البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

أفريقيا المعاصرة «2»


يتابع البروفيسور محمود ممدانى فى كتاب «المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة» والذى نقله إلى العربية المترجم صلاح أبونار والصادر عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٨ بقوله: جرت العادة على تصور الانتقال من التنظيم القبلى إلى تنظيم الدولة، بوصفة انتقالا من سلطة القرابة إلى السلطة القائمة على الإقليم. ومع أن القبائل نظمت تحت سيطرة كبار السن، فإنها احتوت على آليات إعادة توزيع أعاقت اتجاهات إعادة إنتاج التفاوت على نحو تراكمي. ولا تزال حتى الآن طبيعة العلاقات بين كبار السن من جانب والصغار والنساء من جانب آخر محلا للنقاش: هل كانت تلك العلاقة ذات طبيعة استغلالية ؟ وإذا كانت طبيعة استغلالية، هل شكل الكبار الطبقة؟. 
أظهرت الدراسات التى تناولت إقليم ما بين البحيرات فى أفريقيا الشرقية الصراع بين العشيرة (القرابة) ونمط التنظيم الإدارى (الإقليمى). واستنتجت تلك الدراسات أن الصراع بين نمطى التنظيم السياسى لم يوجد بدرجات قوة متفاوتة فقط، بل وأظهرت أيضا تباين النتائج الناجمة عن ذات الصراع. وفى إطار هذا التباين يتعين علينا أن نتذكر جيدا إحدى السمات المميزة للمشهد الأفريقي. فى الحدود التى تصل إليها قدرة جماعات قرابية معينة على الدفاع عن وصايتها على الأرض والاحتفاظ بها بعيدا عن التحول إلى ملكية خاصة، وهو الاتجاه الذى كان مسيطرا فى القارة، كانت سلطة الدولة تفيد وتحصر – إلى حد كبير – بواسطة سلطة العشائر والبدنات. 
وعلى الرغم من التماثلات الموجودة بين نتائج الصراع بين نمطى التنظيم، كان لكل نتيجة من نتائج هذا الصراع بعدها الخاص المميز. سوف نجد تعارضا بين حالتى «بوجاندا» و«بونيورو» اللذين قطع الاتجاه صوب نحو المركزة فيهما شوطا طويلا. فى بوجاندا حقق الملك لنفسه مكانة عليا مع السيطرة على الأرض، ولكن مع تراتبية إدارية جاء أفراد هيئتها من أصول تجمع بين التواضع والنبل. كما ساد خط الرؤساء المجندين من صفوف المواطنين العاديين على الرؤساء الوراثين، بعد أن أزيح الرؤساء التقليديون الذين كانوا يتولون مناصبهم عبر توسط حق الانحدار القربى بواسطة الرؤساء المعينين إداريا ذوى الأصول العامية. 
لكن بونيورو شهدت اتجاها نحو توطيد مكانة أرستقراطية مالكة ذات ثروة قابلة للتوارث. ولقد استمرت تلك النبالة المالكة للأرض فى كبح جماح طموحات الملك الرامية لمركزة السلطة، الأمر الذى قاد فى أكثر الحالات تطرفا إلى الانفصال مثلما حدث فى تورو. ولكن حتى عندما مضت عملية المركزة بعيدا كما هى الحال بوجاندا، استمرت قوة العشائر المنظمة تعمل ككابح شعبى لكل من الملك والإدارة المعنية. قاد التوتر بين السلطة الإدارية وجماعات القرابة إلى تصاعد التمايز داخل مؤسسات الرئاسة، بين الرؤساء التقليديين الوارثين الذين يتولون مناصبهم بحكم القرابة، والرؤساء الإداريين المعينين من قبل الدولة. وفى المقابل قيد النمطان بحكم القرابة، والرؤساء الإداريين المعينين من قبل الدولة. وفى المقابل قيد النمطان من قبل مجالس العشائر والبدنات، التى ظلت فى أغلب الأماكن محتفظة بحق استخدام الأرض وجميع الموارد الطبيعية الأخرى. فلقد كانت مجالس القرى تضع وتفرض قواعد الاستخدام المنظمة للتوازن بين الماشية والمياه وعلف الدواب، ضمانا لاستخدام مستديم لموارد مستديمة، وكانت المجالس المحلية تنظم حركة القطعان وتحمى المحاصيل، كما كان غيرها ينظم الأسواق الواسعة ويحافظ على التجارة البعيدة، علاوة على مجالس أخرى كانت تتولى أمر تنظيم مهر الزوجة، والالتزامات المتبادلة بين العائلات والأزواج، وضمان الحقوق الفردية للأطفال وكبار السن. 
كان الانقسام بين المواطن والرعية وبين ابن البلد والأجنبى يميز كل الأوضاع الاستعمارية. ولم يكن هذا الانقسام خاصا بأفريقيا، لكن ما ميز الوضع الأفريقى كان عزل الأهالى الرعايا فى حاويات كثيرة منفصلة، يقع كل منها تحت وصاية سلطة أهلية يقال إنها الحامل الشرعى لعرف وتقليد قديم والفارض لوجودهما. وأكثر من أى قوة استعمارية أخرى، أدركت بريطانيا إدراكا ثاقبا، الإمكانات التسلطية داخل الثقافة. 
لكنها لم تكتف بإنقاذ كل ميل تسلطي، داخل هذا الفيض التاريخى المتنافر الذى زخرت به أفريقيا قبل الاستعمارية، بل ونحتت أيضا من التقاليد والأعراف ما وجدت نفسها فى حاجة إليه، عندما شعرت بحاجتها إليه. وفى توجهها هذا اتبعتها دولة أوروبية أخرى، وعبر تلك العملية المزدوجة – أى الإنقاذ من جانب والنحت من جانب آخر، بلور الاستعماريون سلسلة من السلطات الوطنية القائمة غالبا على مستوى المقاطعة. وكان كل منها يقف محاطا بهالة العرف المقدسة ملوحا بالسياط. 
فى كتابه المؤثر «مسح أفريقى» الصادر عام ١٩٣٨، حاول اللورد هايلى أن يضع سياسة أفريقيا الاستعمارية فى إطار منظور تاريخى عريض. ولقد قدر لهذا الكتاب المستلهم من محاضرة رودس ١٩٢٩ للجنرال أسمطس، والممول من قبل مؤسسة كار ينجى فى نيويورك وأمناء رودس والمصدق عليه رسميا من قبل الكتاب الأبيض لحكومة المملكة المتحدة، أن يتحول إلى وثيقة شبة رسمية.
قدم هايلى فى سياق افتتاحية لمناقشة «نظام القانون» فى أفريقيا الاستعمارية، موجزا لــ«تطور القانون فى الإمبراطورية الرومانية والبريطانية»، نقرأ فيه ما يلي: «بإيجاز شديد كانت مشكلة روما الأساسية هى مشكلة الاستيعاب، وفى مواجهتها نزع العقل اللاتينى صوب اعتبار تماثل الحقوق القانونية عنصرًا أكثر أهمية من المساواة بين السلطات السياسية. أما مشكلة البريطانيين فى الهند فكانت أساسا إيجاد نظام قانوني، فى إمكانية تجنب إبراز حقيقة وجود البلد تحت سيطرة سلطة تدين بعقيدة أخرى مغايرة». 
وللحديث بقية.