البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الفاتيكان اليوم.. كنيسة تواكب التاريخ



لا يمكن أن نستقبل بابا الكنيسة الكاثوليكية الجديد فرانسيس الأول إلا بتوجيه التحية للكنيسة الكاثوليكية على قدرتها على التواصل مع زمنها، على مواكبتها للتاريخ الإنساني. وبالنسبة لي كمواطن مصري ينتمي لإفريقيا العربية؛ فانتخاب الكاردينال من أمريكا اللاتينية، فرانسيس الأول، هو خطوة ثانية خطاها العالم الصناعي باتجاه الخروج من الثوب القديم المهترئ، الذي يشار إليه باسم “,”سيادة الإنسان الأبيض WHITE SUPERMACY“,”، وكانت الخطوة الأولى يوم انتُخب باراك حسين أوباما لرئاسة الولايات المتحدة.
لكن الطريق إلى إنسانية حرة لا يزال طويلاً، فعلى الرغم من الدلالات الإيجابية لوصول أسْوَد إلى رئاسة الولايات المتحدة، لا تزال الولايات المتحدة أكبر بائع للسلاح وأكبر داعية للحروب، وعلى الرغم من انتخاب فرانسيس الأول إلى عرش البابوية، يبقى أن مجرد وجود عرش باسم صياد السمك بطرس؛ وبالتالي باسم النجار الفقير ابن العذراء، معناه أننا لا زلنا بعيدين عن تعاليم السيد المسيح.
والعرش البابوي ليس مجرد رمز؛ فهو عرش قوي، وفاعل، ومؤثر أقوى تأثير في مصائر هذا العالم. ولنتذكر أن البابا يوحنا بولس الثاني، الذي سبق بنديكت، كان له دوره الحاسم في إسقاط النظام الشيوعي في بولندا، وقلقلة الهيمنة السوفيتية على شرق أوروبا.
ولأن المعركة مع الكابوس السوفيتي -وقد كنت واحدًا ممن انخدعوا به زمنًا طويلاً- واحدة من أهم معارك القرن العشرين؛ فقد اعتبرت، في مقال على صفحة كاملة نشرته بجريدة خليجية، أن رحيل يوحنا بولس الثاني مطلع هذا القرن هو “,”رحيل متأخر للقرن العشرين“,”. فقد كان وجود يوحنا بولس الثاني من أهم مكونات القرن العشرين. ويجب أن نتذكر أن يوحنا بولس الثاني، الذي ساهم في إسقاط الشيوعية، كان اشتراكيًّا ديمقراطيًّا. أي إن دوره ضد الشيوعية يوازن دعوته للاشتراكية الديمقراطية.
وقد اعتبرت أنا، كمواطن مصري يتابع صراع الحضارات، أن اهتمام البابا يوحنا بولس الثاني بسانت فاتيما لم يكن مجرد إحياء لمواقف تتعلق بروسيا، ولكنه إشارة لشيء يخص الشرق المسلم. واتضح ذلك مع بنديكت. كان موقف بنديكت من الإسلام موقفًا غليظًا ومستفزًّا، عندما استشهد بكلام متخلف وضعيف الإسناد، قيل في القرون الوسطى، قبل عصور التنوير والأخوة البشرية، عن ديانة كبرى هي الديانة الإسلامية. ثم أصبح كلامه خطيرًا عندما زعم أن مسيحيي الشرق الأوسط يحتاجون حماية دولية، وعجز عن أن يرى مشاكلهم جزءًا من مشاكل تعترض التحول إلى الديمقراطية.
ولهذا فقد كنت سعيدًا عندما استقال بنديكت –رغم ما له من مآثر عظمى- لأن مواقفه من الشرق المسلم لا تنسجم مع سياسات القوة الناعمة، التي هي الرأسمال السياسي لأوروبا.
وأنا سعيد بالبابا الجديد من أمريكا اللاتينية؛ لأن هويته تشير إلى أن القوة الأوروبية الناعمة لا تزال لها بقايا يعتد بها، ولم تغرق بكاملها في بحور الدم في أفغانستان وباكستان وليبيا وسوريا، ولأن وجوده على قمة الكنيسة الكاثوليكية يعطي العولمة وجهًا إنسانيًّا.
لكن ما سمعته وقرأته من كلام الكاردينالات عشية انتخاب فرانسيس الأول عن التبشير لا زال يثير لدي المخاوف من احتدام صراع الحضارات، ومن عجزنا نحن سكان هذا الكوكب عن تخفيف حدته لدرجةٍ تُحوّله من صراع إلى حوار عقلاني وأخلاقي. فما دام الدم يسفك فكل ما نفعله ليس عقلانيًّا ولا أخلاقيًّا.
ويبقى أن أشير إلى المآثر العظمى لبنديكت، وأولها أنه مؤمن بالتفكير العلمي. وإن ظن أن الطلاق بين العلم والعقيدة وقع في ثقافة المسلمين في القرن التاسع الميلادي فهو مخطئ؛ لأن هذا يتصل بابن حنبل وأتباعه –الذين يحكموننا اليوم– ولا يتصل بالمسلمين والأزهر، الذي لم يكن بين شيوخه حنبلي واحد منذ إنشائه، وسيظل كذلك حتى يعين له الإخوان شيخًا حنبليًّا. لكن العقل العلمي تبقى نشأته قرآنية عربية مسلمة، بشهادة المؤرخ اليهودي الفرنسي المعاصر هنري لورانز (هو حاليًّا أستاذ في السربون وصديق لصديقي بيير ويصا واصف).
أما المأثرة الثانية فهي استقالته، التي هزت ستمائة عام من التكلس البابوي المقاوم للعقلانية والتنوير وللتراث الشعبي الديمقراطي للثورتين العظميين المجهضتين: الفرنسية في القرن الثامن عشر، والبلشفية في القرن العشرين. وهذه الاستقالة تشير إلى أن حصون البشر المتمترسين وراء القداسة تتهاوى، والدور آت على البابا المسلم محمد بديع وكاردينالاته.
هذه هي بشارة يسوع ومحمد: أن يُطرد “,”الأفاعي أولاد الأفاعي“,”، الذين جعلوا بيت الرب مغارة للصوص.