الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب.. في حب زكي رستم ( 4 ـ 4 )

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فضلا عن تألق زكي رستم في أدوار الشر المركبة التي يبدع في الوصول إلى أعماقها، وقدرته الفريدة على تقديم الوجوه المتنوعة لشخصية الباشا من منظور إنساني يخاصم النمطية، وتوهجه في التعبير عن عالم الطبقة الوسطى وهمومها وأزماتها وتحولاتها؛ يحلق الممثل الكبير خارج السرب عبر أدوار أخرى ثرية، فهو الصحفي المفكر المسكون بهاجس قبح الشكل ما يدفعه إلى إعلان عدائه غير الأصيل للمرأة، والمعلم الشعبي البسيط الذي يقوده خاتم سليمان إلى عالم الباشوات بسماته المختلفة، والرجل المسرف في الطيبة وقابلية الخداع إلى حد معانقة السذاجة، والعجوز العاجز المريض الذي يندفع إلى زيجة غير متكافئة يدرك منذ البدء استحالة نجاحها فيدمر نفسه ويفسد حياة شريكته الأقرب إلى المراهقة، والميكانيكي المأزوم المطارد بكوابيس الماضي الذي يضم زوجتين متناقضتين وابنين يحب ويدلل أصغرهما ولا يطيق الآخر، والعاشق غير السوي الذي يحب ابنة زوجته الراحلة ويتمزق بين أكذوبة الأبوة الظاهرية والاشتهاء الكامن الذي يكتمه، وصولا إلى ناظر الزراعة الذي يمارس السيادة ويؤرقه الخوف من ضياع الوظيفة وتهديد المستقبل الغامض.

أي هؤلاء زكي رستم؟. إنه كل هؤلاء. يراه المشاهد في الشخصيات المتنافرة كأنه لم يُخلق إلا لكل منها، وفي داخل الشخصية الواحدة ينتقل بسلاسة المحترفين المتمكنين خارقي الموهبة بين مشاعر متناقضة، فإذا به قادر على الإقناع والتأثير لفرط صدقه في المراحل جميعا.

يستعرض الفصل شخصيات زكي رستم التي لا يمكن تصنيفها في الفصول السابقة، وتمثل في مجموعها دليلا عمليا على أن الممثل الفذ ليس الشرير أو الباشا أو رب الأسرة المتوسطة فحسب، بل إنه أيضا القادر على تجسيد أي وكل دور آخر.

** عدو المرأة **

المفكر والصحفي رؤوف شخصية غير تقليدية في المسيرة الإبداعية الحافلة لزكي رستم، والملمح الشكلي الأبرز في الشخصية يتمثل في القبح والإحساس الطاغي به، فهو ذو أنف غليظة التكوين وحواجب كثيفة منفرة لا يسهل ترويضها وأسنان متباعدة، والوجه في جملته دميم لا شيء فيه من الجاذبية. الممثل الكبير لا يمكن أن يُوصف بالقبح، لكنه قادر على الإحساس بخطورة أن تكون قبيحا، لا تروق للنساء ولا تصلح للحب.

العداء المتطرف للمرأة والمجاهرة بكراهيتها، جوهر الفلسفة "المعلنة" التي يعتنقها رؤوف ويبشر بها، وهو منذ البدء يعلن أنه:"لا وجود في الدنيا لشيء اسمه الحب"، والأمر عنده مجرد "وهم" و"مرض". في المقال الذي يمليه على سكرتيرته أحلام، سامية فهمي، يهاجم المرأة بضراوة إنشائية لا تتكىء على حيثيات قوية مقنعة تليق بالمفكرين أصحاب الرؤى المتماسكة، دون نظر إلى الاتفاق أو الاختلاف معها، ذلك أنه في أعماقه ليس عدوا كارها للمرأة بقدر ما هو عاجز عن التواصل معها والاقتراب من عالمها. ما الكراهية العنيفة التي يعلنها إلا وسيلته التعويضية عن الشعور الكامن بالعجز، وليس أدل على خصوصية الشخصية المركبة متعددة الأبعاد من حواراته مع صديقه المقرب الوسيم الأنيق صلاح، محمد فوزي، ففيها يظهر الطابع الكوميدي المرح، الذي يرتقي به زكي رستم عبر أداء كاريكاتوري مقصود، يكشف عن الجوهر المخبوء.

عندما يتلقى رؤوف رسالة حب من امرأة مجهولة، تتجلى سعادته الطفولية التي تقترب به من التحليق لفرط النشوة، ويبدع رستم في التعبير عن الحالة الفريدة التي تكشف بلا تصريح مباشر عن زيف وتهافت الأفكار المعادية المعلنة، وتبرهن على أنه في انتظار الحب وليس كارها له:"إن ما كانتش بتحبني.. ها تبعتلي الجواب ده ليه؟".

رؤوف ليس زاهدا في المرأة كارها لها منصرفا عنها بإرادته، لكنه لا يجد إليها سبيلا، وعندما تُتاح الفرصة للاقتراب يبدو الانقلاب منطقيا مبررا. فاتن، صباح، هي من تراسله وتتعلق به دون معرفة مباشرة. ترسل له صورتها فينجذب إلى سحر جمالها ويقع في غرامها، والمأزق الذي يواجهه هو كيفية الاستجابة لطلبها بإرسال صورته، ما يعني أنها ستعاين قبحه الذي يوقن أنه منفر لا يمكن أن يروق لامرأة. نشوة اكتشاف الحب وما يترتب عليه من تداعيات إيجابية منعشة، تصطدم بالملامح الشكلية المشوهة، ومن هنا يندفع إلى محاولة الإصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بشراء الملابس الشبابية الأنيقة وتصفيف الشعر وتهذيب الشارب ومعالجة خلل الحواجب، لكن هذا كله لا يصل به إلى معانقة الجمال المنشود، ويبدأ التراجع المغلف بمرارة الانكسار، أو كما يقول لصديقه صلاح:"مش ها ابعت الصورة.. مش ها أتصور بالمرة.. أنا مش عايز أهدم بإيديا السعادة اللي أنا فيها دلوقت.. ولو إنها خيال".

تأرجح مرهق بين الرجاء واليأس، واضطراب نفسي يتحرك زكي رستم في ساحته بلا عناء، فهو قادر على التحول السلس الذي لا شبهة فيه للافتعال والتصنع. لا مهرب من الأزمة الخانقة إلا بالفكرة الغرائبية التي يقترحها على صديقه ويلح للموافقة والقبول:"خدمة صغيرة تقدمهالي وتتصور بدالي".

الاقتراح الذي يتشبث به أقرب إلى المغامرة الانتحارية وخيمة العواقب، والمنطق الذي يتذرع به لا يصدر إلا عن محروم مأزوم يأبى التفريط في الحلم الذي يقترب ويأبى أن يتخلى عنه:"أنا عشت محروم من المتعة الحقيقية.. والنهارده أرادت الظروف إني أنعم بمتعة خيالية.. صلاح.. ما تحرمنيش إني أمتع نظري على الأقل بقراءة كلمات الحب في جواباتها.. أنا صحيح باكدب على روحي.. بأغش نفسي.. لكن..".

في "لكن" هذه، كما ينطقها رستم، تتبلور أزمة رؤوف ومحنته، ولا شك أن التحايل بالكذب الذي يسهل اكتشافه لا يقود إلا إلى المزيد من المشاكل والتعقيدات، ومن المنطقي أن تتحطم قصة الحب الوهمية مع فاتن، لكن التعويض يتحقق مع السكرتيرة أحلام التي تحبه منذ البدء ولا تبوح.

بالدور المبكر غير التقليدي، تتأكد موهبة الممثل القادر على التعايش مع كل وأي دور يُسند إليه، ذلك أنه يدرس الشخصية ويعايشها ويصل إلى مفاتيحها، ثم ينطلق معها مغردا خارج السرب.

** خاتم سليمان **

المعلم الشعبي بيومي، الذي هو نفسه حسني باشا السعيد، تجربة استثنائية متفردة في مسيرة زكي رستم مع السينما، فهو ذو وجوه متناقضة متنافرة، بقدر ما هي متكاملة متجانسة، يبدع في تجسيدها جميعا بالمستوى نفسه من الإتقان اللافت والاندماج الصادق المقنع الذي تغيب معه مشاعر الغربة عند المشاهد، ويبدو مقتنعا بمعقولية التحولات بفعل براعة الأداء وسلاسته وعفويته، وفض الاشتباك تحت راية التوحد بين الأنماط المتعارضة.

يعمل المعلم بيومي في ساحة صيد وتجارة السمك، ويبتعد عن الثراء ابتعاده عن الفقر، فهو ينتمي إلى الطبقة الوسطى ذات الثقافة الشعبية التقليدية من حيث الزي واللغة وقواعد السلوك وطبيعة الأفكار التي تسيطر عليه. ليلى الشرقاوي، ليلى مراد، تناديه في اللقاء الأول بينهما بـ "عم بيومي"، وتهرول نحوه مرحبة مهللة كأنها في مقام الابنة، لكن نظراته إليها لا تنم عن الأبوة، بل إنها تكشف بلا تصريح مباشر عن الحب الكامن الذي لا يبوح به. يتبادلان حوارا قصيرا في حضور عمها وصديقه المقرب سالم، عبد العزيز خليل، يشيد فيه بجمالها فتعلق:

"- وبعدين وياك بقى يا عم بيومي؟

- أعمل إيه؟.. ما انتِ زي الوردة.. كل ما بتفتح كل ما يزيد جمالها"

ويتدخل العم بكلمات ذات دلالة مهمة كأنها النبوءة:

"- الوردة حواليها شوك يا معلم بيومي!".

يبدع زكي رستم في الإمساك بمشاعر وهواجس شخصية المعلم بيومي، العاشق الصامت الذي يعي أن السدود المنيعة التي تفصله عن ليلى ليست ميسورة التجاوز، ويتمثل العائق الأول في عمها سالم، الموصوف من بيومي بأنه:"راجل بخيل قوي وطماع.. بده يجوزها لواحد يتاقلها بالدهب.. وأنا على قد حالي".

هكذا يقول لصديقه منصور، مختار عثمان، رفيقه في الصيد والتجارة، ثم يضيف ما يؤكد أن الأزمة لا تقتصر على الجوانب المادية وجشع العم، فثمة مخاوف مبررة أيضا من فارق العمر الكبير الذي يفصله عن ليلى. في رحلة الصيد التي يبوح فيها بالهموم التي تسكنه وتؤرقه، يتألق زكي رستم في الكشف عن أبعاد الأزمة المعقدة التي تحاصر حبه وطموحه إلى الزواج. لا يتوقف إبداعه عند التوظيف المتميز لطبقات صوته العميق الواعي الذي يثري كلمات الحوار ويضيف إليها، لكن الإبداع يتمثل أيضا في استخدام الوجه وانفعالاته لترجمة ما يدور في الأعماق المخبوءة. من المنطقي إذن أن يعتزم حسم القضية بمصارحة سالم، ومرة أخرى يمثل رد فعل الممثل القدير على الرفض المهين الموجع درسا في فن الأداء الراقي. الحزن الذي يبديه مغلف بالانكسار والغضب معا، ويخلو من الافتعال والتصنع، ويتسم بقدر كبير من البساطة الطازجة التي تتوافق مع الموقف العصيب.

مثل البسطاء المنتمين إلى عالم الطبقة الوسطى، يوقن بيومي أن الثراء غير المحدود بمثابة الأداة الوحيدة لإنقاذه من المآزق، عاطفية كانت أم مادية، وهو الوسيلة لتحقيق الأحلام. حصوله على خاتم سليمان من سمكة يصيدها صديقه منصور، تعني تسخير خادم الخاتم القادر على تلبية كل المطالب والاحتياجات، وعندئذ يظهر الوجه الثاني للشخصية. ينتهي الخوف والارتباك من الخادم، ويبدأ المعلم الشعبي الطيب في استيعاب الإمكانات الخارقة التي يتسلح بها الخادم الأسطوري:

"- أي حاجة أطلبها منك.. مهما كانت صعبة.. تقدر تنفذها لي؟

- أي حاجة.. ماعدا تلات حاجات".

لا يفصح خادم الخاتم عن "الثلاثية" التي تفوق قدراته، وما كان له أن يفعل، ففي هذه الأشياء الثلاثة تكمن رسالة الفيلم وجوهر رؤيته التي تُقدم تباعا حتى تكتمل قرب النهاية:"سعادة القلب وراحة الضمير وصحة البدن".

مع الاستحواذ على الخاتم وتسخير الخادم، يتلاشى الوجه الأول للمعلم بيومي، الرجل الشعبي البسيط والعاشق الطيب متوسط الحال، وتطل شخصية جديدة تتهيأ للميلاد مع طموح يطرحه كأنه الحلم الذي يستحيل تنفيذه: أن يكون من العظماء أصحاب المكانة المرموقة. ما أيسر أن يرتفع به الخادم فيحيله إلى حسني باشا السعيد، وهو أمر يصعب على بيومي أن يستوعبه:"باشا؟.. أنا ها أكون باشا؟.. لكن باشا إزاي.. دا أنا راجل بلدي على قد حالي.. يا دوبك أفك الخط".

ما يقوله خادم الخاتم لبث الطمأنينة والثقة:"ها تكون باشا بكل معنى الكلمة.. لا ينقصك شيء من أصول اللياقة والإتيكيت"، يحوله زكي رستم إلى أداء يبرهن على المعايشة الكاملة والاندماج السريع في الوجه الجديد ذي السمات والخصائص المختلفة، ولا يعني هذا التحول أن يتخلى الباشا عن تراث المعلم بيومي كاملا، ذلك أن حبه لليلى من الثوابت التي تلازمه، مع السعي إلى استثمار الثراء الفاحش والمكانة الاجتماعية الرفيعة للوصول إلى ما يريده من تواصل، لا يعتمد على حبها وقبولها. المراهنة على طمع العم لإفساد قصة الحب والخطوبة التي تجمع بين ليلى ومحمود لطفي، يحيى شاهين، ولا يتورع العم الشرير النهم عن استخدام مشروب سحري، وهو العطار الخبير، يسلب الفتاة وعيها وإرادتها، ويدفعها إلى القبول بالزواج من الباشا وهي لا تدري ماذا تفعل. يتبخر مفعول الدواء الغامض، ولا يتغير منهج الباشا الذي يتشبث بالحب ويجتهد لإغراء ليلى بعيدا عن الإجبار والقهر، ذلك أنه لا يفقد الأمل في الإقناع عبر مرتكزات يبرهن بها على حبه، ويغريها بأن تبادله الشعور نفسه. في تعهداته هذه، يتألق زكي رستم معبرا عن إحساسه الطاغي بأنه يخوض المعركة الحاسمة، ويؤمل الانتصار ليعانق السعادة التي ينشدها:"اسمعي يا ليلى.. احنا دلوقتي زوجين.. يعني أصبحنا أمام الأمر الواقع.. صحيح ربما يكون الفرق الكبير بينا في السن هو السبب في انزعاجك ونفورك مني.. لكن أؤكد لك إنك ها تجدي في حبي ليكِ كل عزاء عن كبر سني.. أنا ها أكرس كل مالي وجاهي في سبيل إسعادك.. ها أضحي بكل لحظة من حياتي.. في سبيل هنائك.. اديني الفرصة اللي أبرهنلك فيها على حبي".

الفشل في التأثير والإقناع باتباع الأساليب السلمية، والإعلان عن الحب والتفاني في العطاء والإلحاح على ضرورة الثقة، يقود إلى بزوغ الوجه الثالث لزكي رستم، حيث الإيغال في الشر وممارسة العنف واشتعال نيران الغيرة التي تدفعه إلى الانتقام من ليلى ومحمود معا، مسلحا بالإمكانات غير المحدودة التي يمنحها خاتم سليمان.

يبدع الممثل المتمكن في وجهه هذا إبدعه في الوجهين السابقين، ثم يدرك في نهاية المطاف أن معانقة السعادة لا تتحقق بالقهر، فالأمر رهين بالإرادة الإنسانية الحرة التي لا يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها بالسحر والأساطير.

** أولادي **

تكمن خصوصية إبراهيم بك محب في تفرد الشخصية الغرائبية، التي لم يعتد زكي رستم تقديمها في أفلامه السابقة واللاحقة. الممثل الكبير قد يكون شريرا شرسا لا يعرف الرحمة، أو طيبا جادا وقورا يتفاعل مع معطيات وتحديات الحياة، وربما يجمع بين الخير والشر متحركا ببراعة بين العالمين المتعارضين المتكاملين في سلاسة وعفوية، لكنه في "أولادي" يبدع ويتألق في تجسيد نمط جديد غير مألوف، حيث السذاجة والغفلة وسهولة الانقياد بلا ضفاف.

لا شيء عن عمله الوظيفي الذي يمتهنه، لكنه بالضرورة صاحب مركز مرموق، ولا تطرق إلى مصدر ثرائه الملموس، المتمثل في فيلا "السعادة" التي يسكنها والأثاث الفاخر والسيارة بسائقها، فضلا عن الخدم الذين يبرهنون عمليا على وضعيته الاقتصادية والاجتماعية المتميزة. رب أسرة متماسكة متجانسة سعيدة، تنبىء البدايات عن طابع المرح والمحبة المسيطر عليها. الزوجة معتلة الصحة نجية، عزيزة حلمي، والابنة الكبرى، شادية، وشقيقيها الأصغر، فتحي وسامية. أب طيب وزوج حنون، وتواضعه لافت في التعامل مع الخدم. يتراجع سريعا عن الغضب والجدية في عقابه للابن المدلل عند امتناعه عن الطعام، أما مشاعره تجاه الزوجة فتتجلى في تفاعله مع مرضها الذي يفضي إلى الموت والإحساس بالخواء والفراغ. بعد غيابها الصادم المزلزل، يتعاظم دور الخادمة زهرة، مديحة يسري، الشابة الجميلة المطلّقة ذات الظاهر البريء الطيب المخلص، لكنها شريرة في أعماقها وحادة الذكاء، وتقود انقلابا محسوبا مدروسا يتغير معه مسار العائلة جذريا. تسرف في الاهتمام بالبك بعد ترمله، وتنجح بدهائها في زلزلة التزامه بطقوس الحزن والحداد التي يمارسها:"الواحد لازم يفكر في نفسه شوية".

بعينيه اللتين توحيان بتغيير قريب، يعبر زكي رستم عن رؤية مغايرة تسكنه تجاه الخادمة، بل إنه بصمته وهو يتابع خطواتها يكشف عما يعتمل في أعماقه من تحولات، ويصل إلى الذروة في المشهد القصير الذي يدخن فيه محاطا بالظلام الذي لا يخفي نيته في اتخاذ قرار يراوده ويقاومه، وما اللقاء الجنسي مع زهرة إلا التتويج المنطقي للمباراة التي تتسلح فيها الخادمة بالخبث وبراعة الخداع، ولا يملك البك الطيب المسكون ببراءة وسذاجة الأطفال أن يقاوم ويصمد.

ليس أدل على طبيعة شخصية إبراهيم محب من الشعور السريع بالندم على الخطيئة التي لا يتحمل وحده مسئوليتها، ففي اليوم التالي يبدأ رحلة التراجع وتجنب تكرار المغامرة، ويقول في لهجة من لا يفكر في التنكر لفعلته عبر بوابة النذالة والغدر:"الحقيقة يا زهرة.. أنا كل ما بأشوفك ضميري بيؤنبني وباخجل من نفسي.. مش عارف كان جرى لعقلي إيه.. ما كانش لازم أبدا إني أستغل مركزي وضعفك قدامي.. انسي كل اللي حصل انبارح.. أنا مستعد أكفر عن غلطتي.. واطلبي من ربنا إنه يغفر لنا إحنا الاتنين".

لأن الممثل العملاق يمسك بمفاتيح فهم الشخصية التي يجسدها، ويدرك أنه أقرب إلى الأطفال البعيدين عن الزيف والخداع، فإنه يتكلم مثل طفل حسن التربية يرتكب خطأ لا يداريه أو يتحايل لإنكاره والتملص منه. الشعور السريع الصادق بالندم علامة طيبة أصيلة، والتكفير عن الخطيئة غير محدد الملامح، لكنه لا يواجه زهرة بحقيقة إنها صاحبة الدور الأهم في السقطة التي تعذبه، فهي من تغريه وتقبل عليه وتبدو مرحبة باستمرار العلاقة في غفلة عن أبنائه. لا شك أنه غافل من فرط البراءة عن تكوينها المراوغ المخادع، وجاهل ببراعتها في التخطيط للإيقاع به. تقرأ مكونات شخصيته وتستثمر ضعفه ومثاليته، ومن هنا تتخذ قرارها المحسوب بهجر البيت دون مقدمات، وتذهب إلى غرفة شقيقها زلبطة، محمد توفيق، وهو النقيض الكامل لها. تستغل طيبة الأخ الطيب لتكتمل الخدعة التي تحسن تدبيرها، فهو من يخبر البك بعزمها على السفر بعيدا بلا عودة، وتكليفها له بشراء "صبغة يود". أجواء القلق التي تصنعها كلماته الغامضة تدفع إبراهيم بك إلى زيارة غرفته الفقيرة في بيت مظلم متواضع، وهناك تعترف له بعد مراوغة توحي بنيتها في الانتحار، أنها حبلى لا مهرب لها من المحنة إلا الموت. الأشرار أصحاب الخبرة لا يهتزون لخبر كهذا ولا يسلمون بصحته، والطيبون الذين يعملون العقل في التحليل والاستنتاج لن يتورطوا في التصديق السريع لما يُقال، لكن البك المثالي المتدين لا يراجع أو يناقش، ويتألق زكي رستم في قدرته الفريدة على مقاومة رد الفعل المنطقي الذي يستنكر ويرفض، ذلك أنه مهيأ للسقوط في الشرك المنصوب له. رفضه حاسم لفكرة الإجهاض التي تزعم أنها تحاوله وتفشل، فهو من أصحاب الضمائر الحية، وليس أمام هؤلاء إلا التصرف على النحو الذي يتوافق مع تكوينهم ذي النزعة المثالية المتطرفة:"أعمل اللي يعمله كل رجل شريف يخاف على سمعته وكرامته.. أتجوزك.. الحل الوحيد اللي يرضي ربنا ويرضي ضميري".

إبراهيم بك محب، كما يجسده زكي رستم في وعي وصدق متوهج، نموذج للرجل الساذج الذي يسهل هضمه والتغرير به، وقرار الزواج الذي يتخذه بلا تردد أو تلعثم، علامة دالة على التكوين الهش المفرط في الشعور الضاغط بالواجب والالتزام الأخلاقي، أما أسلوبه في تنفيذ الزيجة فعلامة أخرى على المنهج قصير النظر الذي يحكمه في اتخاذ القرارات. يبعد أبناءه بدفعهم إلى زيارة خالتهم في العزبة، ويكتشفون عند عودتهم المباغتة سلوك زهرة الذي لا يليق بخادمة، فيسعى إلى إقناعهم بضرورة الزواج عبر منطق متهافت لا ينهض على أساس. يقول لابنته الكبرى، الأكثر تذمرا واحتجاجا:"أبوكِ راجل كبير محتاج للي يخدمه ويقوم بواجباته.. اتجوزت فعلا.. هو كتير عليا إني أضحي عشان خاطر ولادي!".

ما يقوله حافل بالمغالطات، ذلك أن زيجته لا تتضمن شيئا من التضحية في سبيل أولاده، فما احتياجهم إلى زوجة أب لا تخضع للمعايير الاجتماعية واجبة الاحترام وفق معايير الطبقة الراقية؟. الرجل لا يكذب ولا يتعمد الخداع والتضليل، لكن زكي رستم في أسلوب عرضه يبدو واعيا بأبعاد الشخصية ذات النزعة الطفولية، حيث الطيبة والبراءة والسذاجة. كيف لرجل بمثل هذا التكوين أن يكون ندا لزهرة المتنمرة واسعة الحيلة؟. من اللوازم المكررة التي يخاطب بها السيدة-الخادمة:"انتِ صحيح ملاك"، فهو لا يعرف أنها تتفنن في الإساءة لأبنائه وتعمد إذلالهم وإهانتهم مع ادعاء حبهم والحنو عليهم، ويجهل أن حملها ادعاء كاذب بغية توريطه في الزواج. ما أسهل أن تدفعه إلى الانقلاب على أولاده والإسراف في القسوة عليهم، وهو المحب لهم بلا حدود، ولا فضل للبك في النجاة والإفلات، فالإنقاذ يتحقق بمعرفة زلبطة الذي يقتل شقيقته بعد معرفته بخيانتها مع طليقها، وهي التهمة التي تطول الابنة وتوشك أن تُدان بها، قبل أن يتحقق الخلاص القدري قبل لحظة واحدة من إصدار الحكم!.

الفيلم حافل بالأخطاء الكارثية المعهودة في تاريخ السينما المصرية، ومن ذلك أن الخادم الشعبية الجاهلة الفقيرة تتقن العزف على البيانو، وتأكل بالشوكة والسكين، وتتأنق مثل امرأة أرستقراطية، أما تطور الأحداث فيعتمد على المصادفات والمبالغات التي تتسم بالكثير من الافتعال والتصنع؛ لكن أداء العملاق زكي رستم نسيج وحده لا شأن له بالآخرين.

** أين عمري **

عزيز بك، الثري شبه الإقطاعي، في مقام العم وولي الأمر بالنسبة للمراهقة علية، ماجدة، التي تقف على عتبات عامها السادس عشر. تنبىء المؤشرات جميعا عن أنه زوج مناسب للأم، أمينة رزق، وهذا ما يتحدث عنه الخدم ويبررون من خلاله الاهتمام الكبير الذي يبديه تجاه الفتاة الصغيرة:

"- مش برضه عزيز بيه ها يتجوز الست الكبيرة؟

- أنا باقول كده برضه.

- علشان كده واخد الست علية في عينيه.

- مش ها يبقى في مركز المرحوم أبوها؟".

في نظرات عزيز لعلية ما ينم عن الحب والإعجاب بالفتاة الجميلة المرحة التي تناديه دائما بكلمة "عمو"، لكن: أهو حب وإعجاب الرجل بالمرأة؟!. النظرات محايدة لا تكشف عن حقيقة المشاعر الكامنة، أما علية فهي تحبه لأنه المنقذ لها دائما، والمنفذ لأحلامها في مواجهة الأم المتشددة المتعنتة، لكنه ليس فارس الأحلام بالمعنى العاطفي الشائع للمصطلح، ومن هنا تتجلى المفاجأة في موافقة الأم على خطوبة ابنتها لعزيز، ما يقود إلى زيجة غرائبية غير متكافئة. ترحيب الفتاة مبرر بسذاجتها المراهقة ومراهنتها على مكاسب تليق بطفولتها، الملابس والأحذية ذات الكعوب العالية والتخلص من عبء الدراسة والاستيقاظ المبكر، والسؤال هنا: ما دوافع عزيز للإقدام على الزواج، وهو مريض القلب العاجز جنسيا؟.

في المشاهد السابقة للزواج، يظهر زكي رستم بوجه أبوي بشوش طيب، لا علامات فيه تدل على المرض العضوي أو الاضطراب النفسي، لكن مظهره في احتفال الزفاف يكشف عن الضيق وغياب الانسجام، وفي الليلة الأولى مع العروس في شقة الزوجية يكتسب الوجه إرهاقا لافتا، ويكتسي بالتعب الذي يتضاعف الشعور به بالنظر إلى حيوية علية، وفي الصباح يبدأ الظهور المبكر للغيرة والخوف من نظرات الشاب في الشقة المقابلة، ما يدفعه إلى إغلاق النافذة لاتقاء ما يقول إنه "الهواء البارد!".

في زيارة صديقات علية، وكلهن مراهقات في مثل عمرها، تتحول كلمة "عمو" إلى كابوس يطارد العريس العجوز وينعكس على ملامحه التي تكتسب طابع التجهم والعصبية، كأنه محاصر بالاستماع إلى ما يفزعه ولا يرضيه، أما عن حواره مع الأم بعد الزواج فإنه يكشف بطريقة غير مباشرة عن السر في زواجه. إنه من المولعين باقتناء كل جميل ثمين، والأمر عنده أقرب إلى شهوة الملكية التي تتجسد في صوت الممثل القدير المدرك لطبيعة الشخصية المعقدة التي يندمج في عالمها:"علية شابة صغيرة.. وجميلة بتلفت نظر الناس.. من يوم فرحها وهما بيبصولها.. في الشارع.. في المحلات.. من الشبابيك.. بيبصولها كأنهم مستكترينها عليا.. والحسد يولد الطمع".

لا يغيب الخلل في العلاقة عن عزيز، وتتسم نبرة صوت رستم بالنغمة العملية النفعية الباردة التي يتسلح بها كبار الملاك وعتاة الأثرياء عندما يتحدثون عن ممتلكاتهم وثرواتهم. من المنطقي أن يدفعه الخوف من طمع الآخرين فيما يملك إلى تأمين وحماية مقتنياته، والإقامة في القاهرة الصاخبة المزدحمة لا تحقق الأمان الذي ينشده. العزبة ملاذ آمن تتراجع فيه المخاوف:"علية زي حتة الألماظ.. لكن عشان أحافظ عليها لازم أحطها في علبة.. علبة قطيفة مبطنة بحرير.. وأقفل عليها.. والمفتاح في إيدي ما اسيبوش أبدا!".

الاقتناء في ذاته هو الهدف، والاستمتاع بالمقتنيات ليس مطروحا لأنه ليس ممكنا. عزيز بك مالك جشع نهم مسكون بالأنانية والاستهانة بمشاعر وأحاسيس الأخرين، ولا شيء في بيته الريفي إلا شقيقتاه المعذبتان بالعنوسة، عزيزة حلمي وإحسان شريف، وإليهما تُضاف العانس الثالثة؛ شبه الزوجة التي لا تستمتع بما تعرفه الزوجات. بعد وصولهما، يستعرض عزيز بعض مقتنياته الثمينة من التحف باهظة الثمن، ويقول كاشفا عن جوهر القانون الذي يحكم شخصيته بالغة التعقيد:"كل حاجة غالية.. أخاف عليها.. بأجيبها هنا.. هنا أمان".

عزيز لا يملك الأشياء بقدر ما تملكه، والفرس المحبوسة في حظيرته بمثابة المعادل الموضوعي للزوجة الشابة الأسيرة بدورها. انطلاق علية بالفرس فعل عفوي يليق بروحها الطفولية، ورد الفعل كما يتجسد في انفعال الممثل الكبير يعلن عن ملامح الشراسة والتسلط، فهو سجّان لا يتساهل مع سجنائه:"اسمعي.. ما فيش خروج بالمرة.. لا لوحدك.. ولا معايا".

من التحالف المدمر بين الشيخوخة والعجز الجنسي والغيرة المدمرة، تتشكل شخصية عزيز كما يستوعبها ويترجمها زكي رستم، والسلوك الوحشي يتجلى في استخدام الكرباج أداة لتأديب الفرس والزوجة معا. السقوط في براثن المرض يزيده عنفا، وتشبثه بالحياة لا يعبر عن رغبة في الاستمتاع بها، بل إنه وثيق الصلة بلعنة الملكية التي تمثل المعنى الوحيد لوجوده الهش. يقول لعلية كأنه يعتذر، وهو في الحقيقة يكشف عن المخبوء في أعماقه من خلل نفسي مزمن:"انتِ أغلى شيء امتلكته في حياتي"، وعندئذ ترد من تنضجها التجارب المريرة التي تطيح بشباب لم تعشه:"زي الفرس.. زي أرضك.. زي التحف اللي مالية سرايتك".

يموت عزيز في مشهد مروع تحت أقدام الفرس المتمردة على السجن الطويل والعذاب الذي لا تبدو له نهاية، وبغياب زكي رستم يفقد الفيلم كثيرا من توهجه، ذلك أن الحضور الطاغي للممثل العملاق هو ما يمنح المذاق الخاص عبر براعته الفريدة في معايشة أبعاد الشخصية غير السوية، متنقلا من ذروة القسوة إلى قمة الرقة غير الأصيلة.

** امرأة في الطريق **

في فيلم ذي رؤى جريئة غير تقليدية، حافل بنماذج بشرية متنوعة متناقضة، مغايرة للسائد المألوف الأكثر انتشارا في السينما المصرية، يعبر المعلم فرج عن حالة إنسانية استثنائية بالغة التعقيد. يقيم مع ابنيه غير الشقيقين في منطقة صحراوية بالقرب من الإسكندرية، ويدير ورشة لصيانة السيارات ومحطة بنزين صغيرة. محبته طاغية بلا ضفاف للابن الأصغر حسنين، شكري سرحان، على الرغم من سلبيته وتكاسله وتفاهة شخصيته، ذلك أنه ابن الزوجة الثانية التي يخلص لذكراها، وعلى النقيض من ذلك تماما يضيق بالابن الأكبر صابر، رشدي أباظة، وهو الجاد القوي الذي يتحمل عبء العمل، والأمر مردود إلى الكراهية المزمنة التي يكنها لأمه، الزوجة الأولى الشريرة القاتلة.

مع بداية الأحداث، يواجه المعلم فرج أزمة مادية قاسية، ولا شيء ينشغل به في محنته إلا مصير الابن المدلل:"ما فيش حاجة واجعاني ولا قاطعة فيا إلا بهدلة حسنين.. مش واخد ع المرمطة أبدا.. حسنين الغالي ابن الغالية".

حسنين المستهتر زوج الغازية لواحظ، هدى سلطان، ليس جديرا بالحب والتعاطف، لكن المشاعر العاطفية لا تخضع للمنطق. المعلم فرج أسير ماضيه، يوقن أن "صابر زي أمه"، جدير بالكراهية العمياء، دون نظر إلى سلوكه المنضبط وجديته، كأنه مطالب بأن يدفع ثمن انتمائه إلى الأم الشريرة، وإهمالا لحقيقة إنه ينتمي لأبيه أيضا!.

يتعمق زكي رستم في دراسة شخصية المعلم فرج، ويترجم وعيه إلى حب لا يرى من خلاله إلا ما يريد أن يراه، وكراهية عمياء مستقرة لا يؤثر فيها سلوك إيجابي أو موقف نبيل. لا يعتمد زكي في أدائه رفيع المستوى على كلمات الحوار والإطار الخارجي السطحي الذي قد يقنع به غيره، فهو يعايش شخصية الرجل المأزوم بكل ما يعتمل في أعماقها من مشاعر مركبة، ويتجلى حبه، كما تتجلى كراهيته، بطبقة الصوت وتلوين ملامح الوجه والتحكم في طوفان الانفعالات التي لا تغيب عن المشاهد فيعي دوافعه ومبرراته. يرق صوته وتحنو عيناه وتلين ملامحه في رقة لا افتعال فيها في حضرة حسنين، وينتقل بصدق وعفوية وسلاسة إلى القسوة والخشونة والغلظة مع صابر، أما أسلوبه في مخاطبة لواحظ، التي لا يطيقها ولا يجاهر بإظهار النفور منها في الوقت نفسه، فيختلف عن وجهيه السابقين اختلافه عن أسلوب الأداء وهو يتحدث مع الصديق الطيب منصور، شفيق نور الدين، ومع الشرير الداهية أمين، عبد الغني قمر.

تتراكم الديون ويُشهر الإفلاس ويُباع أثاث البيت وأدوات العمل في مزاد علني، وفي موقف عصيب كهذا يعبر زكي رستم بصمته المخيف المرعب عن ضراوة المحنة التي تزلزله، ثم يتخلى عن الصمت المشحون بالدلالات عندما تُنزع صورة الزوجة الراحلة المحبوبة لتُباع في المزاد. عندئذ يتوسل إلى زوجة الابن اللامبالية أن تعينه:"لواحظ.. عندكيش خمسين قرش!".

استغاثة الغريق اليائس من النجاة، يتعلق بقشة واهية يعرف أنها لن تسعفه، لكنه يفعل!. يداه الممدودتان في لهفة تعبير موجع عن مزيج معقد من الألم والأمل وحلم الاحتفاظ بالقليل الذي يتبقى من رائحة الماضي، وكم يبدو زكي رستم أستاذا عملاقا عندما يظهر صابر منقذا ليسدد الدين ويوقف المزاد وينقذ كرامة وكبرياء أبيه. لا شك أنه سعيد بقدر ما هو متأفف، ومشاعره المعقدة المركبة تنعكس على وجهه ولغة جسده وعينيه الزائغتين وتلعثمه، فهو المنتصر المهزوم في اللحظة نفسها!.

يعود الكفء صابر ليدير الورشة ويبث النشاط والحيوية، ولا يحول التقدم في العمر دون إصرار فرج على العمل، لكن شيخوخته الذابلة لا تُقارن بفتوة وعافية الشاب مفتول العضلات، ومرة أخرى يتألق رستم في التعبير بعينيه وجسده عن ثنائية الإعجاب والاستياء.

جراء استهتار حسنين المعهود، يفقد المعلم فرج بصره، ويتحمل الابن البريء صابر مسئولية خطأ لم يرتكبه، وتطل مقولة زكي رستم التي تتحول بفضل براعته الفذة إلى جزء من نسيج اللغة اليومية المصرية:"عميتني يا صابر!".

يوقن المعلم المصاب أن التاريخ يعيد نفسه، والابن حسنين بالضرورة امتداد لأمه:"يا قاتل يا ابن القاتلة"، فكيف لمن يحكمه الماضي على هذا النحو المتعنت أن يراجع مواقفه ومشاعره؟!.  بعد الحادث الفارق المروع، يجمع زكي رستم في أدائه بين نوعين من العمى: البصر والبصيرة، ويتشبث في إصرار مرضيّ عنيد بثنائية الخلل في الحب والكراهية.

يقول لحسنين كأنه ينقل إليه وصيته وخلاصة تجربته، ممسكا بصورة أمه كأنه يشهدها، كاشفا للمرة الأولى عن التاريخ المرهق الذي يحمله ويتعذب به:"من تلاتين سنة.. في يوم أغبر في ساعة نحس.. اتجوزت أم صابر.. ربنا ما أكرمنيش فيها.. طهقتني وكرهتني في عيشتي لحد ما سبتلها الصعيد بحاله وهجيت على إسكندرية.. اشتغلت عتال في المينا.. وهناك ربنا ساقلي بنت الحلال.. أمك يا حسنين.. جت وجابت الخير معاها.. أشيتي اتصلحت.. والقرش جري في ايدي.. ومن طيبة قلبها خلتني بعت جبت أم صابر وابنها اللي هملتهم من سنين.. وقعدتهم معاها في عيشة واحدة.. تخدمهم وتسهر على راحتهم.. أم صابر من قلة أصلها ما تمرش فيها يا ابني.. الغيرة عمتها.. ما طاقتش تشوفهم.. لعب بيها الشيطان.. حطت الزرنيخ لأمك في الشاي.. سمتها.. ماتت على صدري وهي بتوصيني عليك.. لصابر وأمه يقتلوك انت كمان لأنك ابنها.. أم صابر خدت حكم مؤبد.. وماتت في السجن".

غرفة التذكارات السوداء مكتظة بما يبرر السلوك العدواني غير السوي للمعلم فرج، والمأساة القديمة التي يكابدها حاضرة بقوة كأنها من معطيات اليوم أو الأمس القريب، وصوته مشحون بالغضب والحزن كأنه يرى ما يحكيه. لا شك أن كراهيته لصابر تتسم بالتطرف والتعنت، لكن الأمر مبرر على ضوء التاريخ الذي لا يغادره. ليس مستغربا أن يرفض اعتراف حسنين بالمسئولية عن الحادث الذي يذهب ببصره، ولا مفارقة في التحامل الذي لا يتوقف تجاه صابر، ساعيا إلى قتله بعد الاتهام الملفق بعلاقة آثمة تجمعه بزوجة أخيه، والنهاية كاشفة عن التتويج الكابوسي الذي يجسد ضياع الرجل الضرير وهو يتخبط وحيدا بعد موت الابن الذي يحبه، ووصول المأساة إلى ذروتها.

في "امرأة على الطريق"، يقدم زكي رستم دورا غير عادي في مسيرته السينمائية الحافلة، ويلقن دروسا بليغة عن مفهوم "أدوات الممثل"، التي هي حصيلة عناصر شتى، تتضمن طبقة الصوت والحركة المحسوبة والكلام بالعينين والقدرة على المعايشة العميقة للشخصية بما يتجاوز الظاهر السطحي المباشر.   

** يوم بلا غد **

طاهر بك من أعمق وأصعب الشخصيات المركبة المعقدة في المشوار السينمائي لزكي رستم، لكن الفيلم محدود الشهرة والانتشار لا يحظى بما يستحقه من الاهتمام، ذلك أنه لا ينخرط في منظومة الأفلام النمطية لفريد الأطرش، ولا يتم تصنيفه أيضا في دائرة مغايرة.

ليلى، مريم فخر الدين، ليست ابنة طاهر، بل هي ابنة زوجته الراحلة التي يكن لها حبا لا يتبخر، وتمتد آثاره إلى الفتاة التي تشبه أمها تماما، ومن هنا قوله مزدوج المعنى بأنها "كل شيء في حياتي".

الحب المتطرف الذي يظهره طاهر للفتاة، يتمثل في حرصه عليها خلال مرضها الطويل الذي يقعدها ويعجزها عن الحركة، وهي أزمة لا يرغب في أن تنتهي، ذلك أنها تتوافق مع رغبته الكامنة أن تكون سجينته وأسيرته. لا يعبأ بما يقوله الطبيب المعالج، عبد الخالق صالح، عن ضرورة أن تتحرك وتتمتع بحريتها، والحيثيات التي يقدمها طاهر في معارضته للرأي الطبي لا تعبر عن حقيقة المشاعر التي لا يصرح بها، مرددا كلمات زائفة للتغطية والمراوغة:"صحيح ليلى مش بنتي.. لكن أنا عمري ما فرقت بينها وبين ولادي.. أنا إذا كنت بأمنعها من إنها تخرج من الأوضه.. أو تنزل الجنينة.. فلأني خايف عليها".

ثمة مفارقة مؤكدة يعيها زكي رستم بين المعلن والمخبوء، والصراع المشتعل في أعماق الشخصية لا يقوى على تجسيده والتعبير عنه بكل هذا التمكن إلا ممثل من طراز رفيع، فهو يغار عليها غيرة المحب العاشق، ولا متسع هنا للأبوة ومشاعرها السوية، لكن الكشف الصريح المباشر ليس واردا.

اقتراب ليلى، الشاعرة المرهفة ذات المنحى الرومانسي، من المطرب الشهير ممدوح، فريد الأطرش، الذي يغني كلماتها قبل أن يلتقيا، يصل بهما إلى الحب والتهيؤ للزواج، وعندئذ لايملك طاهر أن يكتم مشاعره. ليس مستغربا أن يرفض زواجهما ويسعى إلى إفساده بكل المتاح له من أسلحة، وفي مشهد يؤكد عبقرية زكي رستم وتفرده في الأداء مفرط الحساسية، يقول لمن يُفترض أنها في مقام ابنته:"تفتكري ممدوح ها يحبك زيي.. زي ما احنا كلنا هنا بنحبك".

أسلوبه في الاستدراك والتراجع من "زيي" إلى "زي ما احنا"، يفضح المخبوء الذي يكتمه، والأمر لا يقتصر على مفردات اللغة، ففي ملامح وجهه ما يترجم وينبىء عن مشاعر الحب المحّرم، الذي يكنه رجل لامرأة، وفي الشرفة يصل به الأرق ومكابدة العذاب إلى الوقوف على عتبات الاعتراف بالحب ومحاولة تقبيلها.

مثل هذا النمط من الحب غير السويّ، الذي يصطدم مع الموروث الأخلاقي الاجتماعي ومنظومة القيم والتقاليد، ليس مألوفا في السينما المصرية، وبخاصة في الأفلام الغنائية التي لا تقترن عادة بالموضوعات الجادة والشائكة، وتهرول بعيدا عن القضايا التي يتحفظ المجتمع على الاقتراب منها، ويتأفف من المتورطين فيها.

في مواجهة صدامية بين ممدوح وطاهر، يقول له المطرب مقتربا من الحقيقة التي لا يمسك بها:"انت عايز تحتفظ بيها لنفسك".

ما أكثر الآباء الذين تدفعهم مشاعر الحب الأبوي إلى النفور من زواج بناتهم، لكن طاهر بك ليس من هؤلاء، وإلى نهاية الفيلم لا يتم الاقتراب الصريح من الحقيقة الصادمة، لكن زكي رستم يعيها منذ البدء، ويستعين في تجسيدها بكل مخزون موهبته الاستثنائية الخارقة.

"يوم بلا غد" أقل أفلام فريد الأطرش ذيوعا وانتشارا، ذلك أن موضوعه يختلف جذريا عن السائد المهيمن في أفلامه الأخرى، ويمكن القول إن وعي زكي رستم بشخصية طاهر هو المسئول عن خصوصية الفيلم الذي يقف في المنطقة الرمادية الغائمة التي لا تنتسب إلى العالم التقليدي، ولا تصل إلى تمام المغامرة الجريئة غير المسبوقة.

** الحرام **

فكري أفندي ناظر الزراعة، صاحب السيادة والمكانة الرفيعة في عالم الفلاحين الفقراء، وكيف لا يكون وهو مصدر العمل والحياة لعمال التراحيل القابعين في قاع الفاقة؟. ينتظرون زيارته لقريتهم الموغلة في الشقاء، ويهللون لوصوله كأنه العيد المؤذن بالسعادة. يحظى باستقبال حافل وترحيب من العمدة ومقاول الأنفار، ويتحرك القدير المتمكن زكي رستم كأن نظارة الزراعة هي المهنة التي يحترفها طيلة عمره ولا يعرف سواها. يترجم الإحساس الواعي بطبيعة الشخصية التي يجسدها، وتتمثل أدوات الإتقان والاندماج الصادق في ملابسه ومشيته، والمنديل الذي يضعه تحت الطربوش، ونظرات عينيه اللتين تفتشان عن الأخطاء، واللهجة الآمرة التي تنم عن إحساسه الطاغي بالقوة والسيطرة، وأيضا عن المسئولية الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقه.

العثور على جثة رضيع مقتول في التفتيش الذي يديره فكري أفندي، حدث غير عادي، وهمّ ينبغي أن يهتم به وينشغل بحكم مهام وظيفته التي تشمل الأرض ومن عليها. يعاين موقع الحادث، ويصدر حكما أوليا سريعا باتهام وإدانة "الغرابوة" الوافدين. يشير إلى مكان إقامتهم، ويقول في ثقة:"لازم واحد من دول".

من المنطقي ألا يسفر التحقيق الذي يقوم به عن اكتشاف الحقيقة، والاستعانة بالشرطة والنيابة تبرهن عمليا على الموقع المتواضع للناظر الذي ينكمش ويتراجع في مواجهة السادة رموز السلطة. إسرافه في الاحتفاء والترحيب بهم، بمثابة إعادة الإنتاج لما يلقاه فكري أفندي عندما يلعب دور السيد المهيب في زيارته للقرية البائسة في مطلع الفيلم.

لا تفاصيل عن الحياة العائلية لفكري أفندي، لكن الظهور العابر للابن المدلل صفوت، سامي سرحان، يؤكد أنه مستهتر صانع للمشاكل، وهو ما يتجلى في الشكوك التي تراود الأب بعد العثور على الرضيع القتيل. يسأله في شك وريبة، ما ينبىء عن تعدد العلاقات النسائية للشاب:"بالمفتشر كده يعني.. اوعى يكون ليك صلة بالموضوع".

ينصب تركيز الفيلم في تقديم شخصية فكري أفندي على الجانب المهني في المقام الأول، ومن هنا فإن انتشار "الدودة" كارثة تؤرقه وتنسيه أزمة الجنين القتيل، وتدفعه إلى القلق والتوتر الذي يكسو وجهه وينعكس على لغته وهواجسه. مستقبله الوظيفي، ومصير الأسرة بالتبعية، مهدد حال الفشل في إنقاذ المحصول، ما يعني غضب الباشا المالك القادر على الإطاحة به:"الفقس ظهر في الحوض البحري.. ويظهر ها نروح في داهية".

تنعكس مخاوفه هذه على أسلوب تعامله العنيف مع الريس عرفة، عبد العليم خطاب، الذي يهمل عمله الإشرافي ويجلس في الظل لاهيا بلا مبالاة:"يا راجل يا ضلالي يا كداب.. الفقس في الغيط وقاعد تلعبلي سيجة.. لو وصل الخبر للباشا أنا ها أخرب بيتك".

العبارة التي يرددها زكي رستم في اضطراب صادق، تعبر عن وعيه الكامن بأن الخراب سيكون من نصيب فكري وحده، ودوامة الهموم التي تحاصره هي الدافع الوحيد للقسوة الظاهرة غير الأصيلة. إنه في أعماقه رجل بسيط طيب، واكتشافه أن عزيزة، فاتن حمامة، هي أم الرضيع وقاتلته، لا يعني أن يفضحها ويشهر بها ويتحامل عليها. سرعان ما يطغى الشعور بالتعاطف والإشفاق، ويأمر بصرف يوميتها كأنها تعمل، بل إنه يدفع من ماله الخاص نصف ثمن زجاجة الكينا، الدواء الذي يقدمه حلاق الصحة لإنقاذ ما يستحيل إنقاذه.

فكري أفندي شخصية غير مسبوقة في عالم زكي رستم، فهو ليس فلاحا عاديا، ولا يمكن تصنيفه في دائرة السادة والملاك. يقف في المنطقة الوسطى بين طبقتين لا ينتمي إلى أي منهما، وإتقانه اللافت ينم عن الدراسة العميقة المتأنية الواعية، التي تمكنه من المعايشة والإمساك بمفاتيح الشخصية، ما يتيح له أن يجسدها في براعة من ينفق العمر كله ناظرا للزراعة. 

الفصل الخامس: إسدال الستار

----------------------------

في فيلمي "بقايا عذراء" و"أجازة صيف"، يهتز أداء زكي رستم بفعل البناء الفني المتهافت الركيك للعملين اللذين لا يمتلك أي منهما الحد الأدنى من المقومات التي تعين الممثل الكبير في الاستعانة بموهبته وتسخيرها لتحقيق التوازن النسبي، كما يفعل في أفلام سابقة.

لا شك أيضا أنه يتأثر في آخر أفلامه بظروفه الصحية التي تتفاقم، ضعف السمع، ما يؤثر سلبا على أسلوب أدائه الذي يتسم للمرة الأولى بقدر من الارتباك والاضطراب غير المعهود.

يقترب العملاق القدير من الاعتزال الاضطراري، ليس للتقدم في العمر، بل لأن العلة التي تشتد عليه تمثل أداة تشويش لا قِبل له بمواجهتها، فلم يكن بد من إسدال الستار.

* بقايا عذراء *

عبد الفتاح باشا فكري محام ثري ذائع الصيت، ونائب برلماني لا ينتمي إلى حزب أو اتجاه سياسي بعينه. أرمل يعيش في قصر فسيح مع ابنته الوحيدة المراهقة هدى، ماجدة الخطيب. المدرسة نبيلة السيد، مريم فخر الدين، تعاقب تلميذتها المشاغبة بالطرد من الفصل لسوء السلوك، ويسيطر عليها الخوف بعد معرفة شخصية أبيها، وهي مخاوف تؤكدها ناظرة المدرسة عندما تستدعيها في اليوم التالي:"عبد الفتاح باشا فكري اتصل بيا دلوقتي في التليفون وعايزك تروحيله بسرعة".

لا شيء في المقابلة مما تتوقعه المدرسة وتخافه، ذلك أن الباشا يقابلها بترحاب ووجه بشوش، ويبدي إعجابه بموقفها التربوي الحازم. تعرف منه أنه يوبخ ابنته لتصرفها المعيب، ويلقنها درسا يكشف عن جانب مهم في شخصيته التي توحي بالعقل والاتزان والموضوعية:"اللي عايز الناس تحترمه.. لازم يحترم الناس".

الفتاة اليتيمة المدللة جديرة بحب وإشفاق المدرسة، والتقارب السريع يفضي إلى رغبة الباشا في الزواج من المدرسة الشابة، على الرغم من الفارق الكبير في السن والمكانة الاجتماعية. مصلحة الابنة هي الدافع الأهم لرغبته، وعقلانيته تتجلى في النصيحة التي يقدمها في صياغة متزنة لا شيء فيها من الإسراف الانفعالي، عندما تطلب نبيلة مهلة قصيرة للتفكير:"إذا كان فيه حد تاني في حياتك.. فأنا أعفيك من الطلب اللي عرضته".

ثمة شخص آخر في حياة نبيلة هو الصحفي الوطني محمود كمال، شكري سرحان، لكنها لا تشير إليه وتوافق على عرض الزواج، ومع الوصول إلى هذه المحطة تبدو الأحداث تقليدية ذات إيقاع راكد، ولا تُتاح لزكي رستم فرصة التواصل المعهود للإمساك بمفاتيح الشخصية

التي يجسدها، فلا شيء فيها إلا الإطار الشكلي السطحي بلا أعماق.

يتطوع الباشا للدفاع عن الصحفي محمود في إحدى قضايا النشر، ومرافعته لا تستدعي الاهتمام أو تبرهن على وعي سياسي، وكم تبدو عبارته مقحمة غير منطقية عندما يزور الصحفي في مكتبه ويقول له:"السجن هو المكان الطبيعي للأحرار في بلد مغلوب على أمره!".

عبد الفتاح باشا جزء من النخبة الطبقية والسياسية التي تشكل قمة النظام، والاختلاف الجزئي مع بعض ممارسات السلطة لا يعني القطيعة والمعارضة الجذرية، فأي معنى لعبارته ذات الرنين الثوري الزائف؟. يصل بناء الفيلم إلى ذروة الارتباك والتخبط بالاكتشاف "المفاجىء" لوجه عبد الفتاح باشا السياسي. يزوره محمود في قصره، ويتساءل عن السر في توجهه للقصر الملكي، وتأتي الإجابة حافلة بكل ما هو غرائبي يؤكد جهل صانعي الفيلم بطبيعة الحياة السياسية والآليات التي تحكمها في العصر الملكي:"أنا كنت ناوي أقدم استجواب للبرلمان عن ميزانية القصر.. دا كان ح يعمل ضجة كبيرة قوي في البلد.. فيظهر إن الملك شم خبر.. فاستدعاني علشان يقنعني بالعدول عن الفكرة دي.. ويفهمني إن الوزارة في حكم المقالة.. وإن الوزارة الجديدة ح تكون من نصيبي.. نوع من الرشوة يعني".

كيف للملك بكل جلاله وهيبته أن يقابل عضوا في البرلمان ليثنيه عن تقديم استجواب؟، وما الخطورة التي يمثلها عبد الفتاح فكري لتكون رشوته هي تشكيل الوزارة؟!. تخبط يؤكد غياب الوعي والإدراك الصحيح عند صانعي الفيلم، أما عن أسلوب زكي رستم في الأداء فإنه روتيني بارد، كأنه غير مقتنع بما يقوله، ويؤدي واجبا ثقيلا مرهقا!.

يستمر الخلل وغياب المنطق، فضلا عن اللغة الركيكة الفجة، في العبارات الإنشائية الماسخة التي يدين بها الأحزاب، بل إنه يطالب بإسقاط النظام كله، كأنه ليس واحدا من أعمدته. يتوهم صانعو الفيلم أنهم يمجدون ثورة يوليو بإدانة العهد البائد، ولا يعرفون أن مثل هذا النمط من الخطاب السياسي دليل على التفاهة والتهافت. السفارة البريطانية تستعين براقصة مغمورة للتشهير بالباشا، كأنه خطر يهدد الإمبراطورية، والصحفي "الوطني" يوهمها بالحب حتى يحمي عبد الفتاح، ويعتبر سلوكه هذا عملا وطنيا وتضحية من أجل الوطن!.

الفيلم في جملته مهلهل ساذج سطحي، كما هو العهد في أفلام حسام الدين مصطفى، والسيناريو بالغ الضعف عشوائي يخلو من المنطق والمعقولية، وفي مشهد انقلاب الباشا على صديقه الصحفي ما يعبر عن قمة الهزل والتهريج الرخيص، فهو يتهمه ويدينه بالتنسيق مع السفارة والراقصة، معتمدا على تقرير البوليس السياسي، في مفارقة لا يمكن تبريرها مع المعروف عن الباشا من اتزان وعقلانية. لا يتوقف العبث عند هذا الحد، فالصحفي يُتهم باغتيال الباشا دون دليل واحد، ويُحاكم ويظفر بالبراءة في افتعال مصنوع.

ما الذي يملكه زكي رستم ليبدع ويتوهج في عمل ركيك على هذا النحو؟. لا شيء بطبيعة الحال. ربما يمكن طرح السؤال بصياغة مختلفة: ما الذي يدفع الممثل العملاق إلى قبول المشاركة في فيلم هزيل لا يمكن أن يكون مقتنعا به؟.

* أجازة صيف *

قبل خمس سنوات من رحيله، يقدم زكي رستم آخر أدواره السينمائية وأقلها إتقانا واقناعا. الأستاذ فريد موظف متطرف في بخله وشحه، ينتمي إلى عالم الطبقة الوسطى بحكم مهنته، ورب أسرة تضم الزوجة، ناهد سمير، والابنتين هالة وسميرة، سهير فخري ونيللي، لكن التركيز لا ينصب على موقعه كأب وزوج، بل على شخصية البخيل التي يتوهم صانعو الفيلم أنها كفيلة ببناء فيلم كوميدي حافل بالمواقف المضحكة.

نموذج البخيل مادة واسعة الانتشار في الأدب والسينما، ولا يخلو مجتمع إنساني، في كل زمان ومكان، من بخلاء يثيرون مزيجا معقدا من الازدراء والإشفاق، والتعاطف أحيانا، لكن النجاح رهين بالمعالجة الإنسانية والفنية العميقة التي تتجاوز القشور السطحية الشكلية، وتصل إلى الجوهر ذي المغزى القادر على التأثير، فهل يحوي الفيلم شيئا من هذا؟. ما أكثر المواقف المصنوعة التي تؤكد على بخل فريد، ومن ذلك إصراره على تدخين السيجارة حتى النفس الأخير، وجديته في لعب الورق مع زوجته وابنتيه حتى يكسب قرشا، كأنه يخوض معركة حاسمة يمثل الانتصار فيها هدفا خطيرا:

"- عاوزين تلخبطوني عشان تكسبوا مني الدور وتخربوا بيتي.

- يعني ها نكسب العمارة؟.. دا قرش صاغ!

وماله.. قرش صاغ على قرش صاغ يبقوا جنيهات.. والجنيهات تعمل عمارات!".

في مشهد آخر، يجلس فريد مع زملاء العمل الوظيفي في القهوة، ويتساءل أحدهم:

"- مش تشرب حاجة؟

- على حسابكم!

- عيب ع العمارة أم تلات تدوار".

ظاهرة البخل لا تقترن بالفقر، فما أكثر الأغنياء البخلاء، لكن أزمة الفيلم تكمن في البناء المهلهل المليء بالأخطاء، والعاجز عن إقناع المشاهد بمصداقية أن يكون فريد بخيلا مضحكا. إنه يحتفظ في جيبه بزجاجة براندي يبيع منها لرفاق جلسته بثمن مضاعف، فهل ينهض هذا دليلا على بخله وتقتيره، أم ينم عن غبائهم وسذاجتهم؟. لماذا لا يشترون بالثمن العادي الزهيد، ويؤثرون أن يُخدعوا على هذا النحو؟، ولماذا يستسلمون دائما لبراعته الوهمية في استغلالهم؟. السؤال الأهم: ما دوافع وأسباب سلوك فريد؟. في مرحلة متأخرة نسبيا من الأحداث، ينتبه صانعو الفيلم إلى ضرورة أن تُتاح له الفرصة ليشرح جذور سلوكه الكريه. في مصيف رأس البر، تواجهه الزوجة التي تتعذب طوال سنوات زواجهما بتقتيره المزعج، وينبري شارحا في نبرة ميكانيكية غير معهودة في تاريخ الممثل الكبير:"أصلك ما شفتيش الأيام السودا اللي أنا شفتها.. ما جوعتيش زيي.. تلات سنين وأنا بأدور على شغلة آكل منها.. شفت الذل.. واشتهيت الدقة.. مديت إيدي للي يسوا واللي ما يسواش.. علشان كده بقيت حريص على الفلوس.. عرفت قيمتها.. آمنت بان اللي ما عندوش قرش ما يساويش قرش!".

ينتهي فريد من كلماته الباهتة فيتم القطع عليه والانتقال إلى مشهد آخر، وكأن "الواجب" المطلوب قد انتهى!. بعد سنوات طوال من الزواج، تسأل الزوجة، ما يعني أنها لا تعرف ولم تفكر في طرح السؤال من قبل، والحيثيات التي يقدمها ساذجة لا تضيف ولا تضيء، فضلا عن تناقضها مع حقيقة امتلاكه لعمارة من ثلاثة أدوار، فهل يبني عمارته هذه من القروش التي يدخرها من مرتبه الهزيل؟.

الفيلم في جملته ضعيف بلا رؤية، مزدحم بالشخصيات السطحية النمطية، البدين والقبيحة والمسرفة في الابتذال، أما شخصية فريد فإنها سطحية ذات بعد واحد بلا أعماق، ولا تتيح للممثل أن يبحث عن مفاتيح للفهم والتواصل. من المنطقي ألا يكون زكي رستم كالعهد به في قوة الحضور والمعايشة الصادقة، فلا شيء يستدعي ذلك في ظل الخفة والمعالجة الهشة. إنه يردد جمل الحوار كمن يؤدي واجبا ثقيلا مفروضا عليه، ويتلعثم كأنه يستعيد ما يحفظه ويخشى أن ينساه.

إنها المرة الوحيدة التي "يمثل" فيها زكي رستم، وهي الأخيرة أيضا، ذلك أنه يعتزل ويتقاعد، ولا تتكرر التجربة السيئة.

 

 

رابط الحلقة الأولى:

https://www.albawabhnews.com/4762572

 

رابط الحلقة الثانية:

https://www.albawabhnews.com/4766907

 

رابط الحلقة الثالثة:

https://www.albawabhnews.com/4771167