الأربعاء 29 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الأغنية الوطنية والوجدان المصري (1-3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ترتبط الأغنية الوطنية ارتباطًا وثيقًا بظهور مفهوم الوطن والقومية، وهو بهذا الشكل تطور حديث يرتبط بتكوين الدولة الوطنية وضرورة صنع مخيلات قومية يلعب التعليم والأغنية والموسيقى والأدب أهم عوامل ترسيخها في الوجدان الشعبي.
من هنا نرى أن ظاهرة الأغنية الوطنية بالمعنى المعروف الآن لا يمكن تتبعها إلا من خلال نشأة القومية والتوسع في وسائل الاتصال التي تسمح بالضرورة بانتشار الأغنية في ربوع البلاد حتى تكتسب صفة العمومية والوطنية، من هنا ترتبط الأغنية الوطنية إلى حدٍ كبير بظاهرة نمو الوعي القومي.
ولكن هناك عدة تساؤلات أساسية تواجه من يتطرق إلى هذا الموضوع لعل أهمها ماذا نقصد بالأغنية الوطنية؟ هل المقصود بها تمجيد الحكام أم التغني بالوطن ونمو الوعي القومي لدى الشعوب، بمعنى آخر هل نغني لحكامنا أم نغني لبلادنا؟!
هل نعتبر الأغنيات التي تغنى بها كبار الفنانين المصريين في مدح الملك فاروق أغاني وطنية؟ كيف ننظر إلى الأغنية الشهيرة لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب "أنشودة الفن" عندما بالغ في مدح فاروق قائلاً:
والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه
والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه
وماذا نقول عن الأوبريت الشهير للفنانة الراحلة أسمهان "موكب العز"، الذي كتبه الشاعر أحمد رامي، وقام بتلحينه الموسيقار رياض السنباطي، وتغنت به أسمهان في فيلمها الشهير "غرام وانتقام" الذي عُرض في عام 1944، هذا الأوبريت تم حذفه من الفيلم بعد قيام ثورة 1952، إذ اعتُبِر هذا الأوبريت مدحًا مبالغًا فيه في تاريخ الأسرة العلوية منذ محمد عليّ وحتى الملك فاروق، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن خروج الأوبريت في هذا العام كان محاولة لاستعادة الشعبية المفقودة للملك فاروق بعد تزايد المعارضة الشعبية ضد حكمه بل ضد الأسرة الملكية نفسها.
وهل ينطبق نفس المعيار على الفترة الناصرية؟ ونقصد بذلك الأغاني التي تغنت بالزعيم عبدالناصر، ماذا نقول على سبيل المثال عن أغنيات مثل:
قربوا من فكره وأحلامه ياللي عليكم كل كلامه
ناصر ناصر ناصر
فى الصورة طالقكم قدامه قلتم إيه
ناصر ناصر
قيادات شعبية قلتم إيه؟
قلنا يا زعيمنا قلوبنا أهي.. أيامنا أهي.. ليالينا أهي
وكانت هذه الأغنية "صورة" التي تغنى بها عبدالحليم حافظ هي محاولة من عبدالناصر لجذب قيادات اليسار المصري التي كانت في البداية على خلاف كبير معه، لكن عبدالناصر حاول أن يجذب قوى اليسار إليه من خلال الدعوة إلى الاشتراكية وانضمام الشيوعيين المصريين إلى الاتحاد الاشتراكي والمساهمة فيه كقيادات شعبية، وهو ما وافق عليه بالفعل الكثير من التجمعات اليسارية.
وعلى نفس النحو هل نعتبر الأغاني التي تغنت باسم السادات في عصره أغاني وطنية؟ وربما يصبح من الصعب الإجابة على مثل هذا السؤال خاصةً إذا وضعنا موضع الدراسة أغنية شهيرة تغنى بها أيضًا عبدالحليم حافظ باسم السادات بعد حرب 73 وهي أغنية "عاش اللي قال" التي كتبها محمد حمزة ولحنها بليغ حمدي:
عاش اللي قال الكلمة ......... بحكمة وفي الوقت المناسب
عاش اللي قال لازم .......... نرجع أرضنا من كل غاصب
إنه من الجدير بالملاحظة أن العقل الجمعي المصري لم يتذكر الأغاني التي تغنت بأسماء حكامه وزعمائه بينما تستمر في وجدانه الأغاني التي تغنت بمصر حتى في عهد هؤلاء الزعماء، إننا مازلنا نتذكر من عصر عبدالناصر أغاني مثل الله أكبر و"والله زمان يا سلاحي" وهي التي ارتبطت بمناسبة وطنية هامة مثل حرب 56، أو أغاني مثل عدى النهار، واحلف بسماها وبترابها، هذه الأغنية التي استمر عبدالحليم حافظ يبدأ بها حفلاته منذ أيام النكسة وحتى حرب 73، وحتى في عصر السادات من منا لا يتذكر أغاني العبور مثل أغنية "بسم الله.. الله أكبر بسم الله" أو أغنية "حلوة بلادي" التي كتبها عبدالرحيم منصور ولحنها بليغ حمدي.
وهكذا يثبت العقل الجمعي المصري أن ما يبقى في وجدانه من أغاني وطنية هو ما ارتبط بالفعل بمفهوم الوطن وليس تمجيد الحكام، وربما يستثنى من هذه القاعدة لحظة الشجن الحقيقية التي عاشها الشعب المصري مع الوفاة المفاجئة لجمال عبدالناصر وهنا غنى الشعب المصري كله:
الوداع يا جمال يا حبيب الملايين
ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين
وهنا نلاحظ أن الشعب المصري عندما كان يودع عبدالناصر لم يكن يمجد حاكمه وإنما يغنى لحلم قومي ولفترة ثورية كان يشعر بحسه أنها قد تُختطف منه بعد ذلك.
ولتأصيل هذه الفكرة، أن الشعب يغني لمصر فقط وأنه عندما تبقى في ذاكرته أغنية لزعيم أو حاكم فإن هذا الموقف الاستثنائي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بلحظات هامة ونادرة في تاريخه عندما يصبح الزعيم رمزًا للوطن وهنا يصبح الأصل في الأشياء الوطن، وهذا يذكرنا بما حدث مع سعد زغلول في أثناء ثورة 19 عندما قامت السلطات البريطانية باعتقال سعد ورفاقه ونفيهم إلى الخارج، هنا سيرفع الشعب المصري سعد إلى مصاف الزعماء ويصبح سعد رمزًا للوطن، وعودة سعد من المنفى هي بمثابة عودة الروح إلى الوطن.
حيث منعت السلطات البريطانية الهتاف باسم سعد في المظاهرات والغناء له، وهنا ابتكر الشعب المصري وسيلة المقاومة بالحلة، حيث خرجت الأغنية الشهيرة "يا بلح زغلول" التي كتبها بديع خيري ولحنها سيد درويش.
وسيرًا على نفس الدرب اعتبر الشعب المصري إجبار بريطانيا على عودة سعد زغلول من المنفى انتصارًا للثورة المصرية وعودة الروح إلى مصر، حيث خرجت الأغنية الشهيرة لبديع خيري وسيد درويش:
مصرنا وطننا سعدها أملنا .. كلنا جميعًا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا.. أن تعيش مصر عيشة هنية.