البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الصورة وتزييف الواقع «5»


عالجت فلسفة الظاهريات (الفينومينولوجيا) عند «هوسرل» Husserl (١٨٥٩– ١٩٣٨) موضوع الإدراك والتخيل، من خلال أفكار أساسية تدور حول ضرورة التمييز بين الشعور وموضوعاته، وعدم الخلط بين التجربة ومحتواها. وتتمثل هذه الأفكار أيضًا فى الفصل بين الموضوع الحقيقى الواقعى والموضوع القصدى، بين موضوع العقل وفعل التعقل؛ وذلك فى سياق العلاقة بين الذات المدركة والعالم. وناقش «هوسرل» فى كتابه «الأفكار»– وهو الكتاب الذى جعله مقدمة عامة للظاهريات الخالصة – المفاهيم الخاصة بالصورة والعلامة، وذهب إلى أن الصعوبة إنما تنشأ عن ذلك الميل إلى تناول الإحساسات والمظاهر كما لو كانت علامات أو صورًا للأشياء الواقعية التى لا تُدرك مباشرة فى ذاتها. وهذا التصور خاطئ، ذلك أننا لا نُدرك المظاهر أولًا، ثم نستنبط بعد ذلك الواقع منها، وإنما نحن نُدرك الواقع مباشرة؛ أى نعاينه عن طريق المظاهر والإحساسات. 
أما «سارتر» Sartre (١٩٠٥ – ١٩٨٠)؛ فقد اهتم بدراسة الصورة المتخيلة فى كتابيه «الخيال» و«الخيالي»، وهذا الاهتمام هو – فى حقيقة الأمر – إعادة صياغة التمييز بين الإدراك الحسى والخيال، وهو التمييز الذى أهملته فلسفة «برجسون»، حين خلطت بين الموضوع الخارجى وتصوره الخيالي؛ وجعلت كلمة «صورة» تؤدى المعنيين. إن الإدراك الحسى هو تمثل لأشياء حاضرة حضورًا فعليًا، أما الخيال؛ فإنه تمثل لهذه الأشياء فى غيابها، بمعنى أن الخيال «يوجد– على حد قول سارتر – على نحو مغاير للوجود الذى توجد عليه الأشياء؛ لأنه ليس شيئًا موجودًا وجودًا واقعيًا، وإنما هو يوجد بوصفه غيابًا؛ أى وجودًا لا واقعيًا». وفى كتابه «الوجود والعدم»، يرى «سارتر» أن «الموضوع الخيالى غير قائم فى الوجود، أى أنه عدم، ونحن عندما نتخيله نُدرك أن هناك عدمًا يتخلل الوجود؛ فالوجود يتخلله العدم والعدم يقوم فى الوجود. إذن «فالإدراك – كما يقول – لا شأن له بالخيال، إنه يستبعده بالدقة، والخيال يستبعد الإدراك. والإدراك ليس أبدًا جمع صور مع إحساسات، فهذه النظرية ينبغى استبعادها نهائيًا، وتبعًا لذلك... ليس المهم البحث عن الصور، بل إيضاح المعانى التى تنتمى حقًا إلى الأشياء». وينفى «باشلار» Bachelard (١٨٨٤ – ١٩٦٢) أن يكون التخيل إدراكًا عدميًا لغياب الأشياء، ولكنه إدراك مباشر لجوهر الموجودات. وفى هذا السياق، يستبعد ربط الصورة بغياب الموجودات، ذلك لأن كيان الصورة سيكولوجي، بينما يمتد كيان الموضوعات الحقيقية بجذوره فى الواقع الفعلي. وليست إيجابية الصورة عند «باشلار» دليلًا على واقعيتها أو رسوخها فى عالم الفعل، وإنما هى – فى الحقيقة – لا تتعدى كونها حكمًا قيمة أو تأكيد موقف نظريا وخلقيا، يقول فى كتابه «شاعرية أحلام اليقظة»: «الخيال ليس مجرد ملكة من بين الملكات الإنسانية، وإنما هو الملكة السيكولوجية التى تميز الوجود الإنساني... بوصفه موجود خُلق ليتخيل». 
ورأى «ميرلوبونتى» Merleau-Ponty (١٩٠٨ – ١٩٦١) أن «سارتر» قد أخفق فى تحليله للصورة المتخيلة، فمن المستحيل أن نفهم الصورة المتخيلة من خلال فحص الإمكانية الخالصة لتلك الصورة بوجه عام، أو من خلال تعريف سوف يُطبق فيما بعد على الأمثلة التجريبية المشابهة. لقد فهم «سارتر» الجانب المختفى من الشيء على أنه متخيل غائب، طالما أنه ليس منظورًا فى فعل الإدراك، أما «ميرلوبونتى» فيرى أن هذا الجانب اللا مرئى يكون حاضرًا فى خبرتى الإدراكية، وإن كان مختفيًا فحسب عن رؤيتي. ولقد تأثر – فى هذا الصدد – بمذهب «الجشطالت» Gestalt، ومن كتابات «هوسرل» المتأخرة، وذلك عن الكيفية التى تتيح لنا وصف الموضوعات الغائبة أو الأجزاء غير المرئية من الموضوعات الحاضرة. وفى كتاب «العين والعقل» يوضح «ميرلوبونتى» أن الإدراك الحسى للعالم يبدأ بالرؤية، وأن هذه الرؤية تتجه أول الأمر إلى سطح العالم لكنها لا تلبث أن تتوغل داخله، بحيث يُدرك الإنسان العالم المحسوس ويبلغ خفاياه من غير أن يتخلى عن الرؤية. وانفتاح الرؤية على العالم لكى تُدركه، معناه أن هناك تلاقيًا وجوديًا يتم لا بين الأفكار وحدها، ولا بين أحوال النفس وحدها ولا كذلك بين أحوال النفس وأفعالها وأحوال الجسم وأفعاله، وإنما يتم – هذا التلاقى – فى الجسم الذى يشعر والعالم الذى يوجد معه فى وحدة لا تنفصم. يقول فى كتابه «المرئى واللا مرئى»: «إن العلاقة بين الأشياء وجسمى فريدة حتمًا، فهى التى تجعلنى أحيانًا فى الظاهر، وهى كذلك التى تدفعنى أحيانًا نحو الأشياء بحد ذاتها، إنها تلك العلاقة التى تثير وتُحرك الظواهر، وهى كذلك التى توقفها وتدفعنى إلى وسط العالم. 
لقد أعاد «ميرلوبونتى» الصلة بين الرائى والمرئي، كما أعاد بالمثل الصلة التى قطعها «ديكارت» Descartes (١٥٩٦ – ١٦٥٠) بين النفس والجسم، ومن ثم لم يعد الجسم أداة أو وسيلة تستخدمها النفس للرؤية، وإنما أصبح الأنا المتجسد هو الذى يرى. ولم تعد الرؤية واحدة من أفعال الأنا (أفكر الديكارتي)، والتى تتم كلها بغير جسم، وإنما أصبحت فعلًا يحدث فى الجسم المنضوى أو الموجود فى مكان، يقول: «اللغز فى أن جسمى هو فى الوقت ذاته راء ومرئي، إن الجسم الذى ينظر إلى الأشياء كلها، يمكنه أيضًا أن ينظر إلى نفسه، وأن يتصرف فيما يرى عندئذ على «الجانب الآخر» من قدرته الرائية، إنه يرى نفسه رائيًا ويلمس نفسه لامسًا، فهو مرئى ومحسوس بالنسبة إلى نفسه». ويتحدث «ميرلوبونتى» عن طبيعة الرؤية فى فن التصوير، فيرى أن المُصور وحده هو الذى يُدرك العالم، ذلك لأنه – بنظرته وبعمل يده – يحول العالم إلى مجموعة من اللوحات، وإدراك العالم عن طريق رؤية المُصور تقضى الإقرار بأن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الرؤية والحركة. «فأنا – كما يقول ميرلوبونتى – أرى ما أتحرك نحوه، وأتحرك نحو ما أراه. والعالم المرئى وعالم مشروعاتى المتحركة عبارة عن أجزاء شاملة من الوجود ذاته». وعلى هذا النحو؛ فإن المُصور من خلال لوحاته يخلق لنا العالم المرئى من جديد، فتتبين لنا أسراره وتنكشف معالمه التى لا تُدركها العين العادية.