الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب.. في حب زكي رستم ( 3 ـ 4 )

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الفصل الثالث: الطبقة الوسطى
من سماء الشر متعدد الملامح والسمات، ووجوه الباشا المتباينة في تناغم إنساني، يصل زكي رستم إلى محطة ذات شأن في مسيرة عطائه، فهو رب الأسرة المصرية المتوسطة التي تقيم في حارة شعبية أو شارع بسيط بعيد عن أجواء الثراء والترف بعده عن قبضة الفقر والحاجة. الجيران والمعارف والأقارب من الطبقة نفسها، حيث الخليط المتجانس من صغار الموظفين وأصحاب المهن والحرف، أما الشقة التي تقطنها الأسرة فهي نظيفة مرتبة تنجو من لعنة القبح والابتذال والفوضى، دون نظر إلى أثاثها القديم الصامد قدر طاقته في مواجهة الزمن، ولعل الملابس هي العلامة الأبرز والأكثر أهمية في الدلالة على الهوية الطبقية، فهكذا يكون أرباب الأسر المتوسطة وزوجاتهم وأبناؤهم. لا غرابة أيضا أن يكون الخادم جزءا أصيلا من نسيج الأسرة، وقد لا يكون المطبخ واسعا كما هو الحال في قصور الباشوات، لكنه منعش بهيج يفتح الشهية لتناول طعام يستدعي الحمد والشكر.
الموظفون عماد الطبقة كما نجد في "معلهش يا زهر" و"قلبي على ولدي" و"أعز الحبايب" و"أنا وبناتي"، ومعهم صغار الممثلين والتجار والأطباء في "الصبر طيب" و"السوق السوداء" و"موعد مع إبليس"، فضلا عن رموز الطبقة الوسطى في الريف كما في "الهاربة".
الأفلام موضوع الفصل، تقدم شهادة متماسكة عن طبقة تزدهر وتسود، ثم تتآكل وتتدهور، جراء تفاعلات اجتماعية واقتصادية معقدة، وليدة حراك يتم استعراضه بطريقة غير مباشرة، لكنها واضحة الدلالة.
 

** الصبر طيب **
رشاد ممثل مسرحي محترف، والدور الذي يقوم به في المسرحية التي يشارك فيها عند بداية الفيلم، يتطلب قيامه بقتل الزوجة الخائنة بعد أن يضبطها متلبسة مع عشيقها الممثل سالم، محمود المليجي. يطلق عليها الرصاص، ويفر العاشق، ويُسدل الستار مع عاصفة من التصفيق. المسرحية يتم بثها إذاعيا على الهواء، وتستمع إليها الزوجة منى، زينب صدقي، والابن الطفل حمادة، إبراهيم حمودة عندما يكبر. لا شيء في المشهد المسرحي يستحق الإعجاب والإشادة، لكن مذيع الراديو يؤكد أن الجمهور:"يحيى الأستاذ رشاد لنجاحه الباهر".
الممثلة المقتولة مسرحيا حبيبة قديمة لرشاد، وتتشبث بحبه على الرغم من انصرافه عنها متفانيا في الإخلاص لزوجته، معبرا بالقول والفعل عن عمق رابطة الانتماء والترابط في الطبقة الوسطى خلال المرحلة التاريخية. في المقابل، يتحرش سالم بالممثلة في غرفتها، وتصرخ مستنجدة فيتدخل رشاد لإنقاذها وتأديب المتحرش بلكمة قوية، ويفضي السلوك المنحرف للمثل سيء السلوك إلى فصله من الفرقة المسرحية، وهو قرار يرى أن السبب فيه يعود إلى رشاد. رد الفعل الانتقامي يأتي سريعا، ويتمثل في حشو المسدس المستعمل في العرض المسرحي برصاص حقيقي في اليوم التالي، ويتحول تمثيل القتل إلى جريمة حقيقية يُدان فيها رشاد ويُعاقب وهو البريء. لا شيء يوصي به زوجته إلا أن تخفي الأمر عن ابنهما الوحيد:"قوليله إن أبوه مات علشان يعيش بين الناس بكرامته ولا تكونش تهمة أبوه سبب ذله!".
الموضوع ساذج مستهلك، والبناء مهلهل لا مصداقية فيه ولا حرص على الإتقان ومراعاة الحد الأدنى من المنطق، لكن زكي رستم يجتهد قدر طاقته في التعبير الصادق عن أبعاد الشخصية التي يجسدها، الإخلاص للزوجة والتعلق المفرط بالابن والتفاني في الانتماء للأسرة. في وصيته غير المنطقية للزوجة. يسعى رستم للتفاعل مع كلمات لا معقولية فيها أو تماسك، ومن هنا يطل الارتباك وليد غياب الاقتناع بما يقوله، والأمر نفسه يتكرر في مشاهد السجن. ينجح الممثل القدير، مستعينا بوجهه المعبر، في الكشف صامتا عن حجم المعاناة والتعب الجسدي والإرهاق الروحي، لكن حواره مع زميل الزنزانة المعلم قرموط، بشارة واكيم، يتأثر سلبا بضعف وفجاجة وتقليدية اللغة الحوارية:"بريء قدام ربنا.. لكن قدام الناس قاتل ومجرم.. ومحكوم عليه بالسجن المؤبد".
لأن الفيلم لا يتطرق إلى وقائع المحاكمة وأدلة الاتهام والإدانة، يبدو الأمر مفتعلا لا ينهض على أساس، فليس من مهام الممثل المسرحي أن يعد المسدس ويحشوه بالفشنك، والعقوبة القاسية بالسجن المؤبد لا تتوافق مع تهافت الأدلة، فكيف لممثل متمكن مثل زكي رستم أن يشحن كلماته بالصدق وهو في أعماقه لا يصدقها؟.
السيناريو ركيك ساذج مليء بالثغرات الفادحة، والحوار سطحي قوامه عبارات تقليدية سابقة التجهيز، والاهتمام كله ينصب على إفساح الساحة للرقص والغناء، استثمارا لوجود تحية كاريوكا، ابنة سالم، وإبراهيم حمودة، ابن رشاد، اللذين يلتقيان مصادفة ويتحابان ويعملان معا!. طغيان الاهتمام بهذا الجانب، الذي يحظى بإقبال جمهور الحرب العالمية الثانية الباحث عن الترفيه والمتعة، يزيد من خفة المعالجة الفاسدة منذ البدء، والطبقة الوسطى التي ينتمي إليها رشاد، وتتجلى بعض ملامح المودة التي تحكمها في المشاهد الأولى من الفيلم، تتوارى ويتلاشى الاهتمام بها، جراء الهبوط إلى القاع القريب من الطبقة العاملة بعد السجن، ثم الصعود الصاروخي إلى الثراء والرفاهية بعد احتراف حمادة للغناء. إنها أزمة الطبقة الوسطى، في الحياة والفيلم معا.
أداء زكي رستم لا يعبر عن حقيقة موهبته، والأمر ليس مردودا إليه، ذلك أن الخلل ينبع من المكونات الأخرى للنص السينمائي، والتمثيل ليس إلا مكونا منها، لا يتحمل مسئولية الفشل والنجاح. في العام نفسه، يقدم "السوق السوداء"، فيرتقي إلى القمة التي تليق به، والفضل للدعم المقدم من السيناريو المتماسك والحوار المحسوب والإخراج المتميز المسلح برؤية واضحة.
 

** السوق السوداء **
في أزمنة الحروب والاضطرابات والفوضى، يشيع مصطلح "السوق السوداء" الذي يقترن بندرة المعروض من السلع وارتفاع أسعارها، عبر عملية احتكارية منظمة قوامها الاستغلال، تقوم بها طائفة محدودة العدد من التجار ومعاونيهم، تحقق جراء نشاطها غير المشروع، على الصعيدين القانوني والأخلاقي، ثراء فاحشا بلا عمل حقيقي، أما الأغلبية الساحقة الفقيرة فتدفع الثمن فادحا، وتسقط في هاوية المعاناة والحرمان، وتزداد أوضاعها المعيشية تدهورا.
قرب نهاية العام 1945، بعد شهور قلائل من الإعلان الرسمي عن نهاية الحرب العالمية الثانية، يقدم كامل التلمساني فيلما بالغ الأهمية في تاريخ السينما المصرية، دون نظر إلى محدودية نجاحه الجماهيري. إنه فيلم مختلف يسبح ضد التيار السائد، ويشتبك بجرأة ووعي مع هموم ومعطيات الواقع المصري في سنوات الحرب.
الحلاق الشعبي الفصيح الأسطى هاشم، محمد كمال المصري، يحدد الطبقة التي تفيد من أجواء الحرب وتنتعش اقتصاديا:"إذا قامت حرب زي سنة أربعتاشر ورجع الغلا تاني.. انتو يا تجار اللي ها تغنوا وتنبسطوا".
أبو محمود، صاحب الطابونة، يستمع إلى ما يقوله الحلاق ويستعيذ بالله من شرور وأهوال الحرب، ويعلق بما يعبر عن طيبته ووداعته:"لا عنهم اغتنوا ولا انبسطوا.. دا الحرب موت وخراب ديار"، لكنه يتراجع سريعا عن مقولته هذه، ويصغي باهتمام إلى ما يقوله سيد البقال، عبد الفتاح القصري، عن ضرورة المبادرة السريعة بشراء وتخزين المتاح من سلع، بغية استغلالها في جني الأرباح الطائلة من الندرة المتوقعة.
عبر التجارة النشيطة في السوق السوداء، تتراكم الثروة الهائلة، وتبدأ حياة البذخ والرفاهية والانتماء إلى طبقة أثرياء الحرب الطفيلية، بكل ما يصاحبها من قيم وسلوكيات مختلفة عن السائد المستقر من قبل.
لم يكن أبو محمود قبل صعوده الطبقي إلا رب أسرة متوسطة صغيرة، قوامها الزوجة نبوية، ثريا فخري، والابنة نجية، عقيلة راتب، أما الابن محمود فيموت مبكرا ولا يبقى منه إلا الاسم الذي يحمله الأب. بملكيته للطابونة، ينتمي الرجل إلى المستورين من أبناء الطبقة الوسطى، لكن الطموح يراوده بعد كلمات البقال سيد الذي يتطلع إلى مشاركته والتعاون معه في تحالف يستثمر متغيرات الحرب. بالقليل المدخر من المال، مضافا إليه ثمن بيع مصوغات الزوجة، يتهيأ لاقتحام ساحة العمل في السوق السوداء:"اديني صيغتك يا نبوية.. كنوز الدنيا ها تنفتح اليومين دول.. وفيه حركة تجارية عظيمة قوي.. ها نرمي القرشين اللي حيلتي وأشارك بيهم سيد البقال.. وعاوزك تساعديني يا نبوية".
عند ظهوره الأول، يبدو أبو محمود مسكونا بالرضا والقناعة، مثله في ذلك مثل أبناء طبقته، سعيدا بخطوبة ابنته لحامد أفندي، عماد حمدي، الموظف الصغير ذي الراتب المحدود، لكنه يندفع مغامرا في رحلة الصعود إلى الثراء السريع، ويرضخ لطوفان التغيير ما ينعكس على ملبسه ولغته ورؤاه، فضلا عن أسلوب التعامل العنيف الفظ مع الحلاق صديق عمره. لا يتورع عن دفعه بقسوة ليسقطه أرضا، مبرهنا بفعلته هذه على الانسلاخ والتمرد على وضعيته القديمة، ذلك أن العلاقة حتمية بين التحول المادي ومنظومة القيم الحاكمة.
تتراوح مواقف وأفكار "أبو محمود" بين العنف والرقة، ولا يتبخر تأنيب الضمير الذي يطفو أحيانا ويتراجع في أحيان أخرى. ينساق مع تيار الحياة الجديدة فيتعالى متغطرسا وينغمس في اللهو، وعندما يفيق يهيمن الإحساس الطاغي بالأسى والندم كما يتجلى في حواره مع البقال المنتشي بتراكم الأرباح:
"- تعرف يا سي السيد.. الصناديق والبراميل والأشولة والصفايح دي.. اللي احنا مخزنين البضايع فيهم.. متهيأين لي إيه؟
- متهيأين لك إيه؟
- متهيألي.. كأن كل صندوق من البضايع دي نعش.. زي ما يكون نعش ميتين تمام.. وأنا مدفون في كل واحد فيهم".
اللوحة التي يرسمها صوت زكي رستم العميق المؤثر، في بساطة وعفوية تتمثل في وجه مهموم حائر، بمثابة التجسيد المكثف لآثار الحرب التي تتجاوز تداعياتها الأطر المادية التقليدية إلى آفاق معنوية ونفسية موجعة مدمرة، فهي لا تقتل البشر وتعصف بالبنايات فحسب، بل إنها أيضا ترهق الأرواح وتصنع الكوابيس وتعذب الضمائر التي تتشبث بالحياة ولا تستسلم للموت.
على الرغم من السعادة التي تسيطر على "أبو محمود" عندما تُخطب ابنته للموظف الصغير حامد، يتغير الأمر جذريا بعد صعوده وامتلاكه لثروة لم يكن يحلم بها. كانا قبل الحرب أقرب إلى الندية والتكافؤ، مع تفرد حامد بسحر الوظيفة، لكن الفارق الطبقي يتسع وينعكس على موقف ثري الحرب الذي يتسم سلوكه في موقعه الجديد بالتعالي والغرور، وإذ يقود خطيب الابنة حملة ضد المحتكرين من غيلان السوق السوداء، المتاجرين بأقوات الشعب، يتصاعد التوتر والصدام فتُفسخ الخطوبة، ومع سقوط "أبو محمود" قرب نهاية الفيلم، يعود التوازن مجددا، ويدفع المحتكر الجشع ثمن صعود قوامه السلب والنهب والاستغلال.
يبدع زكي رستم في تقديم الشخصية المركبة التي تجمع بين الخير الأصيل والشر الطارىء، وتعاني من عذابات تأنيب الضمير والشعور بالإثم مع العجز عن الحسم والتراجع. ثمة مشهد قصير يبرهن على وعي الممثل القدير بأبعاد ومكونات الشخصية التي يدرسها جيدا ويندمج في عالمها، فقبل أن يتخذ قراره بالاستجابة لإغراء سيد البقال والاتجار معه في السوق السوداء، يصيبه الأرق وهو يفكر حائرا، وليس إلا وجهه من أداة يعبر من خلالها عن الأزمة التي يكابدها وتشعل النار في أعماقه، لكنه من فرط الصدق والمعايشة ينقل هواجسه الكامنة إلى من يشاهده، كأن صمته كلمات مقروءة.
أبو محمود ليس شخصية أحادية التكوين، ولعل في المشهد الأخير حيث السقوط وانهيار المشروع كله، ما يعبر عن براعة رستم، فهو مع الهزيمة وما يترتب عليها بالضرورة من نتائج وخيمة، يبدو راضيا كأنه سعيد بالحسم ونهاية الحيرة وبداية استعادة الضمير.
 

** معلهش يا زهر **
صابر أفندي موظف تقليدي ورب أسرة متوسطة سعيدة، والبداية مع احتفاله بالعيد العشرين لزواجه، حيث تسيطر أجواء الفرح والمرح والرضا، والشقة الشعبية عامرة بالبهجة. موظف يقدس "الميري" ويعتز بكرامته، ويتقبل كل ما في الحياة من حلو ومر. الزوجة، ميمي شكيب، والابنة نجفة، شادية، والابن الطفل وفا، حمادة عبد اللطيف، والخادم التي هي جزء من الأسرة، وداد حمدي، والجار البقال خفيف الظل، عبد الفتاح القصري، وابنه الذي يعشق نجفة ويحلم بالزواج منها، كارم محمود؛ هم مفردات العالم الشعبي البسيط البعيد عن التعقيد، وفي القلب من هؤلاء جميعا يتوهج زكي رستم بحضوره العملاق، فلا يملك من يراه إلا أن يجزم بأنه موظف من سلالة موظفين، وأفندي قح لا يختلف عن آلاف يشبهونه في أربعينيات القرن العشرين.
على الرغم من آفات ومثالب الموظفين الذين يعمل صابر في منظومتهم، حيث التآمر والنفاق والإهمال والكسل والولع بالروتين، يؤمن الرجل أن الموظف هو النموذج المنشود والمثل الأعلى الذي يُقتدى به، ومن هنا يرفض بإصرار زواج ابنته من ابن البقال، ويقول لجاره معتذرا ومبررا موقفه:"المسألة مسألة مبدأ.. أنا عايز أجوز بنتي لواحد يكون موظف زيي".
الانتصار للوظيفة والموظفين لا ينبع من فراغ، ويقترن بالمزايا التي تتوافق مع آلية تفكير الطبقة الوسطى خلال المرحلة التاريخية، الذين يحلمون دائما بالأمان والاستقرار، ويراهنون على الدخل الشهري الثابت المضمون، والمعاش بعد التقاعد، أما الأعمال الحرة فهي وفق تعبير صابر:"أرزاقها حرة!".
يتوهج القدير المتمكن زكي رستم في تجسيد شخصية الموظف التقليدي المسالم المسكون بالرضا، القادر على التعايش مع الهموم والأزمات المادية بلا توتر أو تذمر. النجاح في الإمساك بمفاتيح الشخصية لا يقتصر على الجوانب الشكلية المباشرة وحدها، الملابس وأسلوب الحركة والتحكم في تعبير الوجه، لكنه يتجاوز ذلك إلى الأعماق التي تفرز هذا كله. يتجسد الأمر بوضوح في الحوار مع المفتش العام زهير بك، سراج منير، الذي تربطه صداقة قديمة بحكم الجيرة مع زوجة صابر. يزورهما في الشقة البسيطة، ويتناول معهما طعام العشاء، ولا يخفي إعجابه بطبيعة الحياة الهادئة الهانئة للأسرة المصرية المكافحة:
"- حياة الأسرة المصرية الصميمة اللي هي عماد البلد.. إلا لا مؤاخذة.. انت ماهيتك كام؟
- اتنين وعشرين جنيه لا غير يا بيه.. شيل منهم الضريبة والدمغة والمعاش.. يتبقى تمنتاشر جنيه بس..
- تمنتاشر جنيه؟!.. وقادر تعيش بيهم إزاي الأيام دي؟
- أهي مستورة والأشيا معدن والحمد لله.. شهر يزيد جنيه.. شهر ينقص جنيه.. أهو كله زي بعضه..
- غريبة.. أنا أعرف ناس مش قادرة تعيش بتلتمية.
- تلتمية؟!.
- سعيد على كده؟
- رضا والحمد لله.. الزوجة الوفية عندي.. والأولاد عندي.. وإن كنت بأشعر في آخر كل شهر بشيء من الضيق.. لكن زيي زي الناس".
أسرة صابر أفندي نموذج متقن البناء في التعبير عن الأسر المصرية الصميمة، البعيدة عن الثراء وحياة الترف بعدها عن الفقر المدقع والفاقة. "مستورون"، بالتعبير الشعبي الشائع، يرفعون شعار الرضا، ويجمعون في مسيرتهم التي لا تخلو من المشقة بين الألم والأمل. التماسك سر الصمود، وتقديس فكرة العائلة جوهر النجاح، وتتجلى عبقرية زكي رستم في أسلوب أدائه للمشهد القصير عبر عفوية تقتحم القلوب، أدواتها صوت دافىء موغل في الصدق، ووجه طيب مشرق لا ذرة فيه من الافتعال في انفعالاته، وبشاشة روحية تجسد خلاصة فلسفة الرضا.
على الرغم من الطابع المرح البسيط للفيلم، الذي يترجم حياة الطبقة الوسطى ببراعة غير مسبوقة، فإنه يتضمن رسالة بالغة الأهمية عن الصراع المحتدم الذي يشهده المجتمع المصري بين قيم الوظيفة التقليدية وأفكار العمل الخاص، مع الانتصار في النهاية للنشاط الاقتصادي الحر، الذي يعود بالخير على الأفراد والمجتمع، ويفجّر طاقات الإبداع والعطاء.
إلى ما قبل النهاية بقليل، يتشبث زكي رستم بشخصية الموظف المصري الذي يراهن على عالم الوظيفة وسحر الاستقرار وتجنب المغامرة. يأبى إلا أن ترتبط ابنته بموظف ماسخ التكوين محدود الراتب، رافضا زواجها من ابن البقال الثري، ذلك أنه يعمل في التجارة ولا يحوز المؤهلات التقليدية اللازمة لبناء أسرة. يرحب صابر أفندي بالموظف ثقيل الظل، محمد عطية، الذي يتعامل مع الزواج كأنه عمل وظيفي، وينفق ساعات يومه في القيام بمجموعة من الواجبات الاجتماعية!. يرى فيه صابر أفندي عريسا مثاليا، يتسلح بكل الصفات التي ينشدها في زوج ابنته!.
لا تدوم نغمة الاستقرار الوظيفي، فثمة تحول مهم يدفع صابر أفندي إلى التخلص من أفكاره القديمة المحافظة. يستقيل من الوظيفة ليندمج في عالم التجارة شريكا لجاره البقال، ويربح أضعاف أضعاف ما كان يتقاضاه في العمل الوظيفي.
مع نهاية الفيلم، يحرص الموظف المتمرد على تحقيق التوازن، فهو لا يرفض الوظيفة بشكل مطلق، لكنه يرى المستقبل الأفضل رهينا بالعمل الإيجابي والإدارة الفاعلة والنشاط الاقتصادي المستقل الذي لا يرتمي في أحضان الحكومة وينتظر عطاياها.
مسلحا بالبساطة والعفوية والمعايشة العميقة للشخصية وتحولاتها، يقدم زكي رستم أحد أبرز أدواره السينمائية، مبدعا في التعبير عن عالم الطبقة الوسطى الصغيرة كأنه من أبنائها المخلصين الذين لا يعرفون إلا منظومتها السلوكية والأخلاقية.
 

** قلبي على ولدي **
يقضي طاهر سنوات العقوبة في السجن، ويقترن ظهوره الأول بالصلاة مع السجناء والاستماع إلى موعظة دينية من أحد الشيوخ، إبراهيم عمارة، موضوعها عن التوبة ورحمة الله الواسعة. تنم ملامح وجه زكي رستم، الذي يستمع ويدعو في خشوع، عن الاستغراق العميق الذي يهيىء لاستدعاء الماضي وتلخيص الرحلة التي تصل به إلى المصير التعيس.
كان طاهر موظفا ورب أسرة متوسطة، يتورط في علاقة عشق مع الراقصة اللعوب سهام، سميحة توفيق، ومن المنطقي أن تستنزف موارده المالية المحدودة فيختلس للإنفاق عليها، فضلا عن إهماله للأبناء والزوجة رتيبة، أمينة رزق. يعود إلى بيته متأخرا ثملا كالعهد به بعد التحول، ويزعم أنه عائد من العمل، وعندئذ تصفعه كلمات الزوجة الساخطة بالحقيقة التي يتجاهلها كأنها السر المخبوء الذي لا تعرفه:"ما فيش داعي للكدب.. انت كنت عند البنت اللي اسمها سهام".
يتطور الشجار بينهما فتطرده من بيت الزوجية، ويأتي رده العنيف في صورة صفعة يوجهها من فرط الانفعال الغاضب، وكلماته الأخيرة قبل المغادرة:"لما نشوف مين فينا اللي ها يندم".
يعود إلى عشيقته فيجدها في أحضان عشيق آخر، ويستمع إلى ما يقوله عنه الشاب في سخرية لاذعة:"المغفلين اللي زي طاهر يعيشوا حمير ويموتوا حمير!".
عراك قصير يفضي إلى جريمة القتل والسجن، واقتراب الإفراج عنه بعد انقضاء فترة العقوبة لا يعني شيئا ولا يضفي البهجة، فإلى من يعود بعد الظفر بالحرية؟. يقول لشيخ مسجد السجن:"أرجع أقولهم إيه؟.. أقولهم استقبلوا تحت سقف بيتكم جاني اتبرا منه المجتمع؟.. أقولهم افتحوا دراعاتكم لمجرم جاي يوصمكم بعاره!".
الماضي المشين الحافل بالآثام يحول دون العودة إلى الأسرة والاندماج في عالمها مجددا، والمستقبل القريب بعد مغادرة السجن لا ينبىء بجديد يمنح السعادة والأمل، ذلك أن الاتفاق مع الزوجة بعد ارتكاب الجريمة يرسخ فكرة القطيعة التي لا تواصل بعدها:"هما ما يعرفوش إن ليهم أب في السجن.. أنا بعد ما ارتكبت اللي ارتكبته.. رجعت البيت قبل ما أسلم نفسي للعدالة.. وحلفت أمهم بأعز ما عندها إنها تفهمهم إني مت".
يبدع زكي رستم، وجها وصوتا وإيقاعا حركيا، في التعبير الصادق المقنع بالغ البساطة عن معاناة السجن من ناحية وعن عذابات الحسرة والندم التي تسكنه وترهق روحه من ناحية أخرى. يكشف الأداء المنضبط الذي يخلو من المبالغة والإسراف الانفعالي عن مشاعر أبناء الطبقة الوسطى الذين يقدسون الانتماء العائلي، ولا بد لهم أن يدفعوا الثمن الفادح عند السقوط الإرادي جراء الانحراف والانقياد للشهوات المرذولة من منظور القيم الصارمة الحاكمة لأفكار الطبقة وسلوكها.
الفكرة التي يقدمها الفيلم نمطية مكررة مستهلكة في أفلام كثيرة يزدحم بها تاريخ السينما المصرية، والمبالغة في الاعتماد على المصادفات الغرائبية غير المنطقية في بناء الحدث وتطوره، مشترك بين الأغلب الأعم من المعالجات التقليدية ذات النبرة الوعظية الميلودرامية الزاعقة، لكن سيناريو "قلبي على ولدي" يفوق غيره من الأفلام في بنائه الركيك المتهافت وفجاجة التحولات التي لا يسهل تصديقها واستيعابها.
بعد الخروج من السجن، يعود طاهر إلى الحياة فقيرا لا يملك إلا القليل من الجنيهات، يتسلمها من إدارة السجن ويأبى أن يعدها ويراجعها. بصوت شجني مرهق مليء بالوجع والحسرة، يتحكم الممثل القدير في إيقاعه بمهارة، تتجسد خلاصة الأزمة المعقدة التي لا توحي بانفراج قريب:"أعد إيه؟.. دا شقا سنين.. سنين طويلة.. عد انت العمر اللي فات من عمري عندكو".
في المشاهد ذات الطابع الفردي بلا مشاركة من الآخرين، حيث مناجاة النفس ومواجهة الذات المأزومة المسكونة بالألم، يندمج زكي رستم ويحلق بإتقان عفوي فذ لتجسيد ثلاثية الجريمة والعقاب والندم، ويتسم انفعاله بالتوهج المؤثر الذي يتجنب السقوط في شرك المبالغة التي تتيحها وتشجع عليها كلمات الحوار ذات الصياغة الزاعقة التي تخاطب قطاعات من جمهور المشاهدين، يستمتع بالمآسي المصنوعة ويصدق ما فيها من خوارق، لكن: ما الذي يملكه الممثل الكبير عندما يواجه الآخرين ويحاورهم ويُطالب بالتفاعل معهم في مواقف غرائبية ساذجة، ما يجعل الاندماج والتعايش فعلا عسيرا؟. من ذلك ما نجده عندما تقوده المصادفة إلى اللقاء مع ابنته الطفلة بسيمة، هيام يونس، وتصر على اصطحابه إلى البيت فيرى صورة الزوجة والأبناء. الموقف مشحون بالتوتر لو أنه يتحقق عبر بناء فني متماسك قابل للتصديق، لكنه ليس كذلك، ومن هنا يبدو أسلوب أداء رستم مزيجا من محاولة الانفعال الصادق والعجز عنه.
الأمر نفسه يتكرر عند زيارة طاهر للزوجة في المستشفى، وهي معصوبة العينين لا ترى. لا غرابة أو نشاز في أن تعرفه من صوته، لكن المثير للدهشة بحق ما يتبادلانه من حوار بارد مصنوع:
"- أنا جاي أستسمحك يا رتيبة.. لكن إزاي بعد اللي عملته ها تسامحيني؟
- أنا سامحتك من زمان يا طاهر.
- أنا بأدفع التمن.. لكن انتِ.. انتِ ذنبك إيه؟".
لا يمكن أن يكون الحوار الأول بين الزوجين، بعد سنوات طويلة من الغياب، على هذا النحو من السذاجة والافتعال. الارتباك يمثل تحديا لا مهرب منه للممثل القدير عظيم الموهبة، فلا شك أن الأمر لا يروقه. كيف يستثمر موهبته وإمكاناته للتعبير عن موقف لا يرضيه ولا يقنعه؟.
تسيطر التحولات الغرائبية المفتعلة على الفيلم حتى نهايته، ومن هنا يتأرجح أداء زكي رستم بين الاجتهاد للتعبير السلس المعهود، والتعثر في مواجهة ضعف السيناريو وركاكة الحوار.
 

** موعد مع إبليس **
الأغلبية العظمى من الأطباء المصريين، في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ينتمون إلى الشريحتين العليا والمتوسطة من الطبقة الوسطى. المهنة راقية متميزة ذات بريق على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وتتيح لممتهنيها التمتع بحياة هانئة مستقرة، إن لم تعانق الثراء فلن تهبط إلى الفقر، لكن الدكتور رجب لا يختلف في حياته المتواضعة الحافلة بالمعاناة عن الشرائح الدنيا من الطبقة.
العيادة في حي الحسين الشعبي، والإقبال محدود على الرغم من كفاءة الطبيب ومتابعته لكل جديد في الساحة العلمية للمهنة. أرمل في منتصف العمر، يرعى ابنته نادية، كاريمان، وشقيقها الطفل عادل، سليمان الجندي، وابن أخيه منير، منير مراد. الشقة التي يقيمون فيها بسيطة في  مساحتها وأثاثها، وليس أدل على تفاقم الأزمة المادية من أن المطالب العادية المشروعة للطفل، شراء دراجة، تبدو عسيرة يصعب تحقيقها، وتركيب التليفون في العيادة يفوق القدرة، بل إن المحضر يوقع الحجز على أدوات العيادة جراء التعثر في تسديد الأقساط المستحقة.
بملابسه المتقشفة ووجهه المسكون بالهم والتوتر ولغة الجسد المنهك؛ يعبر زكي رستم عن طبيعة شخصية الدكتور رجب، المأزوم المؤمن برسالة الطب السامية، لكن إنسانيته هذه، كما يقول في نبرة تجمع بين السخرية والمرارة، لا تغني عنه شيئا:"إنسانية من جانب واحد بس!".
التفوق العلمي وحده لا يصنع طبيبا ناجحا على الصعيد الاقتصادي، والمبادىء الإنسانية التي تقترن بالطب لا تنفي أن المهنة خاضعة لقوانين السوق التي تتجاوز المهنة، وإذ يقترح التمورجي، عبد المنعم إبراهيم، فكرة الانتقال إلى "وسط البلد"، حيث تتزايد فرص النجاح والكسب المادي، يتساءل الطبيب بصوت واثق دال يقدم شهادة اجتماعية موجعة:"انت عارف العيادة في سليمان باشا إيجارها كام؟".
يبدع زكي رستم في الإمساك بمفاتيح الشخصية المركبة متعددة الأبعاد، حيث التحالف بين سوء الحظ والشعور الضاغط المدمر بالسخط والإحباط، وصولا إلى الوقوف على حافة اليأس بكل ما يترتب عليه من تداعيات. ما جدوى التمسك بقيم الخير والمثاليات جالبة الفقر؟!:"أنا بقالي عشرين سنة وأنا ع الحال ده.. بأشوف عمارات تتبني قدام عينيا من المهنة دي نفسها.. عمارات عظيمة.. ومش بس مش قادر أبني زيها أو أقل منها.. مش قادر حتى أسكن فيها".
مع الوصول إلى محطة المراجعة التي تنم عن الندم، يظهر إبليس، محمود المليجي، باسم "نبيل"، ويقود انقلابا ماديا يصعد به رجب سريعا إلى القمة: السكنى في فيلا، تغيير السيارة المتهالكة بأخرى فارهة، الشهرة المدوية التي تزدحم معها العيادة وتتراكم الأرباح. على الرغم من الصعود الصاروخي، يحتفظ زكي رستم في أدائه المحسوب بسمات الشخصية القديمة التي تتمسك بالبساطة والمشاعر الإنسانية الدافئة، فضلا عن الحب غير المحدود لأفراد عائلته الصغيرة، الابن والابنة وابن الأخ.
الطبقة الوسطى، بشرائحها المختلفة، حافظة القيم والمسئولة عن تحقيق التوازن الاجتماعي الذي يصنع الانسجام بين الثنائيات ذات الظاهر المتنافر، وفي هذا الإطار يؤمن رجب، نظريا وعمليا، أنه لا تعارض بين العلم والإيمان. قد يضيق بأوضاعه السيئة المتردية فيحتد ويسخط، لكنه لا يسقط في مستنقع الكفر والاعتماد على المعطيات المادية وحدها، وليس مثل الممثل العملاق في قدرته على تجسيد المشاعر التي تبدو متعارضة في مرحلتي الهبوط والصعود. الذروة مع مرض الابن، الذي يكتشفه رجب قبل أن تظهر أعراضه، مسلحا بالقوة الشيطانية التي تؤازره. لا يتردد في الإعلان عن استعداده للتضحية بكل ما يملك لإنقاذ ابنه، دون تفكير في الصفقة التي يعقدها مع إبليس. يقول للأطباء الذين يستعين بهم:"أنا عملت ثروة كبيرة جدا.. ومستعد أضحي بيها كلها في سبيل حياة ابني".
تنبىء المؤشرات جميعا عن عجز الطب في مواجهة الحالة المرضية، فهل يفلح الشيطان في إنقاذ الابن والحيلولة دون موته؟. اللجوء إلى نبيل بلا مردود، والأمل الوحيد معقود على الله.
مبارزة تمثيلية رفيعة المستوى بين رستم والمليجي، لكن الخلل في السيناريو ينعكس سلبا على أداء الممثلين الكبيرين، ذلك أن النبرة الوعظية المباشرة في الصدام الأخير بينهما لا تبدو مقنعة مشبعة، والتحول إلى الله على النحو الذي يقدمه الفيلم، وكأنه اكتشاف لحقيقة مجهولة، يفرض نمطا من الأداء يشعر المشاهد معه أن زكي رستم نفسه لا يقتنع به!.
لا يمكن القول إن الدكتور رجب امتداد لصابر أفندي في "معلهش يا زهر"، لكن أوجه التشابه بينهما قائمة. كلاهما يعبر عن شريحة من الطبقة الوسطى، التي تتراوح مواقع أبنائها بين الصعود والهبوط، ويبقى الولاء دائما لمبدأ التوازن والحفاظ على القيم الاجتماعية والأخلاقية.
 

** الهاربة **
الحاج صالح سليمان عمدة من أعيان الريف، يعبر بالضرورة عن منظومة اجتماعية وثقافية ذات توجه أخلاقي محافظ. يقترن ظهوره الأول في أحداث الفيلم بأداء فريضة الصلاة، علامة التدين والورع، واللهجة التي يتكلم بها ريفية محببة ذات نبرة مسكونة بالطيبة والرقة والحنان. أرمل وأب لزينب، شادية، وفاطمة، كاريمان، وتعيش معهم الدادة التي تقوم بدور الأم البديلة، فردوس محمد.
تأمل زينب في موافقة أبيها على مطلب تدرك صعوبة الاستجابة له؛ الالتحاق بالجامعة في القاهرة والإقامة مع إحدى قريبات أمها. جدية زكي رستم في التساؤل الاستنكاري الذي يوحي بالرفض الصارم:"جامعة؟!.. انت اتجننتِ يا زينب؟"، لا تزيح مشاعر الحب والحنان، لكنها تؤكد تشبثه برؤى ذات منطق وجيه متماسك، تليق بالبيئة الريفية المحافظة التي ينتمي إليها أثرياء الريف من أعمدة الطبقة الوسطى:"انتِ اتعلمتِ لحد كده وكفاية.. الجامعة دي للي عايزه تتوظف.. تشتغل"، وصولا إلى طرح السؤال الجوهري الدال على غياب الاحتياج الاقتصادي:"هو احنا محتاجين لشغل؟!".
يعي زكي رستم، في قراءته ودراسته للشخصية، أن الحاج صالح ليس رجلا رجعيا متعنتا متنطعا يخاصم روح العصر ومتغيراته، وفي نبرات صوته ابتعاد واضح عن إدانة المتعلمات المتطلعات إلى العمل. الغاية من التعليم عنده تتمثل في الكلمات التي يعبر من خلالها عن مفهوم مستنير في إطار التمسك بالتقاليد والقيم الموروثة:"أنا وديتكو المدارس علشان تتعلموا تقرم وتكتبم وتتنورم وتفهموا الدنيا".
قد يكون الاختلاف قائما ومبررا مع رؤيته هذه للتعليم وأهدافه، لكن التصور الذي يقدمه جدير بالتقدير والاحترام والاستيعاب، فهو يجتهد للجمع بين الجديد والموروث بلا صدام، والمنهج نفسه هو المتبع في التصور الذي يؤمن به عن الزواج. يقينه راسخ بقدرته على اختيار الزوج المناسب الذي لا يمكن رفضه أو التقليل من شأنه:"أنا قريت فاتحتك دلوقتي على العريس اللي تتمنيه.. اللي يقدر يسعدك".
ابن العم عبد العليم، عبد العليم خطاب، عريس مثالي جدير بالإعجاب، وبصوت زكي رستم المليء بالصدق والثقة فإنه يمتلك كل المؤهلات والمواصفات المثالية التي تجعله حلما لكل فتاة في المجتمع المحلي:"راجل له قيمته ومركزه في البلد.. يعرف يصون شرفك وكرامتك.. وفوق كده ابن عمك"، ثم يضيف كأنه يستكمل حيثيات اختياره الناجح الموفق:"أخلاق عالية.. استقامة.. واجتهاد في العمل.. دا ثروته قد ثروتي مرتين".
يتألق زكي رستم في المعايشة المثالية لشخصية الأب الريفي الطيب المستنير غير المتعنت، بقدر ما هو متدين أخلاقي محافظ متمسك بالتقاليد في الوقت نفسه. الزي والصوت واللهجة والوعي بالكامن في الأعماق، أدوات تقود الممثل الكبير إلى الاندماج البعيد عن الافتعال والتصنع، ومن البدهي أن يمثل هروب الابنة صدمة مروعة تنعكس سريعا على السمات القائمة قبل الواقعة الكفيلة بزلزلة كل راسخ مستقر. بصوت حزين متهدج، يقرأ الرسالة التي تتركها الابنة الهاربة لشقيقتها، وتتجلى روعة الأداء في القدرة اللافتة على ترجمة الغليان الداخلي إلى إيقاع حركي مهتز مرتعش، كاشف بطريقة غير مباشرة عن مشاعر الحيرة والذهول والعجز عن الاستيعاب والتصديق.
الانهيار بفعل صدمة الهروب يشكل شخصية مغايرة، مكوناتها الإرهاق والضعف وهيمنة الشيخوخة المباغتة التي لا تقتصر على الجسد وحده، لكنها تمتد أيضا إلى الروح فتدمرها. في كلماته لابن أخيه، ما ينبىء عن وقع أزمة لا متسع فيها لكثير من المفردات:"زينب هربت يا عبد العليم".
هروب فتاة تنتمي إلى أسرة ريفية مرموقة بمثابة العار والفضيحة والكارثة المدوية التي تسيء إلى سمعة العائلة، والإهانة تطول الأب وابن العم معا، لكن عبد العليم الشاب هو الأكثر حيوية والأقدر على مطاردة زينب وغسل العار، ما يعني القتل. مشاعر التردد والاضطراب التي تعلو وجه زكي رستم، تكشف عن صراع عنيف محتدم بين الحب الذي لم يتبخر للابنة، والالتزام بالواجب الذي هو قدر حتمي لا يمكن التملص منه. يدرك الشاب ما يعتمل في أعماق عمه من حيرة، فيتساءل في استنكار:
"- ليك رأي تاني؟".
ويرد الأب المهزوم المأزوم كأنه يتخلص من الهواجس التي تعذبه:
"- لا يا عبد العليم.. لا.. أنا فوضتلك الأمر.. اعمل اللي انت عايزه".
يفشل عبد العليم في الوصول إلى ابنة العم الهاربة، ويعجز الحاج صالح عن التوافق مع الأزمة الخطيرة، والذبحة الصدرية التي تصيبه مرض مزمن يلازمه حتى الموت. يعيش ذابلا منكسرا، يعبر بالوجه المتعب والجسد العليل عن تحالف مدمر بين مرضيْ الجسد والروح معا.
 

** أعز الحبايب **
لا يختلف إبراهيم عن سابقيه من أرباب الأسر المتوسطة، فهو موظف متواضع المكانة في شركة حافلة بالخلل الذي تغيب معه معايير الإنصاف والعدالة. لا يحصل على الترقية المستحقة، ويقول لزوجته، أمينة رزق، في مرارة تمتزج بقلة الحيلة والاستسلام الاضطراري:"ادوها لواحد تاني يا ستي.. متعين بعد مني بسبع سنين.. وأصغر مني بعشر سنين".
الحياة محتملة على الرغم من التحديات المادية التي لا يُستهان بها، ذلك أن الزوجة المثالية الطيبة تتفانى في البذل والعطاء للزوج والأبناء، عبد الله ومختار وسعاد، لكن المناسبات التقليدية الدورية تمثل أزمات عصيبة تستدعي الشكوى والتذمر. شراء ملابس العيد للأطفال عبء ثقيل يتجسد في كلمات مكثفة صادقة موجعة تنم عن الاختناق والإرهاق والعجز المخجل عن تحقيق الأحلام الصغيرة:"هي الأعياد بتسابق بعض!.. دا أنا متهيألي إن العيد الصغير كان أول انبارح.. وآديني لسه بأسدد في ديونه".
تعبيرات وجه زكي رستم، فضلا عن ملابسه وطبقة صوته وإيقاع حركته المسكون بالتعب، يكشف عن وعيه العميق بجوهر المعاناة التي تتصاعد وتزداد معها الحياة تعقيدا وصعوبة. الابن الأكبر عبد الله، نور الدمرداش، ينهي تعليمه ويعمل، لكنه أناني لا يفكر إلا في نفسه، ولا يخصص شيئا من مرتبه لدعم الأسرة، والابن الثاني مختار، شكري سرحان، طيب حنون مرح يتخرج في كلية الهندسة وتنعقد عليه الآمال، أما الفتاة الوحيدة سعاد، سهير الباروني، فتحاصرها أشباح العنوسة وفق معايير المرحلة التاريخية، ويصل بها القلق والتوتر إلى الانهيار النفسي الذي يتطلب علاجه تكاليف باهظة تفوق الإمكانات المحدودة لرب الأسرة. لا يملك إبراهيم أجر الزيارة المنزلية للطبيب، وكم يبدو ارتباك الممثل القدير صادقا مقنعا وهو يدفع له القليل المتاح في خجل. كيف له إذن بمواجهة أعباء الدواء ومراحل العلاج المختلفة؟. لا أمل في الحصول على سلفة من الشركة، والاستدانة بالغة الصعوبة ولا تمثل حلا، وتصل المحنة إلى ذروتها مع تفاقم مرض سعاد وحتمية دخول المستشفى. يتحول الاختناق إلى جحيم، يهيىء لسقوط إبراهيم في براثن صاحب القهوة المعلم خليفة، حسن البارودي، تاجر المخدرات الذي يبحث لبضاعته عن مخبأ آمن، وليس مثل الموظف البعيد عن الشبهات للقيام بالمهمة الخطيرة ذات العائد المجزي.
يتألق زكي رستم في تجسيده لمشاعر الرفض القاطع الذي يتحول بفعل الاحتياج إلى تردد يوحي بالاقتراب من القبول الاضطراري. من البدهي أن يقوده العمل الجديد المحفوف بالمخاطر إلى التوتر والاضطراب الذي ينعكس على سلوكه. يعي الممثل المتمكن أبعاد الموقف العصيب المعقد الذي يواجهه إبراهيم، وانفلاته العصبي نموذج فذ لفن الأداء الذي لا يعتمد على الإسراف الانفعالي غير المحسوب. أبناء الطبقة الوسطى، كما يعبر زكي، مسكونون بالخوف المزمن والرغبة في الستر، والشروع في التوبة والتراجع عن الأخطاء والخطايا هو المطلب الأول الذي يسعون إليه بحثا عن العودة إلى خندق الاستقرار والرضا، لكن الوقوف على عتبات النجاة يتبخر فجأة باقتحام الشرطة للشقة، وعندئذ يضحي الابن الطيب مختار لينقذ سمعة أبيه، وبعد الحكم عليه بالسجن يسقط إبراهيم مريضا ويهرول سريعا إلى الموت.
باختفاء الأب رب الأسرة، قرب منتصف أحداث الفيلم، تئول البطولة إلى الأم التي تتعرض لعواصف تطيح بالتماسك والاستقرار، فأي مصير ينتظر الطبقة الوسطى في مصر؟.
 

** أنا وبناتي **
محمود عبد الفتاح موظف تقليدي كلاسيكي من أرباب أسر الطبقة الوسطى التي توشك على الانهيار والسقوط في دوامة التحولات الاجتماعية التي تطيح بمكانتها القديمة. أرمل يتحمل مسئولية بناته الأربع اللاتي في سن الزواج، آمال فريد وزهرة العلا وفايزة أحمد وناهد شريف، ولكل منهن خصوصيتها وتفرد شخصيتها. لأنه ابن مخلص للطبقة ذات التراث العتيد الذي تتشبث به وتحافظ عليه، فإن الأب المحافظ لا يهيئهن للعمل واقتحام الحياة، قانعا بالوظيفة ذات العائد المادي المحدود، قبل أن يصل إلى سن التقاعد فتتضاعف الهموم المادية والنفسية على حد سواء.
يتألق زكي رستم في المشاهد القليلة التي يظهر فيها موظفا مهموما تعتمل في أعماقه أزمات متراكمة لا يملك أن يواجهها ويتجاوزها، ولا يستطيع أيضا أن يهملها. يزداد تألقا في مشهد قراءة الخطاب الرسمي الذي ينبىء بلغة جافة غليظة عن وصوله إلى محطة المعاش. يتساءل وجهه المسكون بالحيرة، قبل الكلمات التي يرددها في أسى وحسرة: كيف يهرول العمر هكذا؟!، أما رحلة البحث المضني عن عمل لمواجهات التحديات فتكشف عن الأزمة الخانقة، المنطقية المبررة، التي يواجهها أصحاب الوظائف الكتابية التافهة، الذين لا يملكون من الخبرات والمهارات ما يؤهلهم للعمل، فلا احتياج لهم ولا إضافة حقيقية يقدمونها.
مع السابقين له إلى التقاعد من رفاق القهوة، المعلم المكاني البارز في حيوات الموظفين من أبناء الطبقة الوسطى، يتوهم محمود العثور على بارقة أمل في النجاة، مستجيبا إلى ما يقوله صديقه جابر، علي كامل، الذي ينصحه باستثمار مكافأة نهاية الخدمة في مكتب تجاري يقدم عائدا شهريا مجزيا، يضمن الاستقرار والتوازن المادي بلا عمل.
يتوهج زكي رستم في التعبير عن فرحته العارمة وهو يزف إلى بناته المتلهفات خبر الاستثمار الذي يظنه سعيدا مؤذنا بنهاية القلق والخوف من المستقبل، وليس مثل أدائه صامتا بلا كلام، وهو يستمع إلى غناء ابنته، فايزة أحمد، في "بيت العز يا بيتنا". إشارته بيديه يدعوهن إلى الالتفاف حوله، الإحاطة به وعلامات الرضا والسعادة تعلو وجهه المرهق المهيأ للراحة، أسلوبه في التصفيق الطفولي المرح وهو الجاد الوقور الذي لم يعتد سلوكا كهذا، نظرات التجهم والاستياء التي يوجهها لابنته عندما تسرف في الاندماج وتتجاوز الحدود المسموح بها في الغناء، حبات العنب التي يطعمها بيده لبناته تجسيدا عفويا لمفهوم "اللمة" ومعنى الدفء الأسري الذي تعمر به بيوت الطبقة الوسطى، استعاذته بالشيطان الذي هو كل شبح غامض مجهول يهدد بساطة الحياة التي لا تحتمل الصدمات والتحولات المروعة، وصولا إلى رحيل الفتيات السعيدات لإنفاق منحته السخية المستقطعة من المكافأة التي يودعها إلا القليل منها في المكتب التجاري؛ المكتب الذي يحترف النصب والاحتيال ويصل بأسرة الموظف المتقاعد إلى السقوط في هاوية الضياع الكارثي.
لا يحتمل محمود صدمة اكتشاف تشميع المكتب التجاري الذي يودع فيه كل ما يملك، ويسقط جراء اللعنة التي يواجهها ويتخيل تبعاتها فتنكسر قدمه بعد انكسار أحلام الأمان. تتفاعل البنات الأربع مع الأزمة، كل بطريقتها التي تتوافق مع طبيعة شخصيتها، أما الأب فيواجه صدمة الضياع وقوفا على عتبات التسول وامتهان ما لا يليق بمكانته الاجتماعية القديمة والتقدم في العمر. إنها بوادر انهيار الطبقة صانعة التوازن والقيم في المجتمع المصري، فبعد أن كانت نموذجا جديرا بالإعجاب في "معلهش يا زهر"، ينخرها السوس جراء الاستسلام للنزوات والمغامرات غير المحسوبة في "قلبي على ولدي"، وتحاصرها التحديات التي تدفع إلى تقديم التنازلات والتفريط في الثوابت عبر التحالف مع الشيطان في "موعد مع إبليس"، وتهتز مع عواصف التحديث وغزو القيم العصرية في "الهاربة"، وصولا إلى السقوط في مستنقع تجارة المخدرات وهيمنة الروح الانعزالية وغياب الروابط الأسرية في "أعز الحبايب"، بل إنها على موعد مع الانتحار والتشرذم الشامل في "أنا وبناتي".
زكي رستم هو كل هؤلاء، كأنه الشاهد الأعظم على ازدهار وسقوط الطبقة الوسطى.

 

رابط الحلقة الأولى:

https://www.albawabhnews.com/4762572

 

رابط الحلقة الثانية:

https://www.albawabhnews.com/4766907