البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

القوى الناعمة المصرية رؤية النخبة المحلية

البوابة نيوز

سياسة حكم رشيد وعلاقات قوة عادلة.. وآداب وفنون.. أهم الشروط

الدولة مطالبة بتبنى رؤية تلخص القيم الفكرية للجماعة المصرية

تشبيه «القوة الناعمة» بالسياسة الخارجية تجاهل لتحولات الثورة الرقمية

 

استمرارا لسياسة التعاون بين «البوابة نيوز» والمركز العربي للبحوث والدراسات ننشر اليوم دراسة للدكتور محمد أحمد عبدالله حول القوى الناعمة المصرية ورؤية النخبة المحلية.

نستكمل نشر الدراسة الرابعة من سلسلة دراسات «القوى الناعمة فى مصر والعالم»، والبداية كانت مع دراسة «القوى الناعمة فى العالم» لإبراهيم نوار رئيس الوحدة الاقتصادية بالمركز العربى للبحوث والدراسات، ثم دراسة «قوة التكنولوجيا والإنترنت» للدكتور شريف درويش اللبان، وكيل كلية الإعلام بجامعة القاهرة، رئيس وحدة الدراسات الإعلامية بالمركز، وجاءت الدراسة الثالثة تحت عنوان «القوة الناعمة المصرية.. استعادة الدور المفقود» للدكتور أحمد موسى بدوى، فى ظل تحديات كبيرة تواجهها مصر على المستوى الإقليمى والدولى، وأزمات تتعلق بالسياسة الخارجية وحرب داخلية شرسة تخوضها ضد الإرهاب. يعتبر مفهوم القوة واحدًا من المفاهيم الكبرى والرئيسية فى أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية، وصيغت كثير من المفاهيم المتاخمة له، أو المشتقة منه، باعتباره «القدرة على التأثير على الآخرين»؛ لتحقيق الأهداف العامة المرجوة. فهناك من يقاربها مقاربة سوسيولوجية على غرار أعمال ماكس فيبر الكلاسيكية التى اهتمت بظاهرة القوة، وركزت بشكل خاص على قوة الكاريزما، حال قيامها بدراسة الجماعات الدينية. لقد كان لأعمال فيبر تأثيرها فى سياق الاهتمام بالتأثير الرمزى غير المعتمد على استعمال القوة المباشرة.


تطوير المفهوم

ولقد استطاع جوزيف س ناى تطوير مفهوم «القوة الناعمة» فى كتاب يحمل فى عنوانه نفس المفهوم. ولقد شغل المؤلف منصب وكيل وزارة الدفاع فى عهد بيل كلينتون، ولقد طور الرجل مفهومه. حيث قام مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية فى عام ٢٠٠٦ بتكليفه ومعه ريتشارد أرميتاج إلى جانب نخبة استراتيجية لإعداد تقرير لمراجعة مفهوم القوة، ونتج عن ذلك تقرير عنوانه «القوة الذكية»، وذلك بعد عام كامل من التكليف المذكور.

وطور جوزيف ناى المفهوم فيما بعد فى كتابه «مستقبل القوة»، ليؤسس لمفهوم جديد هو «القوة الذكية». إذ يرى ناى صعوبة الرهان على القوة الصلبة بمفردها، أو القوة الناعمة فقط فى الشأن الدولي، بل يجب الجمع بين القوتين معا فيما يعرف بالقوة الذكية.

ولقد حاول المثقفون المصريون تماشيًا مع المستجدات التى شهدها الواقع السياسى فى المنطقة العربية، وتغيير موقع مصر على خارطة القوة فى المنطقة، أن يستلهموا مفهوم جوزيف ناي، استلهامًا يرسم معالم المفهوم، وتحديد أبعاده ومكوناته، انطلاقًا من الوعى بأهميته كبديل للقوة العسكرية والاقتصادية، وفى ضوء القدرات والإمكانيات المصرية، والخبرات التاريخية السابقة التى ساهمت فى صياغة معالم المفهوم.

وتحاول المقالة الحالية أن تلقى الضوء على استجابة عدد من المثقفين المشتغلين بالعلوم الاجتماعية والسياسية، وذلك لتحديد دلالة المفهوم لديهم، وتصورهم للتطور التاريخى له، ورؤيتهم لعوامل القوة وإمكانيات الخروج والتهيئة التى تمكن الدولة المصرية من الريادة والتميز.


معنى القوة الناعمة

مبدئيًا يعرف جوزيف س ناى المفهوم فى كتابه «القوة الناعمة وسيلة النجاح فى السياسة الدولية»، على أنها: «القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين»، ويضيف بأنها أكبر من مجرد التأثير فى الآخرين بإقناعهم بالحجج، بل هى أيضًا «القدرة على الجذب، والجذب كثيرًا ما يؤدى إلى الإذعان».

ويرى جوزيف ناى أن ما ينتج الجاذبية هو ما يعتبر مكونًا وأصلًا من أصول القوة الناعمة، أو ما يسميه بالموجودات غير الملموسة، مثل جاذبية شخصية القيادة، والثقافة، والمؤسسات والقيم السياسية، والسياسات التى يراها الآخرون مشروعة أو ذات سلطة معنوية أخلاقية. هذا فى مقابل القوة الصلبة القائمة على قوة التهديدات والرشاوى واستعمال السلاح. ويضرب مثلًا ببعض الدول التى لديها قوة ونفوذ أعظم مما يوحى وزنها العسكرى والاقتصادي؛ منها النرويج التى شاركت فى محادثات السلام فى مناطق عديدة فى العالم، متأثرين بتراثهم البروتستانتى التبشيري. فبرأيه «عندما تجعل البلدان القوة مشروعة فى نظر الآخرين، فإنها تواجه مقاومة أقل لرغباتها. فإذا كانت ثقافة بلد ما وعقيدته الأيديولوجية جذابة، فإن الآخرين يتبعونه باستعداد أكبر. وإذا استطاع بلد ما أن يشكل قواعد دولية متمشية مع مصالحه وقيمه، فإنه من المرجح أن تبدو أعماله مشروعًة فى عيون الآخرين. وإذا استخدم مؤسسات أو اتبع قواعد من شأنها تشجيع بلدان أخرى على توجيه فعالياتها أو الحد منها بطريقة يفضلها، فإن ذلك البلد لن يحتاج إلى الكثير من الجزرات والعصى الباهظة التكاليف». بهذا المعنى فإن مفهوم القوة الناعمة يبقى مفهومًا واسعًا يعنى السلطة المعنوية كمقابل للسلطة المادية


القوة الناعمة ومفهوم الثقافة

وفيما يبدو أن التوصيف الذى يجرى على الألسنة الذى يقول إننا أمة بلاغية وصوتية قد ترك أثره فيما تتصوره النخبة المثقفة المصرية التى تعبر عن نفسها فيما ينشر من مقالات على ساحة الصحف. فالنظرة المتأنية لما يكتب حول الموضوع تبين حجم الاهتمام بالقوة الناعمة كقوة رمزية ثقافية، تجد تمثيلها فى الثقافة بمختلف تجلياتها وأشكالها، وبالذات ما تنقله الوسائط العامة. فالسمة الأساسية التى يمكن ملاحظتها على مستعملى مفهوم القوة الناعمة من خارج المشتغلين بعلم السياسة هو خلطهم بين مفهوم القوة الناعمة ومفهوم الثقافة، بحيث تصبح روافد الثقافة هى ذاتها روافد القوة الناعمة، ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما ذهب إليه الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى من مضاهاة بين المفهومين على اختلافهما وتداخلهما، فيقول فى مقال له: «نحن نتحدث كثيرًا فى هذه الأيام عن القوة الناعمة، أى عن الثقافة»، وعلى الرغم من إدراك بعض أعضاء النخبة المصرية لدلالة المفهوم وفق أصوله ومعناه فى الدراسات والأدبيات الغربية، إلا أن التطبيق العملى للمفهوم يقيده بحدود الثقافة ودلالاتها. وهو ما نجده فى تعريف نبيل عبدالفتاح للمفهوم وهو تعريف دقيق للغاية فى تفاصيله حيث يقول إن المفهوم يعتمد على «قيام الدولة بمحاولة نشر نماذجها الثقافية والتعليمية والفنية والإبداعية، بل وقيمها السياسية والرمزية، وجعلها تمثل فى وعى وإدراك الصفوات السياسية والمثقفة فى العالم، أو فى بعض المناطق الإقليمية النموذج الملهم الذى تتغيا استعارته أو العمل على هديه أو التأثر ببعض مكوناته أو علاماته على صعيد منظومات السياسة والهندسات القانونية والدستورية وفى أنساق القيم والثقافة على اختلافها» ثم يستطرد بأن استراتيجية تحقيق التأثيرات الناجمة عن النموذج الملهم تتمثل فى استعارة الهندسات السياسية والاجتماعية حول نمط الحياة الرمزية الذى يتخلق ويدور حول الثقافة وعديد مكوناتها وكذلك الحريات الفكرية والبحثية والمغامرة والتجارب الفنية الطليعية والتجريبية، والسرديات كالرواية والشعر، وفى التجارب الموسيقية والمسرحية، والأصوات وموسيقى الجاز والسينما الأمريكية والفنون ما بعد الحداثية، والمدارس والصروح المعمارية الضخمة وناطحات السحاب، والجامعات والمعاهد ومراكز البحث الأكثر تطورًا وعراقة فى العلوم الاجتماعية والطبيعية، ليعنى بالمفهوم إدارة المكونات الثقافية، بمختلف تجلياتها الفنية والبيداجوجية


المثقفون المصريون

ويشير محمد كمال، إلى هذا الخلط أو هذا التضييق فى فهم المفهوم وأبعاده، فعلى الرغم من أهمية ما يجرى من حوارات بين المثقفين المصريين بشأن المفهوم إلا أنهم برأيه لا يزالون يقصرونه على الثقافة فقط، بينما لم يعد العالم يتحدث فقط عن الثقافة كعنصر وحيد فى تعريف القوة الناعمة، ويضرب مثلًا بواحد من التقارير الدولية، وهو تقرير «القوة الناعمة ٣٠»، الذى تعده إحدى المؤسسات البريطانية بالتعاون مع «الفيس بوك». حيث يضع التقرير عددًا من المؤشرات تصل لست مجموعات، منها الثقافة (مثل مؤشرات حجم الصادرات الإبداعية، وعدد الأفلام المشاركة فى مهرجانات دولية، وعدد المتاحف والزائرين لها..إلخ)، والتعليم (مثل عدد الجامعات فى التصنيف الدولي، وعدد الطلاب الأجانب، والأبحاث المنشورة فى دوريات علمية عالمية، وعدد مراكز التفكير، وحجم الإنفاق على التعليم، ونسبة الأمية)، ومؤشرات الحوكمة أو أسلوب الحكم من قبيل الحريات العامة ودرجة الشفافية والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية، ودرجة الثقة فى الحكومة، وتقيس هذه المؤشرات مدى قدرة الدولة على أن تكون نموذجًا يحتذى، علاوة على مؤشر المشاركة الدولية (عدد السفارات، والعضوية فى المنظمات الدولية، وعدد المكاتب الثقافية، وعدد طالبى اللجوء)، ومؤشر الثورة الرقمية (عدد مستخدمى الإنترنت، والخدمات الحكومية على الإنترنت، وعدد المتابعين والمتواصلين من الخارج لحسابات القادة السياسيين للبلاد على السوشيال ميديا، وأخيرًا المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالابتكار والريادية فى قطاع الأعمال.


العناصر الفنية

وينهل ياسر عبدالعزيز، من أطروحة ناى حول المفهوم، ويرى أن المفهوم أوسع فى معناه مما يتردد ويسود بين النخبة المصرية، حيث يقتصر المعنى على العناصر الفنية، بينما يتسع المفهوم ليشمل عناصر قد تصل إلى ٧٥ عنصرًا فى بعض التقارير أو ستة. وتتضمن هذه العناصر جودة المؤسسات السياسية ومدى توافقها مع معايير الحكم الرشيد، والقدرة على الانتشار بفضل جودة الإنتاج الثقافى والمعرفى والفني، والمشاركة فى القضايا العالمية وطبيعة السياسة الخارجية، والسمعة العالمية لنظام التعليم العالي، وجاذبية الدولة على صعيد الاستثمار وأداء المؤسسات، وقدرة الدولة على التواصل الرقمي، ولذلك فإن نزاهة الانتخابات فى بريطانيا، وكفاءة حكومتها، ونجاعة الإدارة العمومية للدولة، من أهم العوامل التى جعلتها تحتل المرتبة الأولى فى ترتيب الدول على مؤشر القوة الناعمة فى عام ٢٠١٦


رسائل حضارية

وهو ما يعيه أيضًا حسنين توفيق الذى عرف القوة الناعمة على أنها العناصر التى تمتلكها الدولة وتمكنها من التأثير فى الآخرين، وجذبهم إليها، بل واتخاذها كنموذج دون الحاجة إلى استخدام القوة، ومن أهم هذه العناصر: الرسالة الحضارية والثقافية التى تتبناها الدولة، التى تتمثل فى منظومة القيم والمبادئ والأفكار الكبرى التى تؤمن بها، وطبيعة نظامها السياسي، وإلى أى مدى يجسد أسس الحكم الرشيد الذى يتسم بالفعالية والكفاءة، والنموذج التنموى الذى يعزز ويلبى الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ويحقق العدالة الاجتماعية، والنظام التعليمي، ووسائل الإعلام، والأعمال الفكرية والفنية، والمؤسسات الدينية.

بيد أن هذا الفهم لمعنى المفهوم يحتاج لمزيد من المراجعة، فهو من ناحية يقصر معنى المفهوم على دور الدولة ممثلة فى قطاعها الحكومي، وهو الواضح من الأمثلة التى يتم ضربها من واقع التجربة الوطنية أو الدولية، فى إشارة إلى ضعف مساهمة الدولة فى هذا الإطار، لكن هذا لا يعنى أن السياسات العامة لا تسهم فيها بقية قطاعات الدولة، خاصة أن بعض أبعاد القوة الناعمة قد أصبحت تحت سيطرة السوق والقطاع الخاص كما هو الحال فى الإنتاج الدرامى السينمائى والمسرحى والتليفزيوني


أبعاده ومكوناته الأساسية

يحدد جوزيف س. ناى أبعاد المفهوم ومكوناته فى قوله: «ترتكز القوة الناعمة لبلد ما على ثلاثة موارد، هي: ثقافته (فى الأماكن التى تكون فيها جذابة للآخرين)، وقيمه السياسية (عندما يطبقها بإخلاص فى الداخل والخارج)، وسياساته الخارجية (عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية أخلاقية)، ثم يعرف الثقافة على أنها «مجموعة القيم والممارسات التى تخلق معنى للمجتمع، ولها عدة مظاهر، فمن المألوف عادة أن يميز المرء بين الثقافة العليا، كالأدب، والفن، والتعليم، التى تعجب النخبة، والثقافة الشعبية التى تركز على إمتاع الجماهير بالجملة».

وكما تبين، فإن التركيز على المكونات الثقافية للمفهوم قد جعل البعض يهتم بالمفهوم فى أبعاد الرأسمال الرمزي. فهناك من يركز على دور الفنون، وبخاصة فن السينما والمسرح، والدراما التليفزيونية، لدورها فى نشر الثقافة واللغة المصرية بين الشعوب العربية، ومنهم من يهتم بدور الرياضة كعنصر فى القوة الناعمة والتأثير والجاذبية غير المباشرة، فالرياضة، وتحديدًا لعبة كرة القدم، أثرت فى تشكيل الصورة الذهنية العربية عن مصر والمصريين. وعلى وجه الدقة، فإن ناديى الأهلى والزمالك فى حقبة الستينيات كانا قوة ناعمة مؤثرة فى محيطها، خاصة أن مصر مارست اللعبة مبكرًا، ودليل ذلك قول مؤسس نادى الوداد المغربى محمد بن جالون بأن لقاءات الأهلى والزمالك بالنسبة للمغاربة منشورًا وطنيًا يبث روح العروبة، فالفرجة على المباريات المصرية مصدر من مصادر القوة الناعمة والتأثير غير المباشر.

وهذا ما عمل عليه الإنجليز، فعدد مشاهدى الدورى الإنجليزى فى العالم يصل إلى ٤.٧ مليار متفرج، وأن حقوق البث وصلت خلال الفترة من ٢٠١٦ إلى ٢٠١٩ إلى ٣.٢ مليار دولار، ما يساوى ثلاثة أضعاف إيرادات الدورى الإسبانى أو الألمانى عن نفس الفترة


التطور التاريخى

ركزت أغلبية الكتابات التى تناولت المفهوم على الفترة الناصرية باعتبارها فترة ازدهار القوة الناعمة، أو بالنظر لها كفترة انهيار وتدهور لها وترجيح كفة الفترة شبه الليبرالية التى سبقتها، ولم يتم السعى للتعريف بالتطور الذى طرأ على القوة الناعمة خلال مراحل التحول التاريخية.

وبحسب نبيل عبدالفتاح، يمكن النظر فى تاريخ تطور القوة الناعمة المصرية وفق مراحل أربع أساسية: المرحلة شبه الليبرالية، المرحلة الناصرية القومية، ومرحلة مبارك والسادات، ثم أخيرًا مرحلة ما بعد ثورة يناير.

حيث شهدت المرحلة شبه الليبرالية مجموعة من المتغيرات الأساسية التى ساهمت فى بزوغ الدور القوى للدولة المصرية فى المنطقة، فقد شهدت هذه الفترة تبلور «القومية المصرية» بفضل الانفتاح على الوافدين من الدول العربية المجاورة، وبالذات من سوريا ولبنان، حيث كان للمثقفين اللبنانيين خاصة دور مهم فى نشر ثقافة التنوير، علاوة على بزوغ دور السينما المصرية والحركة الأدبية المتدفقة.


عوامل التداعى وإمكانات النهوض

لقد تراجعت الدولة المصرية عن القيام بدورها تجاه الدول العربية المحيطة بها، حيث يلاحَظ أثر السياسة الجديدة التى انتهجتها السياسة التعليمية المصرية حيث شبت الأجيال العربية ولا تعرف شيئًا عن مصر ولا ثقافتها أو فنها أو علمها، فقد تم رفع تكاليف الدراسة على الوافدين العرب، وفرض شروط إدارية صعبة، مما اضطر هؤلاء الوافدين إلى السفر إلى أوروبا وأمريكا حيث الجامعات أقل تكلفة من نظيرتها المصرية.

وفى الأخير، يجمل نبيل عبدالفتاح، العوامل الأساسية فى تأثير ثقافة النفط على الثقافة المصرية؛ التنافس بين دول الإقليم العربى على وراثة الدور الثقافى المصري، بروز الدور الثقافى لبعض دول المنطقة المغاربية؛ وتراجع الحريات الفكرية، وهيمنة القوى الإسلامية المحافظة، وتعثر عملية التحول والانتقال الديمقراطي.

ثقافة النفط

فلا شك أن ثقافة النفط كان لها تأثيرها السلبى على سيادة ثقافة محافظة حالت دون قيم مهمة من قبيل المغامرة والإبداع والنقد، وانعكس ذلك على طبيعة الخطاب السياسى للنخب الحاكمة، والممارسات العملية المباشرة وفى صياغة السياسات العامة، وهو ما طبع التوجه نحو الاستثمار الثقافى برأس مال نفطي، أدى إلى تراجع واضح فى نمط الذوق العام، وتردى الخيارات السياسية. ومن جهة ثانية، برز إلى سطح تنافس واضح بين عدة أقطاب جديدة، عبرت عن نفسها عبر بعض القنوات الإعلامية ذات التأثير الواسع، ولجوء عناصر النخبة الأكاديمية والثقافية وهجرتها إلى منطقة الخليج، ما أثرى هذه الأقطاب، وجعلها مصدرًا أساسيًا لرسم سياسات المنطقة الخارجية، والتأثير فى صناعة القرار السياسي. ومن جهة ثالثة، بدا واضحًا ظهور بعض دور النشر المغاربية، وسطوع دور حركة الترجمة وتسارعها، وتدفقها ودقة خياراتها، ما أثر فى نوعية المنتجات العلمية فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، على الرغم مما يشوب هذه الترجمات من عدم دقة، ورعونة، وغموض.

ومن جهة رابعة، تردى الأداء السياسى للحكومات المصرية المتعاقبة، سواء فى علاقاتها الخارجية أو فى تعاملها مع القضايا العالمية والإقليمية، فغاب الدور المصرى فى الساحتين العربية والإقليمية، كما كان هذا الأداء أوضح فى السياسات المحلية التى أدت إلى مزيد من تردى الأوضاع الاجتماعية، واتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. رافق ذلك اتساع ملحوظ لما يسمى بالقطاع الموازى لقوى الإسلام السياسي، الذى كان له مدارسه ودور نشره، وجمعياته الأهلية، ومتاجره وشركاته، التى حلت بالتدريج محل الدولة، وأصبح لها تأثير على عقل المواطن العادى وخياراته السياسية والفكرية.


التعليم

فيما ينبه السيد أمين شلبي، إلى دور كل من التعليم وتنمية الموارد البشرية والاهتمام بالثقافة التقليدية، كذلك تنبه نيفين مسعد إلى واحدة من القضايا الهامة فى هذا الصدد، وهى قضية التعامل مع التراث الفنى واستثماره، حيث تقوم بعض القنوات التليفزيونية باقتطاع غير مبرر لأجزاء من الأعمال الفنية القديمة، وحذف مشاهد تحت دعاوى أخلاقية وسياسية، ولذات الأسباب يتم حرمان المشاهدين من رؤية أعمال أخرى متميزة، ومن ثم هناك حاجة لاستثمار رأسمالنا الرمزى وترويجه


ملاحظات ختامية

لقد مثلت استجابات المثقفين المصريين تعبيرًا عن رؤية الجماعة المصرية التى ترى فى نفسها قوة رمزية وسلطة معنوية جاذبة للمحيط العربي، ولأنها كذلك، فقد اتجه تعبيرها عن موقفها من القوة الناعمة وتعريفها لها فى إطار الخبرات المصرية السابقة، التى تعبر عن الأوضاع التاريخية، والقدرات القائمة، مبتعدة عن أصل المفهوم وهو الاعتبار بالقدرة على الجذب دون الاستناد للقوة المادية، أى الاعتبار بالسلطة الكاريزمية للدولة وللأفراد، وجاذبية القيم التى تحملها.

ومن ثم، يمكن القول إن تبنى الدولة المصرية لرؤية تلخصها مجموعة من القيم التى تمثل المشترك الفكرى للجماعة المصرية، هو السبيل الممكن للحديث عن قوة معنوية أخاذة قادرة على لفت الانتباه والتأثير فى الأوضاع الخارجية.

هذه القوة المعنوية ينبغى أن تساندها سياسة حكم رشيد، وعلاقات قوة عادلة، وآداب وفنون قادرة على المنافسة فى سوق الإبداع العالمي، فى ظل حركة ترجمة حقيقية، تنقل هذه الجهود والأعمال الفكرية والعلمية والإبداعية للعالم الخارجي. إن التعامل مع مفهوم القوة الناعمة على أساس كونه مفهومًا يتصل بالقدرة السياسية الخارجية على التأثير فى العالم الخارجي، هو تعامل يتجاهل تحولات مع ما بعد ثورة التقنية الرقمية التى فكت الحدود بين الخارج والداخل، ومن ثم فإن أى سياسة داخلية، إنما تعكس طبيعة التعامل الخارجى مع العالم، فلن يكون مقبولًا اتباع سياسة خشنة فى الوقت الذى يتم فيه التعامل مع العالم بوجه ناعم.