البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

سلام عليك يا أبي


بعينين يملأهما الحزن والأسى، وعلى أقدام تدب فى ثنايا عروقها ومفاصلها ضربات الوهن والضعف، أسندت ظهرى إلى الحائط، وأخرجت هاتفى لأقرأ آيات من القرآن الحكيم من مصحفه الإلكتروني، بدأت بسورة يس، تيمنًا ببركتها، أجهشت بالبكاء للحظة إلا أننى تداركت الموقف وحبست دموعى وضبطت أنفاسى فأخواى يقفان لجوارى يحدقان بوجهى وكأنهما يقولان لى افعل شيئًا لأجل والدك القابع بين يدى الجراح مستسلمًا لضربات مشرطه، ونحن أمام غرفة العمليات لا حول لنا ولا قوة، ورأيت فى نظراتهما عتابًا ولومًا لم ينطق به لسانهما، فأنا من وقّع منذ دقائق إقرار إجراء العملية على مسئوليته الشخصية متحملًا تبعات ما قد يحدث جراء هذه العملية، وكأنى أُسلم والدى بيدى إلى مصير مجهول، وبين كلمات لم تنطق ودموع لم تُذرف أسلمت أمرى وأبى كذلك لله الكريم مؤمنًا بأنه لن يضيعنا. فى السادسة من صباح السبت الماضى كان البيت بأكمله يقف على قدم واحدة، فبعد ساعات قليلة سيخضع والدى لجراحة فى عينه، وهذه الكلمة - كلمة جراحة - لأول مرة تنطق فى بيتنا الذى أنعم الله عليه بنعمة الستر بكل ما تحمل هذه النعمة من معانٍ، تأهبنا جميعًا للانطلاق، رغم إخفائنا عن العائلة والأهل أن هناك عملية ستُجرى فى الموعد المحدد إلا أن الخبر تسرب فى ساعات قليلة، فتحول المنزل إلى ثكنة تمتلئ وتضج بالزوار المعاتبين قبل المطمئنين. لم أكن يومًا ضعيفًا أو مهتزًا فى الشدائد، بالعكس، فبينما يذرف الجميع الدموع والعبرات تجدنى واقفًا أفعل ما يجب عليّ فعله مؤمنًا بأن الوقت أمامى لأقيم طقوس الحزن والرثاء ودفق العبرات بأن تطلب الأمر، فأبى حفظه الله، هو من زرع بداخلى روح المواجهة، المواقف تقتضى أن نفكر سريعًا ونتحرك سريعًا أيضًا، ومن بعد يكون هناك المتسع، من منطلق انقذ ما يُمكن إنقاذه، وهذا الموقف ليس الأول لى مع والدى ففى العام ٢٠١٦ أصيب مثلى الأعلى ومعلمى الأول بجلطة استدعت تحركًا سريعًا لأكثر من طبيب والانتقال لأكثر من مستشفى، وإجراء فحوصات وأشعات وتحاليل، وكان اختبارى الأول مع والدى الذى اعتدته صلبًا قويًا لا يرهقه مرض ولا يُبدى ألمًا مهما كانت قوته، ورغم صدمتى وجدته يقول لى عندما مددت يدى لأساعده «أنا أشد منك»، ووجدتنى أستمد منه قوتى كما أعتدت قديمًا وأتحلى بالصبر وأفعل ما عليّ فعله. كنت أعلم دائمًا أن أمى السيدة القروية البسيطة التى لم تلق نصيبًا من التعليم تحمل بين ضلوعها قلبًا يحتوى العالم، فهى على بساطتها مدرسة تعلمنا منها ما لم ولن نتعلمه فى أى مكان آخر، فكان الدرس الأول هو الحب، وكان الحب كفيلًا بأن يأتى بعده كل شيء؛ ما هزنى هذه المرة فى مرض أبي، وجعلنى أكاد لا أتمالك دموعى وهو فى غرفة العمليات، أننى رأيتها، رأيت أمى بعدما خرجنا جميعًا من المنزل تقف بين يدى أبى معلقة به كطفل صغير ستسافر عنه أمه ولا يعلم موعد عودتها، وكأنها تقول له لا تذهب أو تتوسل إليه بدموعها أن يعود لها مرة أخرى، تذكرت المشهد، تذكرت تعلق أمى به، تذكرت دموعها التى لا تفارقها كلما سافر أحدنا عن البيت، فما بالك بسفر رب البيت، رب البيت أبى الرجل الفلاح الذى أفخر بأنى ابنه وتلميذه فى آن؛ تذكرتها فلم أتمالك نفسي؛ وبينما أنا سابح ما بين أمى وأبى وإخوتى ساهمًا تجاه كتاب الله، خرج أبى من غرفة العمليات جالسًا على كرسى متحرك، فهرعنا إليه جميعًا، فزعين فرحين خائفين مستبشرين مشفقين مواسين، كل المشاعر اختلطت فى هذه اللحظة ونحن نلتف من حوله ونراه يعود إلى الحياة وإلينا مرة أخرى، إلا أننى وجدته صلبًا كما تعودت وكأنه يَأبىَ إلا أن يكون كما تعودناه منذ الطفولة، لا يعرف الألم أو الضعف طريقًا له؛ لم تمر دقائق على خروجه من غرفة العمليات، وبينما هو فى الإفاقة وجدته يطلب الهاتف ليحدث والدتى ليطمئنها، حاولت جاهدًا إثناءه عن الحديث إلا أن إصراره كان أقوى، فهو القوى قوى فى شبابه وشيبه، قوى فى أشد لحظات الضعف وقوى فى محبته، سلام عليك يا أبى فى كل حين.