الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

الدكتور مصطفى الفقى يكتب: مئوية كيسنجر.. العراب الحقيقى لتطورات الصراع العربى الإسرائيلى

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إن ذلك الداهية العجوز الذى احتفل بعيد ميلاده المائة فى مايو ٢٠٢٣ هو شخصية أسطورية بمعنى الكلمة، فهو ينتمى إلى عائلة ألمانية الجذور نزحت إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تربى وتعلم هنرى كيسنجر وشق طريقه كمفكر سياسى وخبير علاقات دولية حتى تولى منصب مستشار الأمن القومى للدولة الأمريكية ثم تبوأ منصب وزير الخارجية.
وقد بدأ بزوغ نجمه مع إدارة الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون ثم الرئيس جيمى كارتر الذى يلامس عمره المائة عام حاليا، ونحن فى مصر ننظر إلى هنرى كيسنجر نظرة خاصة باعتباره العراب الحقيقى لتطورات الصراع العربى الإسرائيلى.
ولقد كانت نصائحه للدولة العبرية جزءا من أهميته التاريخية فى السياسة الخارجية الأمريكية، وقد أطل علينا عشية عيد ميلاده ليدعو إلى الابتعاد عن المواجهة مع الصين وتحويل العلاقة إلى نوع من التعاون الدولى بدلا من المواجهة غير المبررة.
ولقد استهوتنى شخصيا ملامح فكرية خاصة لتلك العقلية الفذة لرجل عاصر قرنا كاملا بأحداثه صعودا وهبوطا وظل نجمه متألقا لا يخبو، وأنا أتذكر أنه التقى برؤساء مصر بدءا من الرئيس الراحل أنور السادات وصولا إلى الرئيس الحالى عبدالفتاح السيسى وكأنما تحولت مقابلته دائما إلى شهادة منه تعطى الشرعية أحيانا للحاكم المصرى الجديد فهو صاحب النظرية الشهيرة لإدخال عامل الزمن فى حل المشكلات الدولية والخروج من الأزمات الإقليمية.


إنه الذى رأى بذكائه الخارق وخبرته الفريدة أن أية مشكلة بين طرفين إذا تركناها لعدة سنوات يمكن أن نعود إليها لنجدها قد تحركت من الجانبين بشكل إيجابى إلى نقطة المنتصف فلقد وضع هنرى كيسنجر تأثير عامل الزمن بمتغيراته واحدا من مظاهر تخفيف حدة التوتر بين الأطراف المتصارعة، كما أنه هو صاحب نظرية الغموض البناء (Constructive Ambiguity) ومؤداها أن طرفى النزاع يقبلان بصيغة عامة فيها ما يرضى كلا منهما حتى ولو جاء ذلك بشكل غير صريح وفى عبارة ملتوية لا تخلو من الغموض.
ونحن العرب نتذكر القرار الصادر عن مجلس الأمن بعد حرب عام ١٩٦٧ والذى يحمل رقم القرار (٢٤٢) حيث رفع حرف التعريف من كلمة «الأراضى» وجعلها «أراض» فقط بحيث يفسرها العرب واليهود كل على هواه وهى خدمة تاريخية لإسرائيل يتذكرها الجميع، ولقد جاء إلى مصر منذ عام أو اثنين الدبلوماسى الأمريكى السابق مارتن إنديك والذى كان يعد كتابا عن هنرى كيسنجر وفيه فصول عن العلاقة مع الرئيس الراحل أنور السادات وقد زار مارتن إنديك وقتها استراحة الرئيس المصرى الراحل فى أسوان والتى التقى فيها بعميد الدبلوماسية الأمريكية هنرى كيسنجر.
إننا أمام نموذج فريد لشخصية متميزة أحبها البعض ولكن احترمها الجميع ممن نظروا إليه كعبقرية فذة وشخصية متفردة على مسرح الأحداث فى قرنين من الزمان هما القرن العشرون والقرن الحادى والعشرون، إن الدبلوماسى الأمريكى الذى جاوز عمره المائة عام سوف يظل اسما لامعا فى سماء الدبلوماسية والعلاقات الدولية لسنوات عديدة قادمة بفضل إسهاماته القوية والداعمة لمن وقف بجانبهم فى دبلوماسيته الماكوكية التى أدت إلى فض الاشتباك بعد حرب ١٩٧٣ على خطوط القتال بين إسرائيل والدولتين السورية والمصرية.
ولا تتوقف قدرات هنرى كيسنجر على منطقة جغرافية معينة بل هو ينظر إلى العالم نظرة شاملة متكاملة سواء فى الحرب أو فى السلام ويعطى اهتماما كبيرا للربط بين التاريخ والحاضر كما أن الدراسات المستقبلية تحظى من صاحب هذه العقلية المتألقة على قدر كبير من الاهتمام ولعل ذلك جزء من قيمته الحقيقية، حيث إنه يتطور مع الأحداث ويسابق الزمن فلم يتوقف عند عصر ريتشارد نيكسون عندما بدأ هو – كيسنجر- العمل الدبلوماسى العام ولكنه يمضى موازيا للرؤساء الأمريكيين بالنصائح الكبرى والأفكار الجديدة والرؤى الحديثة.
إن البشرية إذ تحتفل بمئوية هنرى كيسنجر فإننا نظن أنه كان مرشحا قويا للرئاسة الأمريكية لولا التذرع بيهوديته من جانب وأن ميلاده كان خارج الأرض الأمريكية كما يقال إلا أن ذلك الرجل العظيم كان دائما مشروع شخصية كبرى فى العلاقات الدولية المعاصرة وقد كان.
ولقد كانت تصريحاته الأخيرة عن العلاقات بين الغرب والصين هى استشراف مبكر لمواجهات محتملة على الساحة الدولية وكأن الرجل يأبى أن يغادر المسرح السياسى الدولى دون أن يترك بصمة قوية ومؤثرة على العلاقات بين الشرق والغرب.
ونحن إذ نعبر عن اعتزازنا بمواقفه البناءة وأفكاره الحية فإننا نتعامل معه بحياد كامل ولا ننظر إلى مواقفه من الصراع فى الشرق الأوسط كمؤشر وحيد لشخصيته العظيمة.
تحية لهنرى كيسنجر وهو يطفئ الشمعة المائة من عمره الثرى ويعطى نموذجا مبهرا لكل من يريد أن يظل فى ذاكرة الإنسانية على الدوام!.