البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

صقر الشبيب.. معرّي الكويت

الشاعر صقر الشبيب
الشاعر صقر الشبيب

العمى، اليتم، الفقر، والفوة بينهُ وبين والدهِ، كوّنت عوامل الوَحشة في نفسِه، وقد قاسى من هذه الوحشة طُوال حياتِه، حيثُ أنه لم يتأقلم مع الطبائعِ والأفكار السائدة. كان يتكدّرُ من المجالسِ وينفِرُ عنها مبديًا انزعاجهُ منها، لذا كانَ أصدقاءهُ معدودون، ولم يتأقلم بحياته الزوجيّة، إذ تزوج فطلّق مرارًا، وأطول مُدّةٍ بقيَ متزوجًا فيها هي مُدّة ثلاثةِ أشهرٍ، ولهذا كلّه، بما فيه من دوافعٍ للوحشة والغُربة، تتضحُ ملامحُ الشكوى في شعرِه بجلاءٍ وعبر مجالاتٍ مُتعدّدة، إنه الشاعر الكويتي صقر الشبيب.
وُلدَ صقر بن سالم شبيب في عاصمة الكويت، عام 1894م، فقد بصرهُ في سنٍّ مُبكّرةٍ إثرَ مرضٍ مستعصٍ، ثم تُوفيت والدتهُ التي كانت ترعاهُ وتعطِفُ عليه وهو لا يزال غلامًا، فقُدَّرَ لهُ أن يذوقَ قسوةَ اليُتمِ، وظُلمة العمى فيما تبقى من حياتهِ الشاقّة، ومع ذلك كان فتىً ذا رغبةٍ جامحةٍ في التعلّم. وقد منَّ سبحانه وتعالى عليهِ بموهبةِ الحفظ وشغفِ المُطالعة، غيرَ أنّ انشغالهُ بالقراءةِ والشعرِ أثارَ غَضب والده الذي كانَ ككثيرٍ مِن بُسطاءِ البلاد، يتخوفُ من الثقافةِ، ويرى بأنها تُلهي عن ذكرِ اللهِ –جلّ شأنه- ولهذا السبب وأيضًا لتحاشي الصدام مع والده، تجنب صقرٌ مجالسةِ والدِه.
ومع ذلك تبقى شخصيّة صقرٍ شخصية متفاعلة لما يجري حولها، فلم يمنعهُ عمى العينين صبيًا من أن يكونَ من ذوي البصيرةِ كبيرًا، ولم تقودُهُ الطبائعُ والأفكار السائدة في المجتمعِ إلى التسليمِ بها أو الخنوعِ لها، إذ قادهُ تأثرهُ لِما يجري حولهُ من قضايا سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ إلى توظيفِ اطّلاعهُ الثقافيّ لما يراهُ خيرًا، وبذلك تحدّى المصائبَ والظروف القاسية بقريحةٍ شعريةٍ صادقةٍ هادفةٍ تدعو إلى النهضة.
ومن هذا المنطلق، يكونُ صقرًا قد تأثّر بالمناخِ البيئيِّ الذي أحاط به، ولكنّهُ أيضًا لعبَ دورُ المؤثِّرِ به مِن خلالِ شعرِهِ وثقافتهِ برغم انطوائهِ ووحشته. ولأن شعرُهُ كان مؤثرًا ويمثلُ رُؤى الفئة المثقفة في مجتمعه، لُقّبَ بـ"شاعر الكويت الأول"، ولا عجب، فقد كانت أشعارهُ تستنهضُ الأدباءَ في الكويتِ، وقد استلهمت قصائده المثقفون الذين استكملوا من بعدهِ مسيرة الكويت الأدبية عقِبَ وفاته في عام 1963م عن عمرٍ يتجاوز السبعينَ عامًا.

المناخ البيئي الذي عاشَ فيه
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما قبل النصف الأول من القرن العشرين، كانت دولة الكويت تعيش في حقبةٍ من القحط، إذ لم يكنِ النِفط مكتشفًا بعد. كان أهلها البسطاء يعتمدونَ على التجارةِ البحريّة وما أنعم سبحانه وتعالى به من صيدٍ ودر بأعماقِ البحر. لم تتوفر أيّة مؤسساتٍ تعليمية بمعناها الحديث، وإنما مدارس غير نظامية، صغيرةَ الحجم، فيها يُعلّمُ القرآن الكريم وأحكامه، إضافةً إلى أساسيّاتِ قواعد اللغة العربية، ومبادئ الحساب تسمى بـ"الكتاتيب"، بينما المعلّم كان يُطلق عليهِ "المُلَّا" أو "المطوّع"، كانَ هؤلاءِ يسترزقونَ بعملهم هذا، أمّا التلاميذ المتخرجون فقد كانوا يسعونَ لكسبِ الرِّزق من خلالِ العملِ لدى التُّجارِ الكِبار خارج الكويتِ أو بداخلها، ممّن عملوا في التجارةِ البحريّة والبريّة.
وفي ظل افتقار الكويت للمؤسسات والموارد التنموية والمعيشية آنذاك، بزغَ جيلٌ من رواد الأدبِ فيها من صميم المدارس التقليديّة، والبيئة الشعبية، جيلٌ سعى للنهوضِ بالمجتمعِ وقيادةِ الفكر، لكي يحققَ حاضرًا مُزهرًا، ومستقبلًا بهيًا، حتى تؤول الأحوال العامة في البلد إلى تقدّمٍ متنام، فرسَّخَ أولئك إنتاجهم الأدبيِّ في الحث على تطوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الكويت على وجه الخصوص، كونهم من أبناء تربتها، الأمر الذي أدى إلى نَعتِهم بالرواد.
ولكنَّ الدعوة لتغييرٍ جذريٍّ كهذا، ليست بالأمر الهيِّن، الأمرُ الذي أدّى إلى حدوثِ صدامٍ في الأفكارِ والأهواء، وجدالٍ مستعصٍ بين طرَفٍ وآخر، انعكس على البيئةِ المحليّة، ونتجَت عنهُ صراعات بين شدٍّ وجذب، وأخذٍ وردّ، بين هذا وذاك.
في البيئةِ ذاِتها برزَ شاعرٌ من رُوادِ الحركةِ الأدبيّة في الكويت، مثَّل الرؤى والتطلعاتِ النهضوية، اتسمَ بالشجاعةِ الأدبيّة، واصطدم بمخالفي الدعوة، فخاضَ معهم معركة كلامية استمرت لعقود. وبنفس الوقت كان الشاعر ذاته رقيق الحس، كفيف البصر، غريب في قومه كصالحٍ في ثمود، فكان لتداعياتِ موقفه الدَّعويِّ الثائر أثرٌ وُجدانيٌّ عميق في نفسِه؛ ذلك هو الشاعر صقر الشبيب الملقب بـ"معرّي الكويت".

تجلّي الدلالات الاجتماعية والذاتية في شعره
في شعر صقرٍ كثير من الدلالات الاجتماعيّة التي عاشتها الكويتُ في زمنِه، فقد كان الشاعرُ لسانًا مُعبّرًا عن بلدِه، ولم يُخبر عن حال البلد ما قبلَ النفطِ وكفى، بل ساهمَ خطابُه بشكلٍ مباشرٍ في رسمِ رؤى وآمال رُوّاد الحركة الأدبية فيها، من خلالِ توجيههُ النهضويّ. وبرغم إيمانهِ الشديد بقضيّتهِ النهضويّة، إلا أنه لم يتقلّد -أو بالأصح لم يستقر- على وظائفٍ عملية ذاتَ مردودٍ تنمويٍّ كأقرانهِ الرُّواد، حتى برزَ في شعرِه عن الدلالاتِ الذاتية التي كانت حائلًا لهُ دونَ ذلك، إذ أفصحَ عمّا بوجدهِ من مكابداتٍ لحقت بهِ لتنهي أيامهُ إلى الانعزال، وفي مثل هذا اليوم 6 أغسطس من عام 1963م.

ومن أشعاره
إن كانَ ذنبي عندهُم صراحتي... فلن يراني القوم إلا مُذنبا
وكيفَ عنها أنثني ولم تكُن... تَخَلُّقًا بل خُلُقًا بي ركِّبا
مع أنَّها لو لم تكن سجيَّتي... لم آل في تخليصها تسبُّبا
فإن قلبي حُسنُها استمالهُ... فمال كلَّ الميلِ قلبي وصَبا
فليعملِ القوم على أذيَّتي... إن كان إيذائي عليها وَجَبا
فلن يَروني عن صراحتي ولو... رأيتُ فيها مصرعي مُنقلِبا
لله درُّ معشري ما بينهُم... لا يشتكي إلَّا الصَّريحُ الكُربا
فما رجائي مَعشري أن ينهضوا... وأن يمدَّوا للمعالي سَبَبا
إلَّا كما أرجو لعَيني أن ترى... على عَماها في سَماها الشُّهبا
وأي خيرٍ يرتجى لأمَّةٍ... ما بينهُم نورُ الصَّرحاتِ خَبا