإصلاح السياسى والتنمية المستدامة، وقرر قبول استقالة حكومة «أحمد أويحيى»، والتجهيز لندوة وطنية جامعة (مؤتمر جامع) تتمتع بكل السلطات والصلاحيات اللازمة لإعداد واعتماد أرضية النظام السياسى الجديد، وتعديل الدستور، وتحديد تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية، وأكد البيان أن هذه الهيئة ستمثل كل أطياف المجتمع الجزائرى، وستترأسها شخصية وطنية تحظى بالقبول والاستقلالية والخبرة، ومن المقرر أن تُنهى الندوة الوطنية أعمالها قبل نهاية عام ٢٠١٩. وبالتوازى مع هذه الإجراءات، قرر «بوتفليقة» إنشاء لجنة وطنية مستقلة للإشراف على تنظيم الانتخابات.

التصعيد الحذر.. مواقف المعارضة والشارع
تباينت ردود الفعل داخل الشارع الجزائرى بكل اختلافاته حول العملية الانتقالية التى بدأها الرئيس «بوتفليقة» بنفسه، ويرى خبراء أن هناك إشكالية دستورية وقانونية تعترى هذه الإجراءات خاصة فى تعارضها مع المادة (١١٠) التى تعتبر تأجيل الانتخابات الرئاسية قاصرًا على ظروف الحرب وهو ما لم يحدث، على الناحية الأخرى، تُبرز الإجراءات التى أعلنها «بوتفليقة» عن شبه تعطيل للدستور؛ حيث تجاوزت الإجراءات الدستور، وهو ما ظهر بقراره بالإعلان عن تكليف الندوة الوطنية بالإشراف على عملية تعديل الدستور، وهو ما يعنى أن الإجراءات التى بدأها «بوتفليقة» بمثابة بدء مرحلة انتقالية تتجاوز البُنى القانونية والسياسية الحالية بما فيها الدستور، وإن كان البعض يفسر قرارات «بوتفليقة» بتوافقها مع الدستور، ويرون أنه استخدم المادة (١٠٧) التى تتيح لرئيس الجمهورية اتخاذ إجراءات استثنائية، والتى تتضمن نصًا يقول: (يقرر رئيس الجمهورية الحالة الاستثنائية إذا كانت البلاد مهددة بخطر داهم يوشك أن يصيب مؤسساتها الدستورية أو استقلالها أو سلامة ترابها.. تخول الحالة الاستثنائية رئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات الاستثنائية التى تستوجبها المحافظة على استقلال الأمة والمؤسسات الدستورية فى الجمهورية.. إلخ)، وهذا التفسير ضعيف إلى حد كبير حيث إن المادة ذاتها تنص على ضرورة أن (يجتمع البرلمان وجوبًا).
واعتبرت جبهة التحرير الوطنى الحاكمة أن الرئيس «بوتفليقة» لبّى فى بيانه للشعب الجزائرى مطالب المتظاهرين بعد الترشح للعُهدة الخامسة، واعتبر بيان الجبهة أن «بوتفليقة» استمع إلى شعبه باتخاذه هذه الإجراءات، واتهم «على بن فليس» رئيس حزب «طلائع الحريات» ورئيس الحكومة الأسبق، من سماهم «القوى غير الدستورية» المحيطة بالرئيس بمحاولة الاستمرار فى احتكار سلطات رئيس الدولة بتمديد العُهدة الرابعة خارج الأطر الدستورية والقانونية التى استقرت عليها النصوص القانونية الجزائرية. 
وعدَّ «عبدالله جاب الله» رئيس «جبهة العدالة والتنمية» المعارضة أن القرارات التى أعلن عنها «بوتفليقة» مستهلكة داعيًا إلى عدم الالتفات لوعود الاصلاح والاستمرار فى الضغط السياسى من قِبل الشارع على القائمين على الحكم، ودعا «كريم طابو» المنسق الوطنى لحزب «الاتحاد الديمقراطى والاجتماعي» لتنظيم مظاهرات مليونية لرفض مبادرة بوتفليقة، فيما يعنى استمرار التصعيد الاحتجاجى ضد النظام السياسى برمته وليس العُهدة الخامسة كما أُعلن فى بداية الاحتجاجات. 
وفيما يتعلق بحركة مجتمع السلم (حمس) الإسلامية، فإن موقفها يعبر عن «تلونها» المعتاد، إذ يرى «عبدالمجيد مناصرة» نائب رئيس الحركة أن قرارات «بوتفليقة» ليس لها أى سند دستورى خاصة مع بروز سيناريوهات تمديد العُهدة الرابعة لعامين على الأقل، وتعتبر حركة حمس أن الرئيس «بوتفليقة» ألغى بهذه القرارات مهام اللجنة الوطنية للانتخابات، المقرر انتهاء عملها بشكلٍ قانونى أواخر ٢٠١٩، واعتبر «مناصرة» أن دائرة «بوتفليقة» استجابت للشارع، لكن على طريقتها الخاصة.
ورغم معارضة حمس المبطنة للقرارات الأخيرة، لكنها لم تتخذ موقفًا حادًا من تطورات الأزمة السياسية فى الجزائر، وأوعزت إلى رأى الشارع، وموقفه من القرارات الأخيرة، الغريب فى هذا الموقف أن حركة «حمس» دعت منذ بداية الاحتجاجات إلى تمديد العُهدة الرابعة وتأجيل رئاسيات ٢٠١٩، وهو ما تعترض عليه فى الوقت الحالى ما يفتح باب التساؤلات عن طموح الحركة لاستغلال الحراك الجماهيرى لتحقيق مكاسب سياسية.
وفى تعليقه على تعيين وزير الداخلية نور الدين بدوى بمنصب رئيس الوزراء، استبعد «مناصرة» أن يكون هناك حل أمنى فى الجزائر، مبينًا أن رئيس الوزراء المُعين «ليس رجلًا أمنيًا، إنما رجل إدارى ومقبول نسبيًا، وكانت هناك فكرة لتعيينه قبل الحراك»، ودعا مناصرة أن تبقى المظاهرات الشعبية فى إطارها السلمى ومحافظة على مدنيتها، «ويتوجب علينا أن نساير الحراك الشعبى فى كل مطالبه»، وحول إمكانية ترشح أحد إخوة الرئيس الجزائري؛ سعيد أو ناصر بوتفليقة، لمنصب الرئاسة، استبعد «مناصرة» ذلك قائلًا: «إن الحكم العائلى مرفوض فى الجزائر بشكل مطلق، حتى إنّ فكرة أن تحكم عائلة ما الجزائر وتوارث الحكم هى غير موجودة تمامًا».

السيناريوهات المحتملة 
تتحكم ٣ محددات رئيسية فى رسم سيناريوهات مستقبل الجزائر فى مرحلة ما بعد «بوتفليقة» هى، موقف المؤسسة العسكرية، والجهاز الأمنى من استمرار الحراك، شبح العنف، والتخوف من تكرار العشرية السوداء، مدى قدرة المعارضة على استمرار حالة الزخم فى الشارع. وفى ضوء ذلك، يبرز ٣ مسارات لتحديد مستقبل الجزائر فى مرحلة ما بعد «بوتفليقة» وهى: السيناريو الأول: التوافق بين رؤى الجيش ومتصدرى الحراك. 
يعتمد هذا السيناريو على اتجاه المؤسسة العسكرية الجزائرية لإفساح المجال أمام اختيار شخصية وطنية تحظى بالقبول المجتمعى خاصة لدى فئة الشباب، وذلك بهدف تفويت الفرصة أمام الحركات والأحزاب التى تحمل أراءً متطرفة ضد النظام السياسى برمته، كما تضمن استمرار منظومة الحكم دون تغييرات جذرية بعد بناء الثقة بين الشعب والسلطة، ومنع التدخلات والإملاءات الخارجية خاصة من قبل فرنسا التى رغم تطورها الديمقراطى داخليًا لم تنفك عن تاريخها الاستعمارى، وذلك بما يضمن استقرار منطقة المغرب العربى وشمال أفريقيا الذى تشكل الجزائر قلبه النابض بما لها من قوة جغرافية وديموغرافية. 

ويؤكد هذا السيناريو بيان قائد الجيش الجزائرى «قايد صالح» الذى حاول خلاله التقرب للشعب الجزائري؛ حيث قال فى بيانه الرابع الذى سبق قرارات «بوتفليقة» بيوم واحد: «إن الجيش والشعب الجزائريين يتقاسمان «ذات القيم» وتجمعهما «النظرة المستقبلية الواحدة»، وهو ما يعنى بطريقة أو بأخرى أن ثمّة دورًا بارزًا لعبه «قايد صالح» خلف الكواليس لخروج بيان «بوتفليقة» الذى أتاح مساحة كافية من الوقت لترتيب عملية الانتقال.

السيناريو الثاني: استمرار الزخم الشعبى
 ويعتمد هذا السيناريو على جوهر المواقف المعلنة من أغلب القوى السياسية الجزائرية التى تعتبر أن قرارات «بوتفليقة» الأخيرة محاولة باهتة للالتفاف على مطالب الحراك، وضمان انتقال سلس للسلطة، لذلك قد تعمل المعارضة للضغط على «بوتفليقة» للتنحى تمامًا عن تحمل أعباء الحكم، وهو ما يعنى إبعاد الدائرة الضيقة المحيطة به، ومن ثم إتاحة المجال للحديث والتوافق عن مرحلة ما بعد «بوتفليقة» سواءً ببدء مرحلة انتقالية برئاسة رئيس المحكمة العليا أو تشكيل مجلس تمثيلى للقوى السياسية والجماهيرية لإدارة المرحلة الانتقالية، وفتح حوار مباشر مع جميع أطياف الشعب السياسية والنقابية، وكذلك المؤسسات السيادية كالجيش وقوى الأمن للتوافق على طبيعة وشكل البيئة السياسية فيما بعد «بوتفليقة». 
ويرتبط نجاح هذا السيناريو باستمرار حالة الزخم الشعبى والتوافق بين مطالبات الشارع والقوى السياسية التمثيلية التى ستقود عملية التفاوض مع النظام، وتتمثل مشكلة هذا السيناريو فى اعتماده بشكل رئيس على ضرورة أن يكون هناك خاسر ومنتصر، وهو غير مفيد للجزائر ولا الجزائريين الذين لم يفرطوا سواء سلطة أو شعبًا فى مكتسبات مرحلة الوئام والسلم الأهلى فى عهد بوتفليقة، وبدا ذلك فى رفض الجزائريين على مواقع التواصل الاجتماعى لفكرة المظاهرات الليلية التى تم اقتراحها فى الأسبوع الثانى من الاحتجاجات، وذلك لارتباط هذا التكتيك بالمواجهة المباشرة بين الأمن والمتظاهرين.

السيناريو الثالث: نجاح الندوة الوطنية وضمان الانتقال السلس
يُعول هذا السيناريو على انحسار الاحتجاجات للبدء فى مرحلة حوار مجتمعى حول طبيعة المرحلة المقبلة من خلال الاطر السياسية والدستورية التى رسمها بيان «بوتفليقة» الأخير لا سيما أن اقتراح تمديد العُهدة الرابعة كان مطروحًا فى الأيام الأولى للاحتجاجات، وتقف الدائرة الصغيرة المحيطة بالرئيس «بوتفليقة» عقبة أمام تطبيق هذا السيناريو؛ إذ يرفض الشعب الجزائرى أن يكون لهم أى دور فى رسم سمات الفترة المقبلة من التاريخ الجزائرى. 
ختامًا؛ لا يُمكن التنبؤ بشكل مطلق بتطورات الوضع السياسى فى الجزائر خلال الفترة المقبلة، ولكن ما يُمكن التأكيد عليه عدم انجرار الجزائريين (السلطة، والشعب) نحو أى شيء من شأنه تعكير حالة الوئام الأهلى التى تُعد من أهم مكتسبات حقبة «بوتفليقة»، وذلك لأسباب تتعلق بطبيعة تنشئة جيل الشباب الذى عاش أو سمع وتأثر بشكلٍ مباشر من حصاد العشرية السوداء، إضافة إلى حالة عدم استقرار الجوار الجغرافى المحيط بالجزائر خاصة الوضع فى ليبيا منذ انهيار الدولة فى ٢٠١١، أو نشاط حركة بوكو حرام الإرهابية فى مالى المتاخمة للحدود الجزائرية.