الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

مصطفى بيومى يكتب: الاندماج والقطيعة الشخصية اليهودية فى الرواية المصرية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إحسان عبد القدوس الأكثر اهتمامًا باليهود وعالمهم ولا تغيب معالجاته فى مسيرة إنتاجه عن مكانة اليهود فى مصر منذ الثلاثينيات إلى الثمانينيات فى القرن العشرين

المصريون اليهود جزء أصيل من نسيج الحياة اليومية وعنصر فاعل مؤثر فى تشكيل الخرائط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية والسياسية فى البلاد

ضرورة وأهمية التمييز الصارم الواعى بين «اليهودية» و«الصهيونية» و«إسرائيل» ذلك أن التداخل بين هذه المفاهيم يفضى إلى الارتباك واللبس

رؤية نقدية لكتابات ثلاثة من الروائيين المصريين نجيب محفوظ

 


عديدة هى الدراسات التى تتناول الوجود اليهودى فى مصر، وتلقى الضوء على مختلف جوانبه. تتأثر بعض هذه المعالجات بالصراع السياسى والأيدلوجى مع إسرائيل والحركة الصهيونية، ويتسم الكثير منها بالموضوعية والتحليل العلمى المحايد البعيد عن الإسراف الانفعالى العاطفى غير المحسوب، لكن الموقع الذى يحتله اليهود فى الرواية المصرية لا يحظى بالكثير من الاهتمام.
النصوص الروائية، دون نظر إلى قيمتها الفنية، ليست وثائق تاريخية يمكن الاعتماد عليها فى استنباط نتائج يُعتد بها، لكنها تنبىء عن الكثير من المؤشرات التى لا ينبغى إهمالها أو التغاضى عما تحمله من دلالات ذات أبعاد سياسية واجتماعية جديرة بالتأمل.
المصريون اليهود، واليهود الوافدون إلى مصر مقيمين فيها محتفظين بهوياتهم وجنسياتهم الأجنبية، على النحو الذى تقدمه الرواية المصرية، جزء أصيل من نسيج الحياة اليومية، وعنصر فاعل مؤثر فى تشكيل الخرائط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية والسياسية فى مصر.
ينتمى الروائيون المصريون، عبر أكثر من مئة عام، إلى مدارس فنية مختلفة واتجاهات سياسية متباينة، وإذا كان بعضهم يميل إلى التحامل والانحياز معبرًا عن أفكار ورؤى تعادى اليهود واليهودية من منطلق التعصب الدينى العنصرى، متأثرًا فى معالجته بالموقف السياسى السلبى من إسرائيل والصهيونية، فإن بعضهم الآخر يسرف فى التعاطف والمبالغة فى تجميل صورة اليهودى وإضفاء الطابع الرومانسى المثالى عليه، لكن الأغلبية الساحقة تتسم بالاعتدال والموضوعية، وتسعى إلى تناول متزن يقدم اللوحة فى سياق يخلو من التطرف الفج.
 


يتوقف هؤلاء الروائيون أمام جوانب متنوعة للتاريخ اليهودى، تتجاوز وجودهم فى مصر إلى تاريخهم القريب والبعيد، وينشغلون برصد وتحليل الدور الذى يقومون به فى الحراك الاجتماعى والنشاط الاقتصادى والصراع السياسى والإبداع الثقافى والفنى، ولا تغيب أيضا علاقاتهم العاطفية والجنسية مع غيرهم من أصحاب العقائد الدينية الأخرى. من البدهى أن يختلط الأمر مع الصراع العربى الإسرائيلى بعد الإعلان عن تأسيس الدولة اليهودية، بكل ما يترتب على ذلك من انقسام لافت داخل صفوف اليهود من ناحية وفى الموقف المصرى تجاههم على الصعيدين الرسمى والشعبى من ناحية أخرى.
 


لم يكن توزيع الأقلية اليهودية داخل مصر متوازنًا، ذلك أن الأغلبية الساحقة منهم تقيم فى القاهرة والإسكندرية، وهما المدينتان اللتان تحظيان بالاهتمام الأكبر فى معالجات الرواية المصرية، ويمكن القول إن الشهادة المقدمة عن يهود الإسكندرية ذات خصوصية وتفرد، بالنظر إلى أنها المدينة العالمية التى تتسع لاستيعاب واحتواء الثقافات والأعراق وأصحاب العقائد الدينية المختلفة دون تمييز.
من ناحية أخرى، تدور أحداث بعض الأعمال الروائية خارج مصر، ويعود بعضها الآخر إلى حقب تاريخية لا صلة مباشرة لها بالواقع الحديث والمعاصر، لكن هذه النصوص جميعا تتحرك فى إطار ثنائية «الاندماج» و«القطيعة"؛ الاقتراب والاندماج والتعايش السلمى فى مواجهة الصدام الذى يدفع إلى صناعة أجواء التوتر والاضطراب.
 


التوقف أمام الرؤى التى تقدمها الرواية المصرية عن اليهود، يكشف عن عدد من الملامح والسمات، أبرزها:
- النشاط الاقتصادى البارز لليهود فى مصر، ومهارتهم العملية النفعية التى تلعب دورًا مهمًا فى تشكيل صورة نمطية شائعة تميزهم عن غيرهم.
-الاختلاف الثقافى لليهود، بالمعنى الشامل لكلمة الثقافة، التى تعنى منظومة القيم والعادات والتقاليد التى تختلف عن ممارسات وموروثات الأغلبية المسلمة والمسيحية.
- غياب التمييز والقهر والاضطهاد، وهيمنة روح التسامح على العلاقات التى تجمع اليهود بغيرهم من مكونات الحياة المصرية.
- المشاركة السياسية المحدودة للمصريين اليهود، عبر الانتماء إلى حركات ومنظمات اليسار المصرى تحديدًا، أما النشاط الفنى فيختلف جذريًا ويشهد مشاركة إيجابية فى السينما والمسرح والموسيقى والغناء.
- ضرورة وأهمية التمييز الصارم الواعى بين «اليهودية» و«الصهيونية» و«إسرائيل»، ذلك أن التداخل بين هذه المفاهيم يفضى إلى الارتباك واللبس.
الدين اليهودى ليس موضعًا للخلاف ولا ينبغى أن يكون، أما الصهيونية فهى فكرة سياسية عنصرية جديرة بالرفض، وإسرائيل تجسيد عملى للفلسفة الصهيونية المتكئة على رؤى دينية يتم توظيفها لتبرير التوجه الاستعمارى التوسعى وإضفاء الصبغة الدينية ذات الجاذبية عليه، ويفضى هذا الاستثمار المدمر إلى اشتعال صراع تختلط فيه السياسة بالدين، وعندئذ يزداد التعقيد الذى لا ينبىء بنهاية قريبة فى ظل مشهد مضطرب مختل.
 


ما أكثر الروائيين المصريين الذين يتوقفون فى إبداعهم الروائى أمام الموقع الذى يحتله اليهود فى مصر وخارجها، ومنهم على سبيل المثال: فتحى غانم، إدوار الخراط، عبد الله الطوخى، بهاء طاهر، صنع الله إبراهيم، إبراهيم عبد المجيد، رضوى عاشور، يوسف زيدان، أشرف العشماوى، نادية كامل؛ ولأن المساحة لا تتسع للتوقف التفصيلى أمام هؤلاء وغيرهم، يمكن الاكتفاء بثلاثة منهم للكشف عن المؤشرات العامة: نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، كمال رحيم.
 


نجيب محفوظ
اللافت للنظر فى «خان الخليلى»، التى تدور أحداثها فى سنوات الحرب العالمية الثانية، أن أعضاء شلة الشاب رشدى عاكف من المقيمين فى حى السكاكينى، وعلاقة أحمد عاكف العاطفية المبكرة مع فتاة يهودية من الحى نفسه. التواجد الكثيف نسبيًا لليهود فى هذا الحى، تضفى عليه «سمعة يهودية» تدفع المسلمين من ساكنى منطقة الحسين، الحى الدينى الشعبى، إلى تبرير استثناء السكاكينى من المعاملة الخاصة التى يتعامل بها النازيون الألمان مع المسلمين ساكنى الأحياء الأخرى!
فى المخبأ، يدور حوار طويل بين الهاربين من جحيم الغارات الألمانية العنيفة، ويدافع أحدهم عن الزعيم النازى هتلر، الذى يُقال إنه يبطن الإيمان بالإسلام!، فيسأل آخر:
«فكيف ضُربت القاهرة فى منتصف هذا الشهر؟».
ويأتى التبرير والدفاع:
«ضُربت السكاكينى وهو حى غالبية سكانه من اليهود!»
تنحاز الأغلبية الشعبية إلى دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان، نكاية فى الإنجليز، ويصل التعاطف غير المنطقى إلى الدرجة التى تُبرر فيها الغارات على القاهرة لأنها تستهدف حيًا تسكنه أغلبية يهودية!.
المغالطة واضحة صريحة، لأن اليهود لا يمثلون أغلبية فى أى من أحياء القاهرة، والدلالة الأهم فى الدفاع تتمثل فى التأكيد على أن القطاع الأكبر من المصريين البسطاء محدودى التعليم والوعى لا يتعاملون مع اليهود على اعتبار أنهم جزء من النسيج الوطنى.
 


الدكتور سرور عبد الباقى، فى «المرايا»، أخلاقى مثالى، وواحد من أفراد شلة الأصدقاء المتناقضين المتنافرين. يضحك عندما يُذكر اسم الصديق عيد منصور، ويقول ساخرًا: «شيلوك!.. عليه اللعنة"!.
شيلوك هو الشخصية اليهودية فى مسرحية «تاجر البندقية» لوليم شكسبير، ويتحول إلى رمز عالمى سلبى لليهودى الشرير المرابى. عيد منصور مصرى مسلم، لكن اللقب الذى يطلقه عليه الدكتور سرور يتوافق مع جملة سلوكه وممارساته المفارقة للسائد المألوف بالنسبة للمصريين، مسلمين كانوا أم مسيحيين. أبوه تاجر عمارات يعمل مع اليهود طويلًا فى ساحة تجارة العقارات: «واكتسب الكثير من أساليبهم ومهارتهم»، وجاء الابن على مثال أبيه الموصوف بأنه كان بخيلًا دقيقًا فظًا جامد المشاعر. تترك المعاملات التجارية مع اليهود آثارها على شخصية عيد، الذى يرفع ويطبق شعارًا عمليًا يستمده من واقع خبراته وتجاربه: «لولا الإنجليز، لولا اليهود، ما كان لهذا البلد حياة"!.
هل يكره وطنه أم يحب مصالحه الشخصية؟. المسألة فى إيجاز: إن مصلحته هى وطنه، ولذلك يتخذ الموقف الغرائبى نفسه أثناء العدوان الثلاثى سنة ١٩٥٦ وما يتلوه من تداعيات وأحداث: «واختفى من الميدان كثيرون من أصدقائه اليهود.. حتى قال لى مرة:
- كم أتمنى أن أهرّب أموالى وأهاجر!.
ولما قرأ الوجوم فى وجهى قال:
- لم تعد مصر بالمقام الصالح للأذكياء!.
ثم ضحك ضحكته القاسية وقال:
- «لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا!»
الشعار الوطنى الرومانسى للزعيم مصطفى كامل جدير بسخريته وتهكمه، والتعاطف مع اليهود والإنجليز والأمريكيين ليس إلا التعبير الدقيق عن الانحياز الكامل للمصلحة الذاتية حيث تكون، ولا اعتبار هنا لعامل الانتماء الدينى.
إحسان عبد القدوس
عند المقارنة بين إحسان عبد القدوس وأبناء جيله من الروائيين المصريين، والأجيال التالية أيضًا، يمكن القول إنه الأكثر اهتمامًا باليهود وعالمهم على الصعيدين الكمى والكيفى، قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل وبعدها، ولعله الوحيد الذى لا تغيب معالجاته عبر المراحل المختلفة فى مسيرة إنتاجه للمكانة التى يحتلها اليهود فى مصر منذ الثلاثينيات إلى الثمانينيات فى القرن العشرين. فى رؤيته المتميزة يختلط الذاتى بالموضوعى، التجارب الشخصية من ناحية والهم الوطنى الذى يتجاوز الأفراد من ناحية أخرى. التأكيد على تفرد شهادته وما تحمله من دلالات بالغة الأهمية، لا يحول دون حق الاختلاف مع بعض الاجتهادات والتحليلات التى يقدمها وتستدعى التحفظ والكشف عن اضطرابها وخللها.
يحظى الوجود اليهودى فى مصر باهتمام لافت فى رواية إحسان الأولى: «أنا حرة»، ١٩٥٤. لا يقتصر الأمر على المكانة المؤثرة التى تحتلها شخصية فورتينيه ابنة الخياطة مارى، بل إنه يمتد أيضًا ليشمل رصدًا موضوعيًا متوازنًا لثنائية التوتر والانسجام بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية؛ الأقلية التى تمثل مع ذلك قوة لا يُستهان بها فى حى «الظاهر»، ما يقود إلى معارك طاحنة يتزعمها الفتوات المحترفون قبل اندثارهم، وفضلًا عن ذلك تتسع الرواية لاستعراض تفاصيل مشبعة عن الأعياد اليهودية والطقوس المصاحبة للاحتفال بها.
يمكن القول إن رواية «لا تتركونى هنا وحدى»، التى ينتهى إحسان من كتابتها فى أوائل شهر يناير ١٩٧٩، وتُنشر فى العام نفسه، هى النص الأهم والأدق تعبيرًا عن رؤية الكاتب لوضعية اليهود فى مصر، ذلك أن «اليهودية المسلمة» زينب، لوسى، هى محور الرواية وشخصيتها الرئيسة دون مزاحمة أو مشاركة. فى مسيرة حياتها محطات ذاتية تختلط بالتحولات الموضوعية التى يشهدها المجتمع المصرى، منذ مطلع الأربعينيات فى القرن العشرين إلى قرب نهاية السبعينيات. تعاصر عهد الملك فاروق كاملًا، وتقترن نهايتها باقتراب حقبة الرئيس السادات من الأفول، مرورًا بالمرحلة الناصرية.
تندمج اليهودية لوسى فى إيقاع المجتمع المصرى قبل سنوات طوال من تأسيس دولة إسرائيل، وتتفاعل مع الآثار المترتبة على إعلان الدولة، حرب سنة ١٩٤٨ وما بعدها من حروب، ويُقدر لها أن تعيش لترى مؤشرات السلام الذى يولد متعثرًا مغلفًا بمظاهر الاضطراب والتوتر، ما ينبىء عن الإجهاض المبكر.
اليهود فى مصر، وفقا لمعطيات الرواية، ليسوا كتلة واحدة متآلفة متجانسة، فهم ينتمون مثل غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى إلى طبقات مختلفة، وتتراوح مواقعهم الاجتماعية بين القمة والقاع، بعضهم من الصفوة فاحشى الثراء، والأغلبية العظمى من الطبقة الوسطى وما دونها.
تقبع لوسى فى قاع الطبقة الوسطى، وتقيم مع زوجها زكى، الموظف الصغير، وابنها وابنتها، إيزاك وياسمين، فى شقة بحى الظاهر: «وليست من العائلات اليهودية الغنية التى كانت تلمع فى مصر كعائلات كوريل وقطاوى وباروخ وشيكوريل وموصيرى و.. و..».
يتعالى أغنياء اليهود على فقرائهم، والهوية الدينية المشتركة لا تقود إلى القفز فوق الفوارق الطبقية الشاسعة وإهمال المستوى الاقتصادى والتصنيف الاجتماعى. تتطلع لوسى إلى الصعود الذى يرتقى بها إلى مصاف أغنياء اليهود: «تريد أن تعيش هى وولداها كما تعيش عائلة شيكوريل وقطاوى ومزراحى.. هذه العائلات اليهودية التى تتغطرس حتى على اليهود أنفسهم الذين يعيشون فى المستوى الأقل».
 


من ناحية أخرى، تعكس رواية إحسان شيوع تصور عن تفرد اليهود بسمات وخصائص يختلفون من خلالها عن غيرهم من المصريين المسلمين والمسيحيين، ويذهب الروائى نفسه، فى سياق التعريف بشخصية زينب إلى أن اليهودية ليست صفة دينية، بل إنها تعبير عن شخصية: «وهى شخصية تتغلب على أى شخصية أخرى يمكن أن ينتسب إليها اليهودى.. فاليهودى هو أولًا يهودى وبعد ذلك يمكن أن يكون أى شىء.. كأن يكون يهوديًا فرنسيًا.. أو يهوديًا أمريكيًا.. أو يهوديًا روسيًا.. ومهما تنقل من جنسية إلى جنسية فهو أولا يهودى.. وكذلك لو تنقل من دين إلى دين.. فلو اعتنق المسيحية فهو يهودى مسيحى.. ولو اعتنق البوذية فهو يهودى بوذى.. وقد اعتنقت زينب الإسلام فأصبحت يهودية مسلمة».
التعميم على هذا النحو ليس صحيًا أو دقيقًا بطبيعة الحال، وهو تأكيد خطير الدلالات على أن اليهودى، كل وأى يهودى، لا بد أن يكون مختلفًا عاجزًا عن الاندماج والذوبان فى مجتمعه، فضلًا عن أن توصيفًا كهذا قد ينطبق بدرجات متفاوتة على المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون كأقليات فى مجتمعات أخرى، وعندئذ يتحول الدين إلى ما يشبه الوطن.
من مجمل العالم الروائى والقصصى لإحسان عبد القدوس، يمكن استنباط مجموعة من المؤشرات والنتائج المهمة حول موقفه من اليهود:
أولا: لا معاداة لليهود لأنهم يهود، والرفض صارم لـ«شيطنة» الشخصية اليهودية والقول بتفرد استثنائى خارق. إنهم بشر مثل غيرهم من أصحاب العقائد الدينية الأخرى، تتباين صفاتهم وأفكارهم ورؤاهم، ويختلف سلوكهم بما ينفى فكرة التجانس المطلق بينهم. ينتمون إلى طبقات متنافرة متعارضة المصالح، وليسوا طبقة واحدة متماسكة.
ثانيا: ضرورة التمييز بين التعاطف مع اليهودى الفرد الإنسان، وبين العداء للأيدلوجية الصهيونية والسياسة العدوانية لإسرائيل، ذلك أن الخلط ليس صحيحًا، ويقود بالضرورة إلى تداعيات كارثية وخيمة تطول اليهود وغيرهم على حد سواء.

ثالثا: الميل إلى تأكيد خصوصية المرأة اليهودية فى إطار سلبى، حيث العلاقات الجنسية المتحررة من القيود والأعراف والتقاليد التى يخضع لها المسلمون والمسيحيون فى المجتمع المصرى.
رابعا: اليهود الإسرائيليون المنحدرون من أصول مصرية وعربية هم الأكثر غلظة وتعنتًا فى التعامل مع مواطنى الأمس القريب عند الصدام العسكرى، ويكشف أسلوبهم عن مزيج من الكراهية والغل والغطرسة والتعالى والازدراء.
خامسا: قد يشهر اليهودى إسلامه لأسباب نفعية، وقد يكون متحررًا من الالتزام الدينى بالطقوس والشعائر والعبادات، لكن الإحساس اليهودى عنده لا يغيب، ذلك أن الدين أقرب إلى الوطن!.
سادسا: المجتمع المصرى المتسامح لا يعرف التمييز والاضطهاد الدينى والعرقى، ومن هنا يحظى اليهود بحقوقهم كاملة، لكن الاندماج والذوبان فى نسيج الحياة اليومية يبدو بعيدًا دائمًا، فهم يهود فى المقام الأول وليسوا مواطنين مصريين خالصين.
سابعا: يحتفى عالم إحسان بجدية اليهود ونشاطهم وحيويتهم ودأبهم، ويبدى اهتمامًا موضوعيًا محايدًا بتاريخهم وأعيادهم، ولا يخفى الروائى الشهير تعاطفه الإنسانى معهم، لكن المعالجة السياسية تخلو من الوضوح، ذلك أن القضية معقدة، والوصول إلى السلام حلم أقرب إلى الوهم.
كمال رحيم
ثلاثية كمال رحيم: «قلوب منهكة»، «أيام الشتات»، «أحلام العودة"؛ أحد أهم وأنضج النصوص الروائية المصرية التى تقدم شهادة متكاملة واعية عن الموقع الذى يحتله اليهود فى الحياة المصرية. لا شىء من الافتعال والإسراف الانفعالى الزائف فى روايات كمال الثلاث، ولا ذرة من التعصب والتحامل وضيق الأفق والأحكام سابقة التجهيز، فضلًا عن الغياب المحمود للنبرة السياسية الأيدلوجية الزاعقة. ينتصر الروائى للإنسان فى المقام الأول، والبطولة عنده للبشر دون نظر إلى معتقداتهم الدينية. الشخوص خليط من الخير والشر والقوة والضعف والحب والكراهية، ولكل منهم منطقه المتماسك أو المتهافت، لكنه يبقى بالضرورة إنسانًا لا ينتمى إلى عالمى الملائكة أو لشياطين.
المصرى اليهودى زكى الأزرع يحترف مهنة شائعة عند عدد غير قليل من المصريين اليهود، إصلاح الساعات، ويرتبط بعلاقات اجتماعية إيجابية مع سكان الشارع الذى يقيم فيه وأصحاب الدكاكين، مسلمين كانوا أم مسيحيين. حفيده جلاب مسلم لأنه ثمرة الزواج بين ابنته اليهودية ومصرى مسلم. يتعاطف الجيران مع زكى دون زوجه الفظة الشرسة، والمعيار ليس دينيًا، فكلاهما يهودى، بل إنه إنسانى يقترن بالسلوك الفرى والنمط السائد فى التعامل اليومى.
اليهود فى مصر، كما تقدمهم ثلاثية رحيم، جزء أصيل من نسيج الحياة، ويسهمون فى مجالات مختلفة مثل غيرهم من المصريين، ومن ذلك ساحة الموسيقى والفن الغنائى. فى السينما، يتحدث زكى مع زوجه عن نجيب الريحانى وبراعته، ثم ينفتح بعدها فى الكلام عن ليلى مراد: «قال إنها من عائلة كلها فنانين، أخوها منير وأبوها زكى مراد يا سلام على صوته».
وتنهد:
- يا سلام كمان لو سمعتى أغنية «حيرانة ليه» اللى لحنها لها الأستاذ داود حسنى.
عائلة فنية يهودية، زكى مراد وليلى ومنير، والملحن داود حسنى، أحد أساطين الموسيقى المصرية، يهودى أيضًا، أما زكى فإنه مصرى يهودى عظيم الانتماء للوطن، ونموذج يعبر عن قطاع عريض من اليهود المتمسكين بالبقاء فى مصر لأنهم لا يعرفون غيرها وطنًا.
بفعل المتغيرات السياسية العاصفة التى تمر بها مصر بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل وما يترتب على ذلك من نتائج وتداعيات، يهاجر زكى مضطرًا إلى فرنسا، وفى مهجره الاضطرارى يعانى زكى من الخواء وغياب المعنى، ذلك أن الحياة فى القاهرة، على الصعيدين المادى والنفسى، أفضل كثيرًا مما هى عليه فى باريس، وبتعبير حفيده جلال: «شقتنا فى حى الظاهر كانت والله جنة إذا قارناها بالشقة التى يسكنها جدى الآن».
تتفاعل الجدة مع مستقرها الجديد بالادعاء والافتعال و«عوجة اللسان»، أما المصرى الأصيل زكى فيسطير عليه الامتعاض ويستوطنه الحزن، فضلًا عن رفضه الصارم لزيارة إسرائيل التى لا يعترف بها وطنًا بديلًا لليهود. حنينه إلى مصر لا ينقطع، ووفق ما تقوله زوجه ايفون: «بيقول إنه كان نفسه يقضى اللى باقى من عمره فى مصر ويندفن هناك».
الخلط الشائع بين اليهودى والإسرائيلى والصهيونى ليس عادلًا، والجد الحكيم زكى، المصرى الخالص بلا شائبة، يقدم رؤية موضوعية متوازنة ينبغى أن توضع دائمًا فى الاعتبار: «متظلمش اليهود يا جلاب! اليهود زيهم زى خلق الله فيه الصالح والطالح. فيهم اللى قلبه عامر بالخير والعدل زى ما علمنا سيدنا موسى، وفيهم اللى خرج عن الملة والدين وبيستحل مال وأرض الغير».
التعميم خطأ فادح، وأحكام الإدانة المطلقة سابقة التجهيز تقود إلى نتائج كارثية تزيد الأمور تعقيدًا. اليهود مثل غيرهم من البشر المنتمين إلى الأديان الأخرى، والعداء السياسى والفكرى لإسرائيل والصهيونية، حيث الإرهاب والعنصرية، لا يعنى اتخاذ موقف مماثل من الكتلة اليهودية العريضة. أعداد كبيرة منهم لا يقيمون فى إسرائيل ولا يحملون جنسيتها، ونسبة لا يُستهان بها منهم ترفض الصهيونية وتفضح مثالبها وتكشف عوراتها.
لا مبالغة فى القول إن زكى الأزرع أقرب إلى أسطورة معاصرة تستدعى الانتباه والتأمل الطويل لإدراك خصائص وملامح شريحة مهمة من آخر أجيال اليهود المصريين، فهو إلى اليوم الأخير من حياته التى تمتد إلى مشارف التسعين، يعتز ويباهى بانتمائه إلى مصر، وتراوده أحلام العودة، ويحتفظ بمفاتيح شقته التى يغادرها مضطرًا فى المرحلة الأخيرة من هجرات اليهود. يولد زكى فى العام ١٨٩٦، وينتقل إلى باريس بعد أن يتجاوز السبعين من عمره. كيف لرجل كهذا أن يتوافق وينسجم مع إيقاع حياة الغربة ذات السمات المغايرة لكل ما يعتاده ويألفه عبر عقود متصلة من الحياة فى مصر؟. التناغم مستحيل، ليس لتقدمه فى العمر فحسب، بل لأنه أيضا مصرى قح لا يعرف إلا مصر وطنًا. ولاؤه نقى خالص، ولا ذرة من التعاطف مع الصهيونية وإسرائيل، بل إنه لا يتردد فى التأكيد على استعداده للمشاركة فى الحرب ضد الدولة اليهودية التى لا يعترف بها: «ده أنا زكى ابن اسحاق ابن يوسف ابن هارون ابن شمعون الأزرع. وكل دول اتولدوا وعاشوا فى مصر وعمرهم ما طلعوا منها! 
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:

https://www.ledialogue.fr/