البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الخلافة الإسلامية.. حقائق وأوهام- 9


فى مايو 1916، وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى اجتمع الدبلوماسى البريطانى مارك سايكس مع الفرنسى جورج بيكو، ووضعا خريطة للشرق الأوسط تنفذ عقب الهزيمة التى أصبحت أكيدة ووشيكة للدولة العثمانية، وقد قام سايكس وبيكو برسم حدود الدول الجديدة بأقلام ملونة وسمياها مؤقتًا باسم هذه الألوان، فهناك الدولة الزرقاء وهناك الدولة الحمراء..إلخ.. وقد اتفقا فيما بينهما على تأجيل البحث عن أسماء لتلك الدول حتى تنتهى الحرب رسميًا، وهى الحرب التى بدأت فى عام 1914، وكانت مصر حينها واقعة تحت الاحتلال الإنجليزى منذ 1882، وفى ذات الوقت تابعة للسلطنة العثمانية، وهنا اضطر الإنجليز لإعلان الحماية على مصر فى ديسمبر 1914، وإلغاء تبعيتها للأتراك وعزل عباس حلمى، وتعيين حسين كامل وتسميته بالسلطان نكاية فى السلطان العثمانى.
وبينما كان الشعب المصرى ينتظر قدوم الأتراك بجيش جرار لإعادة مصر إلى دولة الخلافة وتحريرها من الإنجليز فوجئنا بأن الباب العالى فى الأستانة لم يحرك ساكنًا ولم ينتفض خليفة المسلمين لنجدة مصر، بل انشغل بحربه فى أوروبا إلى جانب ألمانيا لينكشف ضعفه وقلة إمكانيات جيشه أمام جيوش بريطانيا وفرنسا وروسيا، وظل الاتفاق بين سايكس وبيكو سريًا حتى قامت الثورة الشيوعية فى روسيا سنة 1917، ووجد الثوار نسخة من هذه المعاهدة أو الاتفاقية بداخل مكتب القيصر فنشروها، مما سبب حرجًا كبيرًا للإنجليز الذين كانوا قد اتفقوا مع الشريف حسين أن يكون ملكًا للعرب وخليفة للمسلمين حال نجاحه فى طرد الأتراك من الأراضى العربية المحتلة، وتسبب نشر هذه الاتفاقية أيضًا فى ضغط المليونير الإنجليزى روتشيلد على حكومته للعمل على إقامة دولة لليهود فى فلسطين، فكان وعد بلفور الشهير فى 2 نوفمبر 1917، حين بعث وزير الخارجية البريطانى أرثر جيمس بلفور رسالة خطية إلى المليونير روتشيلد يخبره فيها بأن حكومة بريطانيا ستبذل غاية جهدها فى سبيل إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، وقد صدر هذا الوعد فى ظل دولة الخلافة التى يتغنى بها البعض ويتباكون عليها ويريدون عودتها.
ونعود للشريف حسين الذى كان واليًا على مكة بقرار من السلطان العثمانى، وهو ينتمى إلى الأسرة الهاشمية، ونسبه يمتد إلى النبى -صلى الله عليه وسلم، وكان مقربًا من السلطان عبدالحميد فى فترة من الفترات، حتى أجبر الشعب التركى عبدالحميد على التنازل عن العرش لأخيه محمد الخامس بعد سنوات حكم امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا، ضعفت فيه الدولة وعانت شيخوخة وسط أوروبا الشابة، وهنا بدأ الشريف حسين يميل إلى التحرر والانفصال عن الدولة العثمانية، وعزز الإنجليز ذلك بداخله عندما جعلوا المندوب السامى البريطانى فى مصر (هنرى مكماهون) يراسله ويعرض عليه أن يكون خليفة المسلمين بعد انتهاء الحرب وإسقاط تركيا، وبالفعل ساند الشريف حسين الإنجليز بكل ما أوتى من قوة طمعًا فى أن يكون خليفة المسلمين، وطلب منه مكماهون القيام بثورات شعبية ضد الدولة العثمانية؛ فحدث ما سمى وقتها بـ«الثورة العربية»، والتى قادتها مجموعات من الشباب فى الحجاز والأردن والشام، وانطلقت تباعًا من بلد إلى آخر وبالأسلوب نفسه، الذى حدث فيما سمى بـ«الربيع العربى» ابتداء من أواخر 2010، حين أراد الغرب إعادة تقسيم المنطقة من جديد فعادوا إلى السيناريو القديم ونفذوه بحذافيره، ولو أن أحدًا قرأ تفاصيل ما حدث فى الثورة العربية لأصابه الذهول للتشابه أو التطابق بين ما حدث قديمًا وما حدث مؤخرًا، ورسائل مكماهون للشريف حسين تحمل بعض هذه التفاصيل؛ حيث تبدأ الاضطرابات بغضب شعبى تجاه الحكومة الموالية للدولة العثمانية، وأثناء المظاهرات يتم قتل بعض الشباب فيثور الجميع فى فوضى عارمة ويتم نهب الدكاكين وإخراج المساجين، فتضطر الدولة العثمانية إلى إرسال قوات من جيشها لحفظ النظام فى هذه البلاد، فيعتدى الثوار عليها وتبادلهم إطلاق النار، ويتولد الشعور الجماهيرى بضرورة رحيل المحتل التركى الظالم، وللحق فقد نفذت الفكرة باقتدار، واشتعلت نيران الثورة العربية الكبرى فى يونيو 1916، وانتقلت خلال أقل من أسبوع من الحجاز إلى الأردن، ثم إلى دمشق، ولم يكن هناك إنترنت أو فيسبوك، وقبلها بعدة أشهر كان مكماهون يشرف بنفسه على تدريب مجموعة من الشباب فى هذه البلاد على تبنى الأفكار القومية والعرقية.
وفى هذه الأثناء ظهر لأول مرة مصطلح القومية العربية، وفى أكتوبر 1916، أعلنت بريطانيا اعترافها بالشريف حسين ملكًا على الحجاز فتحرك على رأس جيش كبير من القبائل العربية لتحرير بقية البلاد من العثمانيين، وبالفعل نجح الشريف حسين فى طرد القوات التركية من عدة مدن عربية ودعت فرنسا لعقد مؤتمر عاجل لدعم مسلحى القبائل العربية فى طلبهم المشروع، وهو تحرير بلادهم، واستنكر المؤتمر الأعمال الوحشية التى يقوم بها حاكم دمشق التابع لتركيا، والذى حاول أن يخمد الثورة، وأعلنت فرنسا وإنجلترا وقوفهما ودعمهما الكامل للثوار العرب، وظن الشريف حسين أنه أصبح خليفة للمسلمين حقا لا سيما بعدما منحه الإنجليز لقب ملك العرب، ولكنه فوجئ بالروس وقد فضحوا الاتفاق السرى الذى عقده الإنجليزى سايكس مع الفرنسى بيكو؛ فأصيب بخيبة أمل، وفهم أخيرا أنه كان مجرد أداة فى يد الإنجليز، وأنهم استخدموه لمحاربة الأتراك داخل الأراضى العربية لكنهم لن يجعلوه خليفة للمسلمين كما وعدوه.. فما أشبه الليلة بالبارحة.. وللحديث بقية.