البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

"الحرب الدبلوماسية بين واشنطن وموسكو" .. آفاق وحدود المواجهة المحتملة

البوابة نيوز

تشكل الحرب الدبلوماسية الحالية وتبادل الطرد الجماعي للدبلوماسيين بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا مؤشرا جديدا على مدى التدهور الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين بصورة هي الأسوأ ربما منذ عقود، حسب المحللين.
رغم أن التطورات الأخيرة تمثل أحدث فصول الصراع المستمر بين الولايات المتحدة وروسيا منذ عقود طويلة، حول المصالح والنفوذ على الساحة الدولية، إلا أن المواجهة الحالية، والتي جاءت على خلفية قضية الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال، تبدو مختلفة عما سبقها من مواجهات، وبصورة تنذر، كما يحذر مراقبون، بعودة أجواء الحرب الباردة، لاسيما مع التلويح المتبادل بالدخول مجددا في سباق تسلح على غرار ما كان يحدث بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.
اللافت هنا أن تصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن تزامن مع بداية ولاية رئاسية جديدة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدأها بخطاب غلبت عليه لهجة التهدئة والرغبة في احتواء التوتر مع الدول الغربية. 
ففي أول خطاب له عقب إعلان فوزه بالانتخابات الأخيرة أعلن بوتين استعداده لـ"حوار بناء" مع الدول الأخرى في إشارة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مستبعدا أن يكون هناك سباق تسلح، ومتعهدا بتقليص الإنفاق الدفاعي لروسيا.
لكن تطورات ومسار الأحداث الراهنة يظهر أن العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة لا تسير نحو التهدئة بل إلى التصعيد والمواجهة الدبلوماسية والاقتصادية وربما الأمنية، كما أنها تظهر أن لهجة بوتين التصالحية الأخيرة لم تجد آذانا صاغية لدى الدول الغربية، في ظل قناعة لدى واشنطن والعواصم الغربية الأخرى بأن طموحات "روسيا بوتين" العسكرية والسياسية، ومحاولاتها للعب دور أكبر في العديد من الملفات على الساحتين الدولية والإقليمية باتت تشكل تهديدا قويا للمصالح الغربية والأمريكية.
السؤال الذي يطرح هنا هو حول آفاق هذه العلاقات المتوترة بين موسكو والغرب وحدود وشكل المواجهة المحتملة وتأثيراتها المتوقعة على قضايا وأزمات منطقة الشرق الأوسط؟
العنوان الأبرز للتوتر الحالي بين روسيا والغرب هو قضية العميل الروسي المزدوج "سيرجي سكريبال" والذي تتهم السلطات البريطانية موسكو بالضلوع في محاولة اغتياله مع ابنته في بريطاينا، عن طريق تسميمه بغاز محظور، وهي القضية التي أثارت موجة واسعة من الغضب في العواصم الغربية التي أعلنت تضامنها الكامل مع بريطانيا في مواجهة روسيا التي تنفي الاتهامات البريطانية، فقد قررت 14 دولة من دول الاتحاد الأوروبي طرد دبلوماسيين روس من أراضيها على خلفية هذه القضية، في حين انضمت الولايات المتحدة إلى الموقف الأوروبي حيث أمر الرئيس دونالد ترامب بطرد 60 دبلوماسيا روسيا، وبإغلاق القنصلية الروسية في (سياتل)، فيما وصف بأنه أكبر عقاب دبلوماسي جماعي في التاريخ.
في المقابل ردت موسكو بإجراء مماثل حيث قررت طرد 60 دبلوماسيا أمريكيا من أراضيها وإغلاق القنصلية الأمريكية في سان بطرسبرج، وأعلنت الخارجية الروسية، أنها أبلغت سفراء معظم الدول التي قامت بطرد دبلوماسيين روس بأن عددا مساويا من دبلوماسي تلك الدول سيعاملون كأشخاص غير مرحب بهم في روسيا.
لكن قضية "سكريبال"، كما يرى محللون، ليست سوى رأس جبل الجليد الغاطس والذي يخفي تحته العديد من الأزمات والتوترات بين موسكو والغرب، والتي أدت إلى تدهور مستوى العلاقات بين الجانبين، والذي وصفه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بأنه غير مسبوق في تاريخ العلاقات على مدى أكثر من خمسين عاما. 
هذا التدهور الحالي ليس وليد اليوم بل وثيق الصلة بالخلاف بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2014، وما أعقبه من ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي في استفتاء لم يعترف الغرب بنتائجه حتى اليوم، وهي الخطوة التي فجرت غضب واشنطن، حيث قررت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما فرض عقوبات اقتصادية واسعة ضد روسيا، استهدفت قطاعات كاملة للاقتصاد الروسي وعلى رأسها قطاع الطاقة الحيوي فضلا عن قطاع البنوك، وهي العقوبات التي لا تزال سارية حتى اليوم، بل وجرى تشديدها في عهد الرئيس ترامب.
الأزمة الأوكرانية بما تشكله من أهمية جيوسياسية في صراع النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة، كانت إذن العامل الأهم في التوتر الذي تشهده علاقات الجانبين، إلا أنها لم تكن السبب الوحيد لهذا التدهور، إذ يشتبك الطرفان حول أزمات دولية وإقليمية أخرى عديدة على رأسها الأزمة السورية والموقف من إيران. 
ففي عام 2015، تدخلت روسيا عسكريا في الصراع الدائر في سوريا بشكل فعلي ووقفت بشكل علني إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما أدى إلى تصعيد التوتر بين موسكو والغرب، الذي اعتبر هذا التدخل تهديدا لمصالحه ونفوذه في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما وـن هذا التدخل فضلا عما شكله من فرصة لروسيا لاختبار أحدث أنواع أسلحتها على الـرض السورية، فإنه جعل روسيا أحد أهم اللاعبين في هذه الأزمة.
إلى جانب ذلك، فإن روسيا تواجه اتهامات في الغرب بشن حرب إليكترونية واسعة ضدها، بهدف التدخل في شؤون الدول الغربية وللتأثير على أوضاعها السياسية، ويأتي على رأس تلك الاتهامات المزاعم بتدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016، حيث يترقب العالم نتيجة التحقيقات التي يجريها الكونجرس وأجهزة التحقيقات الأمريكية في هذا الصدد، وفي حال ثبوت هذه الاتهامات فستكون لها تداعياتها الخطيرة على العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة.
كما أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجه اتهاما مماثلا لموسكو بالتدخل في الانتخابات الفرنسية الأخيرة لصالح مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، بينما تحدثت تقارير عن دعم روسي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأنها قدمت الأموال لبعض الحركات والأحزاب الأوروبية التي تشكك في جدوى استمرار البقاء داخل الاتحاد.
العوامل السابقة مجتمعة بددت الآمال في حدوث تقارب بين موسكو وواشنطن والتي أنعشها وصول ترامب إلى البيت الأبيض خصوصا في ضوء تصريحاته الإيجابية تجاه روسيا خلال حملته الانتخابية، ودفعت العلاقات بين البلدين نحو مسار مغاير يتسم بالتصعيد لا التهدئة، والتباعد لا التقارب.
في هذا الإطار يرصد المحللون العديد من الأسباب الأخرى التي تشكل عقبات مهمة أمام أي تحسن محتمل في العلاقات الروسية – الأمريكية مستقبلا، أهمها:
- سعى إدارة ترامب لتعزيز حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، وهو أمر لن يحظى بترحيب موسكو التي تنظر بقلق متزايد تجاه تمدد الحلف في دول تعتبرها روسيا مناطق نفوذ تقليدي لها.
- الكثير من مساعدي ترامب ومسؤولي إدارته من أصحاب المواقف المتشدد تجاه روسيا وعلى رأسهم وزير الدفاع جيمس ميتيس الذي يعتبر روسيا وبوتين "الخطر الجيوسياسي الرئيسي" للولايات المتحدة، كما أن مستشار الرئيس الجديد لشؤون الأمن القومي 
جون بولتون يعتبر روسيا دولة "معادية وتحريفية".
- تزايد القلق لدى حلفاء الولايات المتحدة من الطموحات العسكرية المتزايدة لروسيا والانتشار غير المسبوق لسلاح البحرية الروسية منذ الحرب الباردة، ومحاولاتها تعزيز نفوذها في منطقة البلطيق وعلى الحدود مع بولندا.
- الخلاف بين موسكو وواشطن بشأن سوق النفط حيث تشجع واشنطن زيادة إنتاج النفط بما يؤدي لخفض أسعار النفط في الأسواق، وهذا أمر يلحق الضرر باقتصاد روسيا التي تعتمد على عائدات النفط في نصف ميزانيتها.
وفيما يتعلق بالسيناريوهات المحتملة للتوتر الحالي والاتهامات المتبادلة بين موسكو وواشنطن وإمكانية وصوله، فما يحدث حاليا من توتر هو امتداد لحرب مستمرة منذ عقود بسبب اختلاف وجهات النظر والمصالح، فرغم الحرب الباردة والصراع المرير بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، فإن الأمور لم تصل إلى حد المواجهة المسلحة، وهي لن تحدث أيضا بين روسيا والولايات المتحدة حاليا.
ورغم تعدد أسباب التوتر الراهن فإن هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تساعد على تسوية الخلافات بين الجانبين أو احتوائها على الأقل وعلى رأس هذه العوامل التشابك الكبير بين مصالح روسيا والولايات المتحدة، فلروسيا حدود مع أوروبا والشرق الأوسط وآسيا -هذه المناطق لها أهمية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة- كما أن البلدين بحاجة للتعاون فيما بينهما لمواجهة أزمات وملفات عديدة من بينها الحب على الإرهاب ومشكلة الاحتباس الحراري وانتشار السلاح النووي.