البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

مدينة رشيد.. العشق الفرنسي المستور.. والتجاهل المصري المفضوح


السائر فى حوارى باريس القديمة تصادف عينه أسماء ثلاثة شوارع مثيرة للدهشة نظرًا لبعدها عن الثقافة الفرنسية زمانًا ومكانًا، والمقصود هنا شوارع «أبوقير» و«دمياط»، وأخيرًا شارع «روزيت» أى «رشيد» باللغة الفرنسية.
وربما نتناول شارعى أبوقير ودمياط فى مقال آخر لكننا سنتناول الآن شارع رشيد نظرًا لأن محافظة البحيرة وجامعة دمنهور ورئاسة الجمهورية والمجمع العلمى المصرى ومؤسسة «البوابة»، تنظم مؤتمرًا عالميًا للاحتفال بحجر رشيد يومى ١٩ و٢٠ نوفمبر الجارى بحضور حفيد شامبليون وحفيد نابليون بتسجيل فيديو خاص موجه لشعب مدينة رشيد وأساتذة من جامعات مختلفة وكاتب هذه السطور، وكذلك بحضور متميز للنائب البرلمانى عبدالرحيم على رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس ورئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير «البوابة».
ووجود شارع يحمل اسم رشيد فى عاصمة النور يعنى أن فرنسا لديها من الأسباب ما يجعلها تفخر بأن يتقاطع تاريخها فى لحظة ما من الزمن مع تاريخ المدينة المصرية الصغيرة القابعة بين النهر والبحر، وبالفعل كان «ذوبان» مياه نهر النيل السوداء القادمة من بطن القاره الإفريقية فى زرقة البحر المتوسط عند ساحل رشيد يثير خيال الشعراء والفنانين الفرنسيين عبر العصور.
إلا أن القدر أراد أن تأخذ مسارات مدينة الصيادين وسمك البورى والفسيخ وأنواع لا حصر لها من نخيل البلح الذى يكاد يتحول فى أيدى المصريين إلى زهور حمراء يفرحون بها كلما داعبت خدودها مسحة من سواد الرطب الذى هو عند المصريين جميعًا علامة الجودة لبلح رشيد الأحمر الزغلول.
كان القدر يخبئ للمدينة موعدا مع الحضارة الفرنسية، عندما جاءت الحملة الفرنسية على مصر ذات صباح باكر حار، من فجر الأول من يوليو ١٧٩٨. احتل الجيش الفرنسى سريعًا مدينة الإسكندرية وتقدم عبر صحراء ومزارع محافظة البحيرة فى اتجاه مدينة القاهرة. وعند دمنهور قرر نابليون بونابرت أن يؤمن المدخل الشمالى للدلتا عند رشيد حتى لا يترك للإنجليز الفرصة لملاحقته فى الأراضى المصرية، وقرر نابليون تعيين الجنرال العجوز جاك مينو.
ولنترك نابليون وجيشه فى طريقهم للقاهرة ونتوقف قليلا عند مينو ورشيد.
كانت مدينة «رشيد» طوال العصور الوسطى ميناء صاخبًا مزدهرا وعامرًا بسبب التجارة الواسعة للإيطاليين فى البندقية وجنوا ونابولى وللفرنسيين فى مارسليا وتولون هذا عدا اليونانيين والأتراك وتجار المغرب العربي. وأصبح شارع «دهليز الملك» أقرب إلى شارع الشانزليزيه فى باريس اليوم يزخر بقصور القناصل الأوروبيين ووكالات التجار والمساجد وبيوت الأمراء المماليك وغيرها.
ووجد الجنرال العجوز (مقارنة بنابليون الذى كان عمره حينئذ ٢٩ عاما) المدينة ولا ينقصها سوى التنظيم الإدارى الحديث على الطريقة الفرنسية والتحصينات البحرية الدفاعية الضرورية لحماية ساحل المدينة.
وعندما بدأ العمل فى التحصينات وقعت المفاجأة والتى سوف تغير ليس فقط حياة الجنرال حاكم رشيد ولا المدينة نفسها ولكن سُتحسب آثاره على مجمل الحضارة المصرية.
ذات صباح مشرق من شهر أغسطس ذهب الضابط الفرنسى الكولونيل بوشار ومعه فريق من الجنود ومهندسى الجيش لبدء العمل فى تحصين قلعة قايتباى وعند ضرب أول معول فى صحن القلعة اصطدم بوشارب بجسم صلب فى بطن الأرض وعلى الفور أمر جنوده بإزالة التراب من عليه واستخراجه. وكانت المفاجأة أمام الكولونيل الشاب إنه أمام حجر مسطح من البازلت منقوش بلغات ثلاث وأدرك على الفور أن هذا الحجر يحمل قيمة علمية وتاريخية وآثاره ستغير مجرى التاريخ.
كان هذا الحجر الذى أطلق عليه بوشار الاسم الذى سيصبح ملتصقًا به حتى اليوم «حجر رشيد». وعندما استقبل الجنرال مينو هذا الحجر وكان قد أصبح رشيديا يلبس ملابس أهل رشيد ويحضر الصلاة معهم فى المساجد وأقام لهم ديوانًا من علماء الأزهر بالمدينة على غرار الديوان الذى أقامه بونابارت فى القاهرة.
وفكر الجنرال العجوز جديًا وقد وقع فى غرام إحدى حسناوات المدينة فى التحول للإسلام ويطلق على نفسه اسم عبدالله جاك منو. تلقى إذن القائد الذى أسلم منذ قليل خبر العثور على الحجر واعتبر هذا هدية السماء لزواجه ولتحوله إلى دين محمد.
دخل حجر رشيد التاريخ عندما استطاع شامبليون فك رموزه ذات ليلة من شهر سبتمبر عام ١٨٢٢ _ أى بعد ٢٢ عاما من اكتشاف الحجر الذى جعلنا نستطيع من الآن فصاعدًا أن نقرأ ونفهم ونسمع ما كتبه المصريون القدماء على جدران المعابد وفى لفائف أوراق البردي.
وفتح هذا الاكتشاف الطريق إلى ظهور علم جديد سيغزو جامعات العالم ومراكز أبحاثه وهو علم المصريات. وكان ميلاد هذا العلم فاتحة خير واسع المدى ليس فقط من أروقة الجامعات ولكن فى مجالات التنقيب عن الآثار والسياحة والسفر والفوتوغرافيا والرسم وكأن حجر رشيد المدفون فى صمت قد سكت دهرًا ونطق علمًا ونورا ومعرفة على مصر والعالم.
لقد عرفنا الآن لماذا أعطت فرنسا اسم المدينة الساحلية المصرية لأحد شوارع عاصمتها وكأن عشقها لرشيد معلومًا ولكنه مستور فماذا عن تجاهل المصريين للمدينة الجميلة ولنكن أكثر صراحًة جهل المصريين بهذه المدينة الفريدة فى نوعها تاريخًا وآثارا وثروة طبيعية وبحرية وبشرية، ومع ذلك لا تعرف وزارة السياحة للمدينة سبيلا ولا تعرف أجهزة الدولة للمدينة التى أعطت لحضارتنا صوتًا فى العالم أجمع طريقًا ولا سبيلًا؟
إن الخطوة التى اتخذتها السيدة نادية عبده محافظ البحيرة بإطلاق هذه الندوة الدولية وسط خضم المشاكل بمحافظتها وفى الدولة المصرية كلها لينم عن عقلية مستنيرة تنظر إلى الأمام وليس فقط تحت أقدامها تستحق منا كل التشجيع.
قد نعود يومًا لنجد دهليز الملك وقد أنيرت ساحاته وعادت الحياة إلى قصوره وآثاره من جديد.