البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

يطفئون وهج إبداع العلماء


يتمتع العالم المصرى فاروق الباز بخفة ظل وصراحة وبساطة، لذلك أستمتع بمشاهدته كلما هل علينا بين الحين والآخر، وأشعر بأنه يتسلل بكلماته إلى قلوب مستمعيه، فهو من البارعين فى الحكى، وليس كغيره من العلماء الذين تحيطهم هالات الجدية والصرامة، التى تجعل بينهم وبين المشاهدين مسافات واسعة، وتشعرنا وكأنهم من عالم آخر بل نشعر بأنه واحد منا عاش ما نعيشه وعانى مما نعانيه.. وأجمل ما فيه أنه ينقل إلينا خبراته، وكيف صمد وصعد حتى وصل إلى ما هو فيه، رغم المصاعب التى واجهته وكادت تهزمه.
ومن الحكايات التى رواها قصة عودته من بعثته التعليمية فى الولايات المتحدة عام 1965، والتى حصل خلالها على الدكتوراة فى الجيولوجيا، حيث عاد ممتلئًا بالحماس، وتوجه إلى وزارة التعليم العالى فأخبروه بأنه قد تم تعيينه فى المعهد العالى بالسويس كمدرس للكيمياء! فتعجب وتساءل: كيف يقوم بتدريس الكيمياء رغم أن تخصصه جيولوجيا؟!.. فكان الرد باستنكار «هو إنت مش هتقدر تفتح كتاب الكيمياء وتشرح للطلاب جزءًا جزءًا»..فتعجب وقال: «بدال ده اللى عايزين تعملوه هاتوا أى حد من الشارع اشمعنى أنا».. وكان يتساءل عمن عينه فى تلك الوظيفة فأخبروه بأنه الوزير، فقرر مقابلة الوزير حتى يفهم لماذا تم تعيينه على غير تخصصه؟!.. وظل يذهب يوميًا إلى الوزارة من 9 صباحًا وحتى الثانية والنصف ظهرًا، دون أن يتمكن من مقابلة الوزير رغم تعاطف مدير مكتبه، والذى حاول أن يدله على الوسيلة التى يتمكن بها من مقابلته، بأن يأتى بورقة توصية من أى مسئول كبير! وهو ما كان لا يستطيعه، فاستمر على نفس الحال ثلاثة أشهر، دون أن يكون لديه راتب أو دخل شهرى..وأثناء انتظاره الوزير فى إحدى المرات، ناداه الدكتور مصطفى كمال طلبة - مستشارنا الثقافى فى واشنطن أثناء بعثته- وكان قد عاد وأصبح من قيادات الوزارة، وسأله: لماذا أغضب الوزير ولم يستلم العمل، ووعده بأنه بعد تسلمه العمل بأسبوع سيحقق رغبته فى مقابلة الوزير.. فذهب بالفعل إلى السويس، وكان فى ذلك الوقت ينتظر ميلاد ابنته الأولى، والمستشفى يطلب ٣٥ جنيهًا، ولم يكن لديه أى دخل أو نقود، وبعد أن وقع على قرار تسلمه العمل، قابل أحد أصدقائه على السلم، وكان معيدًا للفيزياء أثناء دراستهما فى جامعة أسيوط، وسأله: لماذا جاء إلى السويس رغم موقفه المعروف برفض تسلم العمل! فأخبره بوعد مصطفى طلبة بمقابلة الوزير، فرد زميله: «وقعت فى الفخ يا بطل.. طول ما أنت ما استلمتش العمل معندهمش عندك حاجة.. لكن بدال استلمت هيجبوك هنا بالبوليس زى ما كانوا بيجيبونى..كانوا بيخبطوا 6 الصبح ويصحوا أمى وكانت بتترعب».. وحكى له أنه مر بنفس تجربته، ووقع فى فخ «مصطفى طلبة» أيضًا، وبعد حصوله على دكتوراة فى الفيزياء النووية من روسيا، أصبح منذ سنتين يقوم بتدريس بدائيات الصوت والضوء! وبدأ يشتكى من مدى إحباطه، ووصف نفسه بأنه أصبح إنسانًا مهلهلًا وخرقة مبلولة، وأنه كره نفسه والبلد، وبدأ يتصبب عرقًا ويرتعش جسده، حتى استطاع د. فاروق تهدأته بعد نصف ساعة! وبعدها ذهب إلى الموظف الذى وقع عنده قرار الاستلام، وطلبه منه بحجة تعديل شىء، ثم قال له: «أنت لا شوفتنى ولا شوفتك».. وعاد لمقابلة مصطفى طلبة ليذكره بما فعله فى زميله، ويخبره بأنه لا يريد شيئًا لنفسه، لكنه إذا لم يحل مشكلة زميله الفيزيائى لن يُكن له ذرة احترام عنده! وذهب ولم يعد.. أما زميله فمات بعدها بسنتين بسكتة قلبية، وهو فى الثامنة والعشرين من عمره! وقد ظهر فى صوته الشجن وفى عينيه الحسرة، وهو يتذكر صديقه الذى غلبته الظروف ومات من القهر والظلم وحزنه على نفسه.
والغريب أن الأمر نفسه تكرر مع العالم والمفكر الدكتور جمال حمدان والذى عين بعد بعثته فى غير تخصصه أيضا! وكأنهم يتفنون فى إطفاء وهج إبداع العلماء! فالمأساة تتكرر وحالات الاضطهاد التى يعانيها المتميزون لم تنتهِ بل غالبا يكون جزاء المتفوق الاستبعاد والتهميش والقتل المعنوى! وكأنه يعاقب على محاولته الخروج من الصف وتطوير ذاته! وقد حكى لى العديد من الأصدقاء فى عدة مجالات عما تعرضوا له من مضايقات وتنكيل، من قياداتهم -والذين هم أقل فى الدرجات العلمية- بعد تفوقهم وإتمامهم لدراسات متميزة أو درجات علمية رفيعة، فبدلًا من أن يؤهلهم تفوقهم للارتقاء فى وظائفهم، جعلهم يرجعون للخلف ماديًا ومعنويا! والنتيجة إحباط ومحاولات للهروب وترك الجمل بما حمل! فهل يا ترى كم فقدنا من متميزين ومبدعين تركوا الوطن وهربوا ممن يريدون أن يشدوهم للأسفل، وكم فقدنا من طاقات دفنت فى مواقع أقل كثيرا من إمكانياتهم، فأصابهم اليأس والبلادة؟!.. متى سنقدر العلم بحق، ونعطى كل ذى قدر قدره..حتى لا تكون مصائر المتميزين فى أيدى محدودى القدرات والمؤهلات، والذين يكرهون التفوق، ولا يرغبون أن يروا حولهم إلا فقراء الفكر والعلم، حتى يتحكمون فيهم، ويستعرضوا عليهم مهاراتهم المزيفة! فيا ليتنا نستفيد من العلم والعلماء، ونستمع لتجارب علمائنا ومفكرينا، حتى لا نكرر نفس الأخطاء، ونظل نلدغ من نفس الجحر مائة مرة! بعد ما تخلص.