الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

خرافة الدولة العميقة بين هويدي والشوبكي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما كتبه فهمي هويدي، ورد عليه عمرو الشوبكي، يجعل من الضروري التحذير من الوقوع في الارتباك؛ بسبب العجز عن التمييز بين ثوابت المشهد السياسي ومتغيراته. ففي أيّ بلد من بلدان العالم المتحضر، أيّ بلد غير عراق صدام حسين زمان، وكوريا الشمالية اليوم، هناك فارق بين الدولة والحكومة. الدولة تميل إلى أن تكون ثابتة، باقية على الزمن بهياكلها وتقاليدها، مع تحولات محسوبة وحذرة، والحكومة متغيرة، تجيء وتروح مع كل انتخابات. والتوتر مستمر بين من تأتي بهم الانتخابات، وما لديهم من رؤى ومشروعات جديدة، وبين من ورثوا خبرة الدولة وأفنوا حياتهم في دهاليزها وربطوا مستقبلهم بمستقبلها. ومن الخطأ أن نعتبر الثابت دولة عميقة فاعلة والمتغير دولة سطحية مفعولاً بها.
لكن الكل يردد كلامًا غريبًا عجيبًا عن الدولة العميقة في تركيا ومصر، وعن الإسلاميين في البلدين، وهو ما يلزم تصحيحه؛ لأن البلدين مختلفان اختلافًا مذهلاً. فالدولة العميقة في تركيا، التي شهدت انتخابات نزيهة طوال قرن ونصف القرن، دون انقطاع، ليست مشكلة ظهرت مع وصول الإسلاميين للسلطة، فلطالما شكا منها، في السبعينيات، رئيسا الوزراء بولنت أجاويد وسليمان ديميريل، وهما الديمقراطيان اللذان تُتهم الدولة العميقة بأنها هي التي أزاحتهما مع غيرهما من الديمقراطيين، ابتداء من 1982؛ لتفتح الباب للإسلاميين.
ورغم ذلك فلا يستبعد مراقبون كثيرون أن تكون الدولة العميقة في تركيا وهمًا، أو “,”أبو رجل مسلوخة“,” الأسطوري، لكني أرى أنها، اليوم، هي المجموعات التي تتخوف من انحراف الإسلاميين تحت ضغط الأيديولوجيا الخاصة بهم، بعيدًا عن مصالح الدولة الوطنية، كما كانت مجموعات سابقة تتخوف من انحراف الديمقراطيين اليمينيين واليساريين، في السبعينيات وما قبلها. وتتألف هذه المجموعات من البيروقراطيين والتكنوقراط، المخلصين والانتهازيين على السواء، والذين لديهم عقيدة وطنية ومصالح فئوية وشخصية، كما أن لدى الإسلاميين عقيدة أصولية ومصالح فئوية وشخصية.
وهنا نقطتان أحب توضيحهما: الأولى هي أن مشكلة العناصر الثابتة (الدولة) مع العناصر المتغيرة (الحكومة) موجودة في الغرب والشرق، وأن الجيش هو الذي أعطى الإشارة الخضراء لفتح الأبواب أمام الإسلاميين في تركيا وفي مصر.
أوضح مثال على النقطة الأولى خلافات جون كنيدي، كرئيس منتخب، مع الأجهزة ومع ملوك الصلب وتجار السلاح المرتبطين بهذه الأجهزة، ولم تكن المودة بين ريتشارد نيكسون ورئيس المباحث الفيدرالية، والتماثل بينهما في وجهات النظر السياسية والجنسية، فكل منهما مجنون بالعداء لليسار ومتهم بعلاقة شاذة مع صديق، لتخفي رعب الرئيس من هوفر، وقد شاهدت نيكسون في شريط تسجيلي على القناة الرابعة البريطانية ينافق هوفر وكأنه موظف عنده. وإذا اقتربنا من زمننا هذا فسوف نجد أن كتاب «الطريق إلى 11 سبتمبر»، للمؤلف الأمريكي بيتر ديل سكوت، يرسم صورة للدولة العميقة في الولايات المتحدة، ويعطيها الدور الأكبر في رسم الإسترايجيات.
والنقطة الثانية أن الجيش في تركيا جاء بالإسلاميين بزعم أن الدين يجمع بين الأتراك، ويحول دون تفتت الدولة تحت ضغط الطموحات الانفصالية الكردية. لكني أرى أن الديمقراطية، وليس الإٍسلام السياسي، هي الحل، فإسلاميو تركيا سُنَّة؛ وبالتالي فالأقلية العلوية الضخمة لا تقبلهم، خاصة بعد اضطراب أوضاع الحكم العلوي في سوريا وموقف إخوان تركيا منه.
وكذلك فالجيش في مصر ساعد الإسلاميين، لكن مشكلته معهم، إذا كانت هناك مشكلة، قد تكون أن الجيش للوطن كله، والأصولية الحاكمة في مصر تعمل لصالح جماعة مغلقة -عميقة، عميقة، عميقة– ومعها جماعات من غلاة السنة. والجيش المصري، بخلاف التركي، جيش متدين من أيام عرابي، والجيش هو الذي وضع أساس الموجة الراهنة من أسلمة المجتمع بعد نكسة يونيو 1967، بقيادة عبد الناصر، وبتنفيذ من عبد المنعم رياض؛ لأن النكسة فرضت الاستعانة بالسوفييت، وعبد الناصر ورياض من أعداء الشيوعية، فحصَّنا الثقافة المصرية بالتدين، لكن السادات، بعدهما، “,”زودها حبتين“,”. وقد لعبت الضغوط الأطلسية دورها، في مصر وتركيا؛ لفرض الإسلاميين، في تركيا وفي مصر، وإلا فالكل يعرف ما جرى لليبيا وما يجري لسوريا.
ملاحظة أخيرة، وهي أن من قرأت لهم من المراقبين والمحللين يربطون ظهور الدولة العميقة (دولت ديرين DEVLIT DERIN) في تركيا بحادثة إجرامية وقعت في 1996، وأنا أرى أن الصراع بين الثابت والمتحول في كيان الدولة التركية بدأ مع وصول مجموعة سالونيك للحكم، تلك المجموعة المشبوهة التي دفعت السلطنة العثمانية للتحالف مع ألمانيا، ضد الحلفاء الذين حافظوا على السلطنة لأكثر من قرن، في وجه الضغوط والأطماع الروسية والألمانية، وكان ذلك بعد أن رفض عبد الحميد قيام دولة يهودية في فلسطين.
ومن ساعتها راح الغامضون والمشبوهون يدفعون بكل شعوب الشرق العثماني خارج الزمن وخارج العقل إلى فضاء الخرافات والأحقاد العرقية، والدينية، والمذهبية. وآخر طبعة من هذا الغموض المشبوه ظهرت في الإسماعيلية سنة 1928، وآن لها أن تستأذن في الإنصراف، تاركة المجال لحزب الحرية والعدالة ليثبت، إن استطاع، أنه مختلف، وأنه مسئول. ولكي يثبت ذلك يتعين عليه أمور، منها أن يكف عن تبرير أخطاء حكومته، وانكشاف مواقفها، بحكايات عن قوى خفية ودولة عميقة و“,”أبو رجل مسلوخة“,”.