الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. زوزو نبيل.. الصوت الأعظم في تاريخ السينما المصرية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بفعل الزمن الذى لا يرحم أحدًا، تتغير الملامح الشكلية لزوزو نبيل.. يتبخر الشباب الذى تحافظ عليه طويلًا، وتذبل الأنوثة، لكن صوتها الخلاب يبقى علامة لا تخطئها الأذن. تتنوع أدوارها عبر أكثر من نصف قرن، وتبرع في التعبير عن الشخصيات التى تجسدها دون ذرة من الخلل والاضطراب. يغمض محبوها أعينهم لاستعادة أيام لا تُنسى، ولا يرونها صديقة البطلة والأم الخائنة والصهيونية الإرهابية وزوجة الأب المتغطرسة.

يمسحون عن وجهها التجاعيد التى تستوطنها عندما يتقدم بها العمر، كأنهم يقاومون غزو الزمن الذى لا مهرب منه. في ليالى رمضان، يبحثون عن صوتها الساحر وهى تقول في ثقة من لا يخاف: «بلغنى أيها الملك السعيد».

بلغنى أيها الملك السعيد

في البرنامج الإذاعى الشهير: «ألف ليلة وليلة»، العلامة البارزة في شهور رمضان القديمة، قبل هيمنة الفضائيات وضجيجها، تتألق زوزو نبيل، شهرزاد، وهى تروى حكاياتها المثيرة للسلطان شهريار. إن لم يكن صوتها هو السحر الذى لا يُقاوم، فأى شيء إذا يكون؟!.

الجميلة المتمكنة صانعة الخيال المحلق والأحلام الوردية، المسلحة بالعذوبة الهامسة الهادئة المدهشة، تقتحم عالم السينما مبكرًا، وتقدم عشرات الأفلام خلال نصف قرن من العمل الدءوب. قد يكون صحيحًا أن أدوارها هامشية محدودة المساحة في الأغلب الأعم من هذه الأفلام، ولا تنفرد بالبطولة أو تقترب منها، لكن الممثلة الموهوبة لا تقصّر في التعبير العميق المدروس عن ملامح وسمات الشخصيات التى تجسدها، وتفرض على المشاهد أن يلتفت إليها وينتبه.

الويل كل الويل لأفعل التفضيل وما تجره وراءها من كوارث الأحكام اليقينية القاطعة، لكننى أتورط فيما أكره وأقول إن صوت زوزو هو الأجمل والأعظم في تاريخ السينما المصرية. صوت دسم مليء بالخيرات، مشبع مريح ممتع حافل بالإيحاءات والدلالات المسخرة للكشف عن طبيعة الشخصية.

صديقة شادية في «لحن الوفاء» نموذج متكرر للأدوار العادية في مسيرة زوزو نبيل، حيث الشخصيات الخالية من الخصوصية والعمق، لكن محطات متوهجة غير قليلة تطل في مسيرتها هذه، وتكشف عن موهبة أصيلة لم تُستثمر بفعل القوانين الجائرة المختلة التى تحكم صناعة السينما في مصر.

عمة أمينة في «أنا حرة»، ١٩٥٩، شخصية تقليدية محافظة تدين بالولاء الكامل للزوج ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة. لا تقسو على ابنة أخيها وتتعنت معها من منطلق الشر الأصيل والكراهية، فهى تمارس السلوك نفسه مع ابنها، وتصل به إلى محطة الضياع. تعى زوزو في تجسيدها للشخصية أنها امرأة تابعة محكوم عليها بالخضوع للقطيع ورؤاه الموروثة، ويتراوح أداؤها بين الظاهر العنيف الذى لا تحبه والحنان الكامن الذى تخفيه. تحولاتها اللافتة عبر مراحل تطور الشخصية لا ادعاء فيه أو تصنع، وصوتها الملون المعبر أداة مهمة للكشف عما يعتمل في الشخصية من صراعات، وفى عينيها ما يغنى عن الكلام عند مواجهة المواقف المعقدة ذات الوجوه المتعددة، أما المشاهد التى تجمعها بالعملاق حسين رياض فهى مبارزة تمثيلية رفيعة المستوى.

الخضوع قدرها الذى لا مهرب منه، لكن الأمر يختلف عند «أم ياسين» في «بين القصرين»، ١٩٦٤. الأمومة عند الشخصية التى يبدعها نجيب محفوظ لا تناقض الأنوثة، والمرأة القوية ترفض قهر زوجها الأول أحمد عبدالجواد وتتمرد على تسلطه وقسوته، وصولا إلى الطلاق والحرمان من ابنها الوحيد الذى يرفض زيجاتها المتعددة ويرى فيها إهانة لرجولته وكرامته. في المواجهة الأولى بينهما بعد قطيعة طويلة، وهى على عتبات زيجة جديدة، تبدو امرأة محبة للحياة دون إهمال لمشاعر الأمومة. في صوتها فرحة ولهفة، وعتابها للابن لا ينم عن الضعف قدر تعبيره عن مزيج مركب معقد من الاحتجاج ورغبة الغفران. ما أسرع وأروع تحولات وجه الممثلة القديرة عند معرفة الهدف من الزيارة، فعندئذ يطل صوت جديد مختلف، قوامه قسوة من يحارب للتشبث بحق الحياة والمتعة: «وإيه العيب في إنى اتجوزت.. اشمعنى هو اتجوز.. ولا عشان حكم عليا بالطلاق أعيش أرملة من عشرين سنة فاتوا.. ما سألتش أبوك طلقنى ليه؟.. علشان ما كنتش بأسكتله لما بيشتمني.. ما كنتش بأبوس ايده اللى بيلطشنى بيها.. لما طردنى ما زحفتش على ركبى واترجيته عشان يرجعنى تاني».

أنا حرة

تنتصر الأنوثة على الأمومة في المعركة التى تُفرض على أم ياسين، ثم ينتصر الموت عليهما معًا. من حيوية المرأة المقبلة على الحياة في المشهد الأول، إلى أطلال امرأة في المشهد الثانى والأخير، حيث الاحتضار والتهيؤ للرحيل. لا شيء يبقى من القوة والجمال، والذبول يطول الجسد والروح والصوت.

فارق شاسع بين الخضوع والإذعان في «أنا حرة»، والتمرد المبرر في «بين القصرين»، والمشترك بين الحالتين المتناقضتين هو توهج زوزو، التى تمثل بلغة الجسد ورسائل العينين وطبقات الصوت.

الست الناظرة

ما أكثر أدوار «الشريرة» المسكونة بالقسوة في رحلة إبداع زوزو نبيل، ولعل الأهم في التعبير عن هذا التوجه ما نجده في «جريمة في الحى الهادىء»، ١٩٦٧، و«الست الناظرة»، ١٩٦٨.

في الفيلم الأول، تحشد زوزو كل مخزون موهبتها لتقديم ملامح القائدة حادة الذكاء والخبث للخلية الصهيونية التى تقوم بتخطيط وتنفيذ عملية اغتيال اللورد موين، وزير المستعمرات البريطاني. تتكىء قسوتها على الهدوء والثقة والثبات الانفعالي، ولا احتياج في هذا السياق للاستعانة بالموروث السلبى الساذج للسينما المصرية، حيث الشيطنة والضجيج الإنشائي. لا ذرة واحدة من الافتعال والتصنع، وينخفض الصوت إلى مرحلة الهمس القاتل. كل ما تفعله يؤكد أنها امرأة بلا قلب أو مشاعر إنسانية، وإيقاعها متزن محسوب. كراهية المشاهد لها، لأسباب سياسية وأيدلوجية، لا يحول دون اعترافه ببراعتها وتفردها في تجسيد الشر غير التقليدي.

حكمت زوجة الأب، في الفيلم الثاني، متطرفة في كراهية ابنة زوجها، سعاد حسني، والقسوة عليها. دور بارز جدير بالتأمل والاهتمام، ومساحة تتيح ظهور تجليات مختلفة للتعنت في ظل سلبية الزوج محمود، عماد حمدي. تتفنن في إذلال وإهانة الابنة المتفوقة دراسيًا، لحساب ابنتها من زوجها الأول، ماجدة الخطيب. كل ما تفعله ينهض دليلا ينم عن كراهية أصيلة عميقة لا تنشغل بالبحث عن أسباب ومبررات. شراستها تلتهم كل من يقف أمامها، وتتحكم في انفعالاتها بلا عناء. تتحول من حال إلى حال في سهولة ويسر، وعفوية من لا يمثل.

العجوز المرهقة

ها هى زوزو نبيل تصل إلى الفصل الأخير ذى المذاق المختلف: العجوز المرهقة ضحية البيروقراطية المصرية المتوحشة في «مستر كاراتيه»، ١٩٩٣، ويبقى تجسيدها لشخصية سكينة أم منتصر في «الهروب»، ١٩٨٨، مع المخرج الفذ عاطف الطيب، هو الدور الأعظم في تاريخها الحافل، عند الكثيرين من متابعى أفلامها.

المرأة العجوز المنهكة، تتكىء على ذراع ابنتها قليلة الحيلة، بحثا عن معاشها المتعثر بعد وفاة الزوج. كل شيء فيها يوحى باقتراب النهاية، والتعب الذى يسكنها يتجاوز الجسد إلى الروح. في صوتها وهن، والشكوى من غرائبية سلوك معذبيها تنبىء عن زهد لا يجد للاستمرار في الحياة معنى: «تعبت.. ربنا يهد حيلهم زى ما هدوا حيلي.. مش فاهمة آخرة البهدلة دى إيه؟.. صبر إيه يا ابني.. اللى بيعملوه ده كفر.. كفر»

صوتها الجميل المرهق واضح المخارج، لا يفقد عذوبته ورونقه، لكنه مغلّف بمؤثرات العكارات المتراكمة جراء المعركة الشرسة غير المتكافئة التى تخوضها ضد الزمن وخلل الإدارة الحكومية. حضورها يأخذ القلب وينعش الروح، ويصنع حالة من الشجن النبيل، تفرض على من يشاهدها أن يفكر في المصير الذى ينتظره عندما يتقدم به العمر.

أم صعيدية

مع عاطف الطيب، تبدو زوزو كأنها ولدت أما صعيدية، مجبولة على قوة التحمل والصبر على المكاره ومواجهة أعتى المحن بإرادة لا تلين ولا تعرف المهادنة. امرأة عادية مثل آلاف في مثل عمرها، يزدحم بهن صعيد مصر، حيث توارث القيم مبدأ راسخ مستقر. تحترم ذكرى زوجها كأنه حى لم يمت، والعلاقة مع الابن معقدة كثيرة المفردات، ففيها الحب والخوف والصمود الذى يعلى من شأن الكرامة. تتعرض للاعتقال فلا تجزع، ويعبر وجهها عن الدهشة دون الخوف. تنهر زوجة ابنها عندما تهم بالعويل، وتمسك كيس الدواء متجهة إلى سيارة الشرطة واثقة الخطى بلا انحناء.

في المحكمة، تقف متماسكة أمام القفص، وتقول لمنتصر كاتمة ما يدور في أعماقها من هواجس: «عايز حاجة أجيبهالك معايا؟»، وهل تملك نساء الصعيد إلا التماسك على هذا النحو؟.

يخافها منتصر ويحبها، وتخاف عليه وتحبه، وما مشاهد المواجهة مع العظيم أحمد زكى إلا الدروس البليغة يستمتع فيها المشاهد بحوارات تشبه الموسيقى والشعر، وتتجاوزهما.

تبقى حية عظيمة الحضور والتأثير في الفيلم بعد موتها، وما جنازتها المهيبة إلا الدليل العملى على استمرار منظومة القيم التى تنتمى إليها مثل الأجداد والأسلاف.