البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

"لا دين لمن لا يقدس وطنه"


الميلاد والموت هما سنة الحياة فى كل شىء.. وما بين لحظات السعادة التى يعيشها من يشهدون الميلاد، والحزن الذى يعيشه من يشهدون الموت، تمر الأيام التى يداولها الله بين الناس.. ويظل البشر يتناسلون، إما حبا فى حفظ أثرهم وتخليد ذكراهم، أو لأن البنين كما وصفهم الله تعالى زينة الحياة الدنيا.. وفى كل لحظة يولد أشخاص ويموت غيرهم، وبين هذا وذاك كثيرون يأتون ويرحلون دون أن يتذكرهم أحد، فى نفس الوقت الذى يرحل فيه البعض بأجسادهم فقط، بينما يبقى أثرهم وأعمالهم، ونظل نتناقل أفكارهم ونردد أقوالهم، بل قد تزداد قيمتهم كلما مر الزمن، حين تثبت الأيام نظرتهم الثاقبة ورؤيتهم الصائبة.. ومن هؤلاء الذين سنظل نحتفى بهم، وندرك قيمتهم كلما مر الزمن، العالم الجغرافى والمفكر جمال حمدان.. والذى تمر ذكرى ميلاده الواحد والتسعون..حيث ولد فى 4 فبراير 1928، واستشهد فى 17 إبريل 1993.. ولعشقه للجغرافيا التحق بكلية آداب (جغرافيا)..وتخرج من جامعة القاهرة عام 1948، ثم عين معيدا بها..وكان يهوى الموسيقى والرسم والخط العربى..حتى إنه كان يرسم أغلفة كتبه وعناوينها فيما بعد.. وأوفدته الجامعة فى بعثة إلى بريطانيا.. وعاد عام 1953 حاملا للدكتوراه فى فلسفة الجغرافيا.. وكأغلب العلماء والنابغين فى بلدنا، عانى من الحرب الخفية التى يشنها أهل تخصصه، فبعد عودته إلى الجامعة، لكى ينقل علمه وخبراته إلى تلاميذه، لم يجد بكل أسف سوى محاولات لتطفيشه!!..فبدلا من أن يستفيدوا منه فى تدريس «جغرافية المدن»..والتى له كتابات رائدة فيها، أجبروه على تدريس مادة «الخرائط»..والتى كان يدرسها المعيدون فى بداية تعييناتهم!!..لكنه استمر فى إنجازاته العلمية..وألف ثلاثة كتب، كانت سببا فى حصوله على جائزة الدولة التشجيعية.. والتى أثارت أيضا غيرة بعض زملائه وأساتذته.. فاستمرت محاولات التطفيش التى استسلم لها فى النهاية، بعد تخطيه فى الترقية إلى أستاذ، فقدم استقالته عام 1963.. ولكن بعدها زاد توهجه العلمى والأدبى، وكتب 24 كتابًا وموسوعة، استطاع من خلالها تبسيط الجغرافيا ومصطلحاتها، ووضعها فى إطار أدبى شيق حتى تصل للقارئ غير المتخصص.. ومزج فى كتبه بين الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاجتماع.. وبالطبع موسوعة «شخصية مصر» من أشهر إنجازاته العلمية والأدبية التى أثرت المكتبة العربية.. وقد وصفها شقيقه الدكتور عبدالحميد صالح حمدان قائلا: «كانت نكسة يونيو 1967 هى التى فجرت شرارة ملحمته الكبرى (شخصية مصر) فقد صدمته الهزيمة وهزت كيانه.. وكان قد تنبأ بوقوع هذه الجريمة فى مقال له صدر بعنوان (هل تملك إسرائيل سلاحا ذريا؟) وذلك فى سنة 1965.. ولم يكن ممن يستسلمون للإحباط أو فقدان الثقة، بل عكف رغم جراحه على إنجاز شخصية مصر.. وحاول فى هذا الكتاب الضخم أن يعرف المواطن العادى والمثقف بجوهر وطنه ويدله على شخصيتها المصرية والعربية، ويحدد له معدنها القومى الأصيل ودورها الإنسانى والحضاري».
هذا العالم عاش حياته راهبا لعلمه وفكره، فهو لم يتزوج وضحى بقصة حبه الوحيدة، حيث عاش قصة حب مع فتاة إنجليزية أثناء بعثته، لكنها لم ترغب فى العودة معه إلى مصر، وحاولت إقناعه بالبقاء فى بريطانيا بشتى الطرق.. ورغم العروض المغرية التى تلقاها للبقاء فى بريطانيا، إلا أنه رفض وأصر على العودة، لأنه لم يكن قادرا على الابتعاد أكثر من ذلك، عن مصر التى عشقها ووهبها حياته.. وقد توفى فى منزله، نتيجة انفجار أنبوبة غاز أثناء إعداده كوبا من الشاى - كما قيل - إلا أن الكثير من الشواهد والأدلة تثبت أنه مات بفعل فاعل.. ومنها ما أثبته أحد مفتشى الصحة بأنه لم يمت مختنقا ولا محترقا، وأنه قد وجدت خبطة فى أعلى جبهته تدل أنه قاوم وضُرب.. ويؤكد شقيقه اللواء عبدالعظيم حمدان بأنه قتل على يد الموساد بسبب كتاباته عن الصهيونية، وكان آخرها مقال قبل وفاته بيومين، فى جريدة «الأهرام»، تناول فيه أكذوبة أن اليهود الحاليين هم أحفاد بنى إسرائيل، وذلك استكمالا لما عرضه فى كتابه «اليهود إنثروبولوجيًا» والذى صدر عام 1967، وأثبت فيه أن اليهود الحاليين الذين يدعون أن جذورهم تعود إلى فلسطين، ليسوا أحفاد اليهود الذين خرجوا منها قبل الميلاد، وإنما ينتمون إلى إمبراطورية الخزر التترية، التى قامت بين بحر قزوين والبحر الأسود، والتى لم تعتنق الديانة اليهودية إلا فى القرن الثامن الميلادى..إلى جانب أنه كان قد أعلن فى أحاديث صحفية، عن انتهائه من كتب خطيرة عن الصهيونية، وتم نشر أسماء ثلاثة كتب كان من المزمع نشرها..أحد تلك الكتب كان باسم «اليهود والصهيونية وبنو إسرائيل» والذى كان مكونا من ألف صفحة، وكان من المفترض تسليمه للناشر يوم الأحد التالى لوفاته!!..إلا أن مسودات تلك الكتب اختفت جميعا، ولم يتم العثور عليها أو يجدوا لها أثرا بعد وفاته!!..هذا العالم الجليل استشرف المستقبل فى كتاباته، وقدم تحليلا لما نراه يحدث الآن، وكان من أفضل من وصفوا ظاهرة الإسلام السياسى، والتى قال إنها تعبير عن مرض نفسى وعقلي، ووصف الأحزاب الدينية بالعصابات الطائفية، وأنها مافيا باسم الإسلام.. وأن الجماعات المتشددة وباء دورى يصيب العالم الإسلامى فى فترات الضعف السياسي.. وأجمل ما قاله «أن لا دين لمن لا يقدس وطنه».
رحم الله راهب العلم والفكر جمال حمدان.