الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

عبد الرحيم على يكتب: سبعة أسفار.. هى ما تبقى من رحلة العمر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ما حدث فى المنيا وانتهى باعتلاء الإخوان للحكم يتكرر بحذافيره فى أوروبا

الإخوان سيطروا على الضواحى والمدارس والمساجد فى باريس وحوَّلُوها إلى مفارخ للتطرف والإرهاب على مرأى ومسمع وبمشاركة أهل الفكر والسياسة 

سهام الاتهام والتجريح انهالت على شخصى مع استمرارى فى طرح الأسئلة الشائكة واقتحام المناطق الملغمة فى مبادرات وقف العنف


خمسة وثلاثون عامًا أو يزيد.. وأنا ألهثُ خلف حلمى.. يمامة خضراء تأتينى على مهل.. شاخصة وحالمة فى وضح النهار.. تربت على كتفى، تهدهدنى وتهدينى اليقين.. طريق طويل ضَمَّ أقدامى لثلث قرن أو يزيد.. مسافة تفصل ما بين مدينتى الحبيبة «المنيا» وبين باريس، بين صحيفة «الأهالى» وبين دار «لارماتان»، بين أول موضوع نشرته حول تطبيق الحدود من قبل الجماعة الإسلامية بالمنيا على المواطنين فى غيبة من أجهزة الدولة، وبين آخر كتبى: «الأفكار الشيطانية.. تنظيم الإخوان وخطره على الغرب».. ثلث قرن دار فيها الزمان دورته وكانت المنيا هى بداية القصة؛ ففى نهايات السبعينيات وبدايات الثمانينات من القرن الماضى شهدت تلك المدينة الجميلة «تحولات» صاخبة، وانطلقت منها أفكار بدأت مُحافظةً ثم تحولت إلى متشددة.. ثم انقلبت عنيفة.. لتنتهى دموية!! مجموعة من «الشبان» أغلبهم من حى واحد من أحياء المدينة.. يسعون بجلباب أبيض قصير ولحى كثيفة وجهامة على الوجوه ليفرضوا رؤاهم وفتاواهم بالتهديد والوعيد، يفعلون ذلك تحت سمع وبصر الجميع.. لا أحد يمنعهم أو ينصحهم أو يتصدى لهم!! بل وصل الأمر بالمسؤولين المحليين لتملقهم وتبجيلهم.
 


ووفقًا لرغبات «المشايخ» الشبان!!، وشيئًا فشيئًا هجرت المدينة بهجتها ووداعتها، وطيبة ناسها، لتتحول -خاصة الجزء الجنوبى منها- إلى «قُم» المقدسة.. كما أطلقنا عليها آنذاك.. المصادفة أن نفس ما حدث فى مدينة المنيا عروس الصعيد فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، وانتهى باعتلاء الإخوان لسُدَّة الحكم فى مصر فى ٢٠١٢ يتكرر بحذافيره فى أوروبا بالكامل، وبالأخص هنا فى «باريس» فى الضواحى والمدارس والمساجد، حيث سيطر عليها الإخوان وحوَّلُوها إلى مفارخ للتطرف والإرهاب.. الغريب أن كل ذلك يحدث أيضًا على مرأى ومسمع بل وبمشاركة ومباركة من أهل الفكر والسياسة، وبخاصة قادة أحزاب الخضر واليسار الديمقراطى، هؤلاء الذين يعتبرون أن الإسلاميين مناضلون من أجل الحرية، وأن طريقهم وطريق الإسلاميين واحد، وهو طريق الثورة على أنظمة باتت من وجهة نظرهم من الماضى الذى يجب أن يتغير.. جُمل وعبارات سمعناها من بعض رجال اليسار فى مصر فى حقبة الثمانينيات والتسعينيات حتى سقطت البلاد تحت حكم الإخوان فإذا بالجميع يكتشفون الكارثة الكبرى التى حلَّت بهم، ليبدأ الهتاف وبصوت واحد فى الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣: يسقط يسقط حكم المرشد.
وفى المنيا.. كما كانت البداية كانت المواجهة الأولى أيضًا، دخلتُها بكامل إرادتى ووعى، مع تلك الجماعات والقوى المتسترة بالدين، على تنوع أفكارها واختلاف مسمياتها.
لتبدأ قصة تلك الكتب والدراسات والأبحاث، التى تحويها تلك المجلدات، التى أشرف بتقديمها إلى القارئ الكريم، كمحصلة لتلك السنوات.
** ولكل كتاب أو دراسة فى هذه السلسلة، قصة أو «كواليس» سبقت أو صَاحَبت أو أعقبت صدورها تستحق أن تُروى، وليسمح لى - القارئ الكريم - أن أستعيد معه لمحات من ذكرياتى مع بعض تلك الإصدارات.
 


أن تسبح وحيدًا.. ضد التيار!! «قصة كتابين":
صدر كتاب «المخاطرة فى صفقة الحكومة وجماعات العنف» فى طبعته الأولى فى مايو ٢٠٠٠، وصدر كتاب «المقامرة الكبرى.. مبادرة وقف العنف بين رهان الحكومة والجماعة الإسلامية» ٢٠٠٣، وسط حالة من الحيرة والتردد اجتاحت الكثير من الباحثين والخبراء المهتمين بملف جماعات الإسلام السياسى فى مصر، عام ١٩٩٨ وبدايات عام ٢٠٠٠، على خلفية ما شهدته تلك الجماعات (خاصة الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد المصرية) من انشقاقات، وإعلان بعض رموزهم عن مبادرات لوقف العمل المسلح، وسرعان ما انطلقت الأصوات هنا وهناك مهللة ومرحبة: إنها «نهاية العنف».. «والانخراط فى العمل السياسى السلمى».. «إنه وقت احتواء الأبناء العائدين لحضن الوطن"!!
ومع كثرة المرحبين والمهللين والداعمين لتلك المبادرات.. غابت الأسئلة الموضوعية والأساسية عن النقاش العام حول حقيقة دوافع وأهداف تلك المبادرات.. وطبيعة «التفاوض» مع تلك الجماعات.. وهل نحن أمام مراجعات أم تراجعات تكتيكية؟.
وهل يكون التفاوض بين تلك الجماعات وأجهزة الأمن؟ أم يكون بينهم وبين المجتمع الذى اكتوى بنيران جرائمهم؟! وما موقف تلك الجماعات من الجرائم الإرهابية التى ارتكبوها طوال أكثر من عشرين عامًا؟! ما حقيقة مواقفهم «الجديدة» التى دشنوها فى سلسلة من الكتيبات أطلقوا عليها مسمى «تصحيح المفاهيم» من قضايا التكفير.. الجهاد.. الحسبة.. الأقباط.. السياحة.. الاقتصاد والبنوك؟!
وقتها، طرحتُ فى سلسلة من التحقيقات الصحفية، التى نشرتها جريدة الأهالى فى حينها.. كل تلك الأسئلة «الشائكة» والملاحظات المسكوت عنها عن قصد أو عدم إدراك.
ومع تأكيدى فى أكثر من مناسبة على حقِّ من انتهت مدة أحكامه بالسجن فى الخروج، وعلى ضرورة المعاملة الإنسانية للمساجين، ورفضى عقاب وترويع أقربائهم، ورفضى لسياسة الاعتقال العشوائى، وإصرارى - فى ذات الوقت - على الاستمرار فى طرح وتناول الأسئلة الشائكة، واقتحام المناطق الغائمة والملغمة، المراوغة والخادعة، فى مبادرات تلك الجماعات.
لتنهال على سهام الاتهام والتجريح.. وكان طبيعيًّا، بل ومنطقيًّا، أن تأتينى تلك السهام من «أصحاب المبادرة» ومن حلفائهم ومناصرينهم، لكن الغريب والمؤلم أن تأتى كثرة السهام والطعنات من أصحاب رؤى مدنية، بل بعضها كان يقدم نفسه باعتباره تقدميًّا ويساريًّا.. وكانت صيحات استهجانهم وصرخات رفضهم لأسئلتى ورؤيتى المحذرة من مخاطر تلك «الصفقة» أعلى وأعنف.. كانت أيامًا عصيبة.. أذكر هنا، حوارًا دار بينى وبين شخصية عامة محل احترام وتقدير فى الوسط السياسى.. همس لى بمحبة ونصح أبوى «إيه اللى أنت بتعمله يا ابني؟!.. أنت النظام مش راضى عنك، وأعداء النظام مش راضيين عنك!! اهدى شوية».. شكرتُ له نصحه ومحبته.. وأجبته: «المهم أن يكون ضميرى راضيًا».
 


وتمرُّ السنوات وعقب وصول الجماعة الأم «الإخوان المسلمون» لسُدَّة الحكم، وجلوس مندوبها على كرسى الرئاسة.. عاد «التائبون» من رموز الجماعات الإسلامية «حلفاء الإخوان» فى تلك المرحلة.. ليعلنوا وبوضوح أن الرصاص و«الهرس بالأحذية» مصير أى مخالف أو معارض لحكم «مرسي» وجماعته وحلفائه!! وكان فى مقدمة هؤلاء عاصم عبد الماجد وطارق الزمر، الموقعان على كتب المراجعات «تصحيح المفاهيم» واثنان ممن أطلقوا مبادرات وقف العنف!! واكتشفت الأجهزة الأمنية أنهما عادا لتشكيل جناح عسكرى موالٍ للجماعة، ارتكب عددًا من العمليات الإرهابية فى عام ٢٠١٣، قبل أن تنجح الأجهزة الأمنية فى تعقبه والإجهاز عليه.
ويبقى فى الذاكرة – أيضًا - من التداعيات التى صاحبت موقفى من «الصفقة» ومبادرات وقف العنف.. تلك الحملة الشرسة والتى وصلت حد التهديد بالاعتقال بل ومنعى من الكتابة فى إحدى الصحف الخاصة التى كنت أكتب فيها مقالًا أسبوعيًّا، إذا لم أكف عن انتقادى لتلك المبادرات.
مقابل ذلك جاءنى الدعم والمساندة من رموز وطنية شريفة.. كان فى مقدمتهم الزعيم خالد محيى الدين، والمفكر الدكتور رفعت السعيد، والصحفى الكبير عبد العال الباقورى (رحمهم الله) وأسرة تحرير «الأهالى»، والكثير والكثير من شرفاء هذا الوطن ورموزه.
ولم يقتصر الأمر على دعم أسرتى الصحفية، بل وصلنى «المدد» والدعم من رموز وقامات وعلامات مضيئة فى عالم الفكر والإبداع.. أستاذى وأستاذ أجيال عديدة من الباحثين الأستاذ السيد يس، والدكتور على الدين هلال، والدكتور يونان لبيب رزق، والدكتور ميلاد حنا، والمفكر الإسلامى الكبير جمال البنا، وتطول قائمة المبدعين والأدباء الذين شدُّوا على يدى، وكانت لرسائلهم وكلماتهم الداعمة والمشجعة الوقع الحسن فى نفسى وقلبى.. من شاعر العرب الكبير الراحل محمود درويش، إلى الراحلين الرائعين عبد الرحمن الأبنودى، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم.. ويبقى فى النفس والذاكرة الدعم الأكبر والذى ما زال قادرًا أن يجعلنى فرحًا كطفل.. وهو ما وصلنى – ومازال يصلنى بحمد الله – من «أهلى من البسطاء» حينما أذهبُ للصلاة فى الحُسين أو السيدة زينب أو السيدة نفيسة أو السيد البدوى.. أو عندما ألبِّى دعوة للقاء أبنائى من طلاب جامعات مصر.. أو عند زيارتى مُهنئًا بالأعياد للكاتدرائية المرقسية فى العباسية، أو عندما أشارك فى ندوة أو مؤتمر علمى حول قضايا التطرف والإرهاب وجماعات الإسلام السياسى، داخل مصر، أو فى عاصمة عربية، أو بلدان أوروبا، وألتقى هناك بالجاليات المصرية والعربية.. وقتها أشعر أن رهانى كان صحيحًا، وأن بوصلتى تؤشر بثبات وثقة على الاتجاه الصحيح والصائب.
منذ اخترت موقعى وموقفى من جماعات المتاجرة بالدين، والإرهاب الدموى.. وأنا أدرك تمامًا، ما يمكن أن يجره على ذلك، وبإيمان مُطلق بقدر الله ومشيئته كان تعاملى مع رسائل التهديد.. ومع «قوائم الاغتيال» التى كانت تُطلقها جماعات الإرهاب من داخل مصر أو تلك التنظيمات «العابرة للحدود» كالقاعدة وداعش، ولقد سجلتُ حضورًا دائمًا على رأس كل تلك القوائم.
لم أُغَيِّر من تفاصيل وروتين حياتى اليومية.. وبالطبع لم أغير من مواقفى من مصدرى القوائم.. وحتى أكون أمينًا، ربما التغيير الوحيد الذى أقدمتُ عليه يوم أن اتخذتُ قرارًا بأن أسكن بعيدًا عن أسرتى وأطفالى – وقتها- حتى أبعدهم عن طريق الأذى المحتمل أن يستهدفنى.
وهنا أتوقف.. لأسجل بضع كلمات عن أسرتى، وأعترف أن شعورًا بالزهو والفخر يتملكنى وأنا أتحدث عنهم.. فبقدر ما سبَّبْتُ لهم من قلق وإزعاج فى تلك السنوات الصاخبة، بقدر ما منحونى من دفء ومحبة.
«يا مصر.. إنتِ اللى همانى»
عندما علمتُ بتوصية مجلس أمناء المركز العربى بإعادة نشر الكتب والدراسات التى أصدرتُها، خلال العقود الثلاثة الماضية، فى هذه السلسلة، تملكتنى أحاسيس متباينة.. شعور بالفرح والامتنان لتوصية الأساتذة الأجلاء أعضاء مجلس أمناء المركز.. قابَلَه شعور بأن التوصية تحمل لى رسالة – ولو خفية- بأن «مشوارى» مع القلم والبحث والدراسة قد بلغ منتهاه.. وأنه آن للقلم/ السيف أن يعود لجرابه.. وللحظة قرأتُ التوصية وكأنها خطاب إحالة للتقاعد.
(إنها الستين.. سن المعاش كما نقولها بالعامية المصرية)، حيث التخفُّف من الأعباء والمسؤوليات، والجلوس فى الشمس فى شرفة المنزل، أو مع «شلة» المعاشات فى النادى، واجترار الذكريات، والانشغال بالأحفاد، والتحول لرجل «المهام الصغيرة» فى المنزل، ووجدتُنِى أجذع وأضحك فى ذات الوقت، وأنا أتخيلُ نفسى فى هذا الوضع «الزائد عن الحاجة»، وسرعان ما غادرتنى تلك «الوساوس».. نعم إنها السنون تقترب.. لكن «ما دُمتُ أحيا فأنا آمل».. والمعركة / المواجهة ما زالت دائرة، ومخاطر الإرهاب ما زالت قائمة، والأفكار الضالة المسمومة ما زالت تسعى، وما زال البعض لا يُدرك أو يعى تمامًا الأخطار المحيطة بالوطن، وما زال الوطن يواصل النهوض ويتجاوز العراقيل والمكائد، وما زال الحلم بوطن تُرفرف على ربوعه رايات العدل والإخاء والتسامح والحرية، وما زالت دماء البواسل من أبناء الوطن وخيرة شبابه تسيل وهم يدحرون فلول الإرهاب فى سيناء الغالية.
إذًا أنا باقٍ فى خندقى متسلحًا بقلمى وأفكارى، ولتكن تلك السلسلة هى هديتى وإسهامى المتواضع فى معركة بناء مصر المستقبل، أضعها بين أيدى الباحثين والدارسين والمعنيين، أقدمها للأجيال القادمة، لأبنائى وأحفادى، ولكل الحالمين بعالم يسوده العدل والإخاء والتسامح.
راجيًا الله أن يمنحنى القدرة فيما هو مقدر لى فى أيام العمر المقبلة، على مواصلة تقديم ما ينفع الناس، وما يدفع الأذى عنهم.
والله المستعان وهو خير معين.