البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

ماهر صموئيل يكتب: القولبة (2) كيف تحدث؟

ماهر صموئيل
ماهر صموئيل

تحدثنا في مقال سابق عن هذا المرض الخطير القادر، إذا استشرى، على أن يقوِّض دعائم شهادة الله بيننا؛ فهو كالسوس ينخر في البنيان الداخلي للشهادة ليفرغها، مع الوقت، من جوهرها النابض بالحياة، بينما لا يمس هذا السوس إطلاقًا الشكل الخارجي للشهادة؛ وهذا هو مكمن الخطر، إذ أنه يترك لنا في النهاية شهادة قد يكون شكلها ضخمًا وعضيمًا، إلا أنها هشة وضعيفة وخاوية؛ تنهار من أول خبطة من خبطات معاول الهدم التي ما أكثرها.
وكما هي العادة في أمر الوقاية والعلاج من الأمراض المختلفة، لابد أولًا من استقصاء الأسباب أو تحديد الميكروب المُسبب للمرض، وأن أمكن عزله، لكي يتمكن الباحثون من القضاء عليه، وبالتالي يتم الشفاء. وسأحاول - بنعمة الرب، وعلى قدر فهمي المحدود- أن ألفت النظر لبعض العوامل التي أرى أنها تشكُل البيئة الملائمة جدًا، أو الوسط المناسب الذي ينمو ويترعرع فيه (ميكروب) القولبة.
وإن ألزمني قارئي أن أحدد له بالضبط ما هو هذا الميكروب الذي يسبب القولبة، والذي يمكنني مجازًا أن أدعوه " فيروس القولبة" فإني أقول إنه الاستقلال عن الروح القدس أو تجاهل الروح القدس في الفرد وفي الجماعة، ولهذا حديث آخر سيأتي في وقته.
لكن في هذا المقال أوَّد أن أشير إلى تلك العوامل التي تشكّل البيئة الملائمة التي ينمو فيها هذا الميكروب. وعندما أتحدث عن البيئة التي ينمو فيها الميكروب قبل أن أتحدث عن الميكروب نفسه، لا أكون كمن يضع العرية قبل الحصان، بل إن هذا جائز في الطب. فعندما يبدو عسيرًا منع الميكروب من الدخول، فعلى الأقل عدم توفير البيئة المناسبة له لكي لاينجح إذا دخل في إحداث المرض.
وأعتقد أنه من العوامل الكثيرة التي تشكل هذه البيئة المناسة لنشاط هذا الفيروس القاتل توجد ثلاثة علينا أن نأخذها بعين الاعتبار.
أولًا: أسلوب التفكير السطحي.
وهو أسلوب تفكير يجعل أصحابه يتوقفون في رؤيتهم، لأي أمر أو شخص، عند حد ما هو على السطح، دون بذل أي جهد من جانبهم لاختراق القشرة السطخية للأشياء أو الأشخاص للنفاذ إلى العمق ورؤية الداخل على حقيقته، وبالتالي تغيب عن هؤلاء النظرة العميقة والموضوعية لما ينظروه.
هذا الأسلوب إذا انتشر وسط الجماعة "وما أسهل أن ينتشر لأنه الأسهل على النفس" يجعل الجماعة تعطي كل اهتمامها للمظهر لا الجوهر، وعندئذ يجد فيروس القولبة فرصته السانحة ليمسك بهذه الجماعة.
وهنا يأتي السؤال لماذا ينشط فيروس القولبة في هذه الجماعة؟ أقول ببساطة لأنه من الصعب جدًا، بل ربما من المستحيل، أن تصيب القولبة الجوهر، إذ أن المؤمنين كأفراد في داخل كل جماعة واحدة، وإن عاشوا مع بعض عشرات السنين، سيظلوا مختلفين في جوهرهم عن بعضهم البعض في عشرات الأشياء: فالأعمار الروحية مختلفة، والقدرة على الإدراك والفهم مختلفة من واحد لآخر، وحجم التدريبات الروحية التي تلقاها كل واحد مختلف، وكّمْ الإختبارات مع الرب مختلف، حجم الشركة السرية مع الرب مختلف، ونوعية الشخصية والتي تحددها عوامل كثيرة مختلفة، وغير ذلك الكثير. وبالتالي لا يمكن تطابق جوهرين معًا. وعليه فإذا أراد هذا الفيروس الردئ، فيروس القولبة، أن يقتحم جواهر المؤمنين ليقولبهم، لن يجد له مجالًا على الإطلاق. 
لكن هذا الفيروس يمكنه بسهولة أن يصيب الشكل الخارجي أو المظهر، فيوحّد المؤمنين في طريقة مظهرهم وملبسهم وخدمتهم، وغير هذا من متعلقات المظهر.
وعندما تركز الجماعة، ولاسيما قادتها، على المظهر، يجد فيهم هذا الميكروب فرصته السانحة ليُحدث فيهم هذا المرض.
خطورة الاهتمام بالمظهر دون الجوهر.
بالإضافة إلى إصابة الجماعة بالقولبة وما يصاحبها من مضاعفات سنراها فيما بعد، هناك مخاطر كثيرة لهذه السطحية، أذكر منها:
1. كسر صريح لوصية المسيح:
"لاتحكموا حسب الظاهر، بل احكموا حكما عادلًا" (يو ٢٤:٧). لقد سخط اليهود على المسيح وأرادوا أن يقتلوه، بل وتطاولوا عليه وقالوا له "بك شيطان"، كل هذا لماذا؟ لأنه لم يتشكل طبقًا للقالب الذي وضعوه لشكل اليهودي، وتصرفاته في يوم السبت وخرج عن هذا القالب وشفى إنسانًا في يوم السبت، فيقول لهم السيد "إن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا ينقض ناموس موسى، أفتسخطون علىَّ لأني شفيت إنسانًا كله في السبت؟! لا تحكموا حسب الظاهر، بل احكموا حكمًا عادلًا" (يو ٢٣:٧-٢٤).
إن الاهتمام والتركيز الشديد على المظهر الخارجي دون الجوهر، حتمًا يقود الجماعة إلى الخطأ في أحكامها، بل إلى الظلم في أحكامها. فهى تمدح مَنْ مظهره حسن وإن كان جوهره فاسد، وستظلم مَنْ جوهره جيد لكن مظهره معيوب.
نعم ما أخطرها وصية، ليتنا نخضع لها - أن لا نهتم بالظاهر أكثر من الداخل، وبالتالي يخرج حكمنا حكمًا معوّجًا غير عادل. وكم من أُناس ظلمناهم، بل وربما حطمناهم، لمجرد أنهم خرجوا عن القالب الذي حددناه للظاهر.
2. ابتعاد كبير عن روح المسيح:
كل مَنْ دَرس وتأمل حياة هذا السيد الكريم والمعلم العظيم، يتضح لديه جليًا أن السيد في كل تعاليمه وتعاملاته، كان يعطي كل الاهتمام للجوهر أولًا، بل إن حتى فلاسفة العالم وأدباؤه ومثقفوه يشهدون دائمًا أنه: لم يظهر معلم عظيم اهتم بالجوهر أكثر من المظهر، مثل شخص المسيح. وأعتقد أني إذا أردت أن أقدم أمثلة قليلة جدًا على هذا، فلن تكفيها صفحات المجلة بأكملها، ويكفي قارئي العزيز أن يتأمل فقط عظة الجبل وتعاليمه عن الصلاة والصوم، وموقف المسيح من يوم السبت، وموقفه وحديثه مع السامرية، دخوله بيت زكا، حضوره وليمة مع خطاة وعشارين في بيت متى؛ في كل هذه المواقف كان السيد لا يحكم بحسب المظهر. وكم من مواقف كان المظهر فيها رائعًا ومع هذا لم ينخدع به السيد، وأدان صاحبه. ومرات أخرى كان المظهر فيها سيئًا، ولم يمنع هذا السيد من مدحه لجوهر حسن كان مختفيًا وراء هذا المظهر واستطاع السيد أن يراه.
3. استعمال أساليب يرفضها المسيح:
عندما ترغب الجماعة أن يتحلى أفرادها بشكل محدد أو مظهر معين، مع عدم بذل جهد لإيجاد الجوهر الذي يفرز هذا الشكل، فإنها حتمًا ستلجأ لأساليب الضغط المعنوي على الأفراد لكي يتحلوا بهذا المظهر. وفي هذه الحالة - حتى إذا كان المظهر في النهاية مظهرًا جيدًا وكتابيًا ومطلوبًا- وإن كان مقبولًا شكلًا، إلا أنه مرفوض موضوعًا أمام الله وأمام أي شخص ناضج بسبب خطأ الأسلوب الذي أوجد به هذا الشكل. وأساليب الضغط مختلفة، إلا أنها لا تخرج عن نوعين؛ إما الترغيب أو التهديد، وكثيرًا ما نرى هذا في وسطنا وكلاهما ردئ.
فالترغيب يكون في صورة الإشعار بالقبول، المدح العلني والتشجيع المستمر وإبداء الثقة في الشخص، وهذا قاد كثيرين للانتفاخ الباطل والكبرياء.
والتهديد يكون في صورة الإشعار بالرفض، الإدانة والتوبيخ العلني، وعدم إبداء الثقة لهذا الشخص من جهة أي شيء روحي، مما قاد الكثيرين إلى الإحباط والفشل.
وأما مَنْ يدرس حياة السيد وتعاليمه في الأناجيل، فسيكتشف أن السيد لم يستعمل مطلقًا لا التهديد ولا الترغيب، بل على العكس كان خاليًا تمامًا من أي عسل وأيضًا خاليًا تمامًا من أي عنف.
4. السقوط في الخطية التي لايحتملها المسيح: 
عندما يكون هناك تركيز من أفراد الجماعة ككل، ولا سيما قادتها، على المظهر أكثر من الجوهر، هذا سيسهل ليس فقط حدوث القولبة، لكن أيضًا السقوط في أردأ خطية لا يحتملها المسيح ألا وهي خطية الرياء.
ومَنْ يقرأ حديث الويلات الأخير الذي حدَّث به الكتبة والفريسيين في متى ٢٣، سيكتشف كم يبغض المسيح هذه الخطية، ولخطورة هذه الخطية وأيضًا لعلاقتها الحميمة بموضوعنا، سنتوقف عندها في حديث آخر.