البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الفلسفة والحرب على الإرهاب "2/2"


.. بمجرد الحديث عن أنواع الإرهاب، يتبادر إلى الأذهان ذلك المثال الرائع الذى قدمه تشومسكى، والذى نقله عن القديس أوغسطين، فى مقدمة كتابه «قراصنة وأباطرة: الإرهاب الدولى فى العالم الحقيقي»، حيث يروى القديس أوغسطين قصة قرصان وقع فى أسر الإسكندر الكبير، الذى سأله: «كيف تجرؤ على إزعاج البحر»، كيف تجرؤ على إزعاج العالم بأسره؟ فأجاب القرصان: «لأننى أفعل ذلك بسفينة صغيرة فحسب، أدعى لصًا، وأنت، تفعل ذلك بأسطول ضخم، تدعى إمبراطورًا». لا شك أن هذه القصة تحمل من المعانى والدلالات التى تكشف النقاب عن الإرهاب الدولى فى عالمنا المعاصر- كما صرح تشومسكى- حيث يوضح بدقة العلاقة الراهنة بين الولايات المتحدة ومختلف اللاعبين الصغار على مسرح الإرهاب الدولي.
من هذا المنطلق هناك نوعان من الإرهاب:
- الإرهاب بالتجزئة وهو إرهاب الأفراد والجماعات، وقد اخُتزل اليوم مصطلح «الإرهاب» فى هذا النوع فقط حسب رأى تشومسكي، فبينما كان المصطلح ذات مرة يطلق على الأباطرة الذين يزعجون رعاياهم بالذات والعالم، فإنه أصبح الآن مقتصرًا على اللصوص الذين يزعجون الأقوياء، حيث يوضع مصطلح الإرهاب بالتجزئة الذى يقوم به اللصوص الصغار فى مقابل مصطلح الإرهاب بالجملة؛ أى المتعلق بالأباطرة. وبما أن الإرهاب اليوم- ومن خلال استعماله فى الخطاب السياسى- أصبح يشير فقط إلى إرهاب الأفراد، فإن هذا النوع لا يهتم به تشومسكي، وإنما خصص كل كتاباته حول الإرهاب الدولي.
- الإرهاب بالجملة أو الدولي
بدأ استخدام كلمة «إرهاب» فى نهاية القرن الثامن عشر للتعبير بشكل أساسى عن أعمال العنف التى تقوم بها الحكومات لضمان خضوع الشعوب. وكما هو واضح؛ فإن هذا المفهوم لا ينطوى على كثير من الفائدة لمن يمارسون إرهاب الدولة، الذين يوجدون بحكم سيطرتهم على السلطة فى وضع يسمح لهم بالسيطرة على نظام التفكير والتعبير. لذلك فقد أهمل المعنى الأصلى للكلمة، وأصبحت كلمة إرهاب تطلق الآن- بشكل أساسى- على إرهاب التجزئة الذى يقوم به الأفراد أو الجماعات. لذلك فإن تشومسكى لم يتخذ من «الإرهاب بالتجزئة» موضوعًا لدراساته، وإنما اهتم بالإرهاب الدولي؛ لأن مصطلح الإرهاب من منظور تشومسكى قد أفرغ من معناه الحقيقى الذى هو الإرهاب الدولى الذى تقوم به الدول لينحصر فى إرهاب الأفراد أو الجماعات. ففى حين كانت الكلمة تطلق على الأباطرة الذين يرهبون رعاياهم، أصبحت تطلق فقط على اللصوص الصغار الذين يعتدون على الأباطرة. ويُعرف تشومسكى الإرهاب- سواء منه الإرهاب الدولى أو إرهاب الأفراد أو الجماعات- على أنه التهديد باستخدام العنف أو استخدامه بالفعل للتخويف أو الإكراه (لتحقيق غايات سياسية فى معظم الأحيان)، وينسحب هذا التعريف على نوعى الإرهاب. ومن هنا فإن مصطلح الإرهاب بصفة عامة- سواء منه الإرهاب الدولى أو إرهاب التجزئة- لم يُعَرفْ، وإن كان تشومسكى يرى أن مفهوم الإرهاب حسب التقاليد الأمريكية أو العالمية هو مفهوم واضح لا غبار عليه، لكن الشيء غير الواضح هو استخدامات المصطلح فى الخطاب السياسى أو الإعلامي، ومما زاد من غموض المصطلح استغلاله سياسيًا لصالح تيارات وإيديولوجيات معينة.
ولا يخلو الحديث اليوم عن موضوع الإرهاب من التوقف عند أحداث الحادى عشر من سبتمبر- كما سبق القول- وكونه الحدث السياسى الذى أثار الكثير من الجدل على مختلف الساحات، الأمر الذى جعل منه موضوع العصر. فقد رأى بعض الباحثين أن أهمية هذه الأحداث تضاهى سقوط جدار برلين، لكن تشومسكى يرى أنه: «من المؤكد أن سقوط جدار برلين له أهميته الكبرى، فقد غير المسرح السياسي، لكن الفظائع التى حدثت فى ١١ سبتمبر تُعد شيئًا جديدًا فى الشئون الدولية، ولا يرجع هذا إلى طابعها أو نطاقها، بل إلى ما كانت تهدف إليه، فهذه هى المرة الأولى منذ حرب ١٨١٢ التى يتعرض فيها الأمن القومى للولايات المتحدة للتهديد». لم تتعرض الولايات المتحدة للهجوم منذ قرون خلت، لقد بدا الأمر وكأن هيمنتها على العالم تُحتضر، وأن سيطرتها التى تفرضها بوصفها قوة عالمية بدأت تتزعزع، وأنها تنذر بسوء لمستقبل هذه الهيمنة. يرى تشومسكي: «أن مرتكبى هذه الجريمة هم فئة فى حد ذاتها، إلا أن الشيء الذى لا يقبل الجدل هو أنهم يستمدون الدعم من مخزون المرارة والغضب من سياسات الولايات المتحدة فى المنطقة، امتدادًا من الغضب فى الماضى على السادة الأوروبيين، وما من شك فى وجود قضية تتعلق بالسلطة السياسية والقوة». فالذين قاموا بالجريمة لا يَسُرهم أن تتدفق ثروات المنطقة إلى الغرب، وإلى نخب صغيرة ذات توجه غربي، وحكام فاسدين قساة تساندهم القوى الغربية. وكان رد الولايات المتحدة هو التعامل مع هذه المشكلات عن طريق جعلها أشد حدة. 
لذلك أرست الولايات المتحدة عقب هجمات الحادى عشر من سبتمبر سياسة رسمية جديدة، قامت على الحرب الوقائية بوصفها ردَ فعلٍ على الاعتداءات الإرهابية، فأعلن الرئيس «بوش» أن الولايات المتحدة لها حق سيادى فى استخدام القوة لحماية أمنها القومى الذى يهدده العراق، سواء بوجود صدام حسين أو عدم وجوده حسب مذهب بوش. وتسعى واشنطن لتأسيس «واجهة عربية»-على حد التعبير البريطانى- وهذا ما يغرس النفوذ الأمريكى فى قلب أكبر منطقة منتجة للطاقة فى العالم. إن استفادة الولايات المتحدة من اعتداءات الحادى عشر من سبتمبر، كانت أكثر من ضررها منها، إذ كانت بمنزلة ذريعة لتحقيق أهدافها التى تتعلق أساسًا بالسيطرة على مواقع النفط والطاقة.
وخلاصة القول، يرى تشومسكى أن الحرب على الإرهاب هى حرب قد أعلنت من جديد؛ لأنها كانت سائدة من قبل، ومن المفترض- حسب رأيه- أن تُشن على الولايات المتحدة الأمريكية أكبر دولة إرهابية فى العالم. لقد أراد تشومسكى من خلال هذا الرأى فضح المشروع الإمبريالى الغربى وتقويضه من الداخل. لقد قام باستقراء ظاهرة الإرهاب من واقع السياسة الأمريكية فحسب، حيث انصب جل اهتمامه- تقريبًا- فى كل الموضوعات التى عالجها- على البيئة الأمريكية، ونادرًا ما أشار إلى دول غربية أخرى. لذلك فإن معظم محصلة آرائه عن الإرهاب هى نتيجة عدائه للولايات المتحدة. وتبرز أصالة تشومسكى فى موضوع الحرب على الإرهاب من خلال التمييز الذى وضعه بين الإرهاب والمقاومة، وبين الإرهاب والدفاع عن النفس، وبين الإرهاب وثورة الشعوب من أجل تقرير مصيرها.