الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب.. في حب زكي رستم  ( 1 ـ 4 )

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

الجد باشا، والأب بك، أما الحفيد الابن زكي رستم فهو فوق الألقاب ولا حاجة له لأي منها. ما أكثر أبناء العائلات الثرية العريقة الذين يحترفون التمثيل، ومنهم يوسف وهبي وسليمان نجيب على سبيل المثال، لكن زكي رستم ليس ممن يسهل القول إنه محب للفن يهب له العمر كله إلا السنوات الأخيرة من حياته. المسألة عنده تتجاوز الحب الشائع صانع التضحية والتمرد، وتحتاج حالته الفريدة مفردة من تلك التي تزدحم بها قواميس وقصائد التصوف، ولعل أكثرها صدقا ودقة: الحلول والاتحاد.
الحب محطة تليق بالعاديين من البشر والمبدعين، وأمثال زكي لا يعرفون إلا الذوبان الكامل الذي يصعد بهم إلى ذروة التحقق. ما الاحتياج إذن إلى الزوجة والأبناء؟، وأي جدوى تُرجى من الثراء أو الألقاب؟.
لا شيء يستفزني ويثير غضبي، عند الحديث عن الممثل العملاق، مثل مقولة "رائد مدرسة الاندماج"، ذلك أنني أضيق حد الاختناق بالإسراف الفج في استخدام كلمة "رائد" هذه، ولا أشعر بالارتياح لما يوحي به مفهوم "الاندماج" عند كثير من سامعيه وقارئيه، كأنه يشير إلى نوع من الصناعة والادعاء، أو براعة رخيصة في التقمص الإرادي المحسوب.
لا أظن زكي رستم في حاجة إلى المبالغة الماسخة في توصيف عبقرية أدائه، ولا أجد صفة تليق به وتوفيه حقه إلا "الممثل". لو أنني التقيت به وحاورته، وهو الزاهد إلى درجة التطرف في الحوارات واللقاءات الصحفية، سأدرك بلا عناء أن التمثيل عنده هو الحياة البديلة المشبعة، وأن تنوع وتعدد الأدوار تعبير عن شهوة عارمة، كأنها الفيضان، مثل أولئك الذين يحبون كل النساء، البيضاء والسمراء والبدينة والنحيلة والطويلة والقصيرة، أو الذين يعشقون شتى صنوف الطعام. التمثيل عنده ليس عملا احترافيا أو هواية محببة، لكنه الحياة.


                                                        * *
في رحلته الطويلة مع السينما، التي تمتد بين عامي 1930 و1967، يقدم زكي رستم ما يقارب الستين فيلما، تبدأ مع السينما الصامتة في فيلمي "زينب"، 1930، و"الضحايا"، 1932، وتتضمن المشاركة في بدايات السينما الناطقة، حيث "كفري عن خطيئتك"، 1933، "الوردة البيضاء"، 1933، "الاتهام"، 1934، "ليلى بنت الصحراء"، 1937.
"الوردة البيضاء" هو الفيلم الوحيد المتاح للمشاهدة من أعمال المرحلة المبكرة، وفيه يقدم زكي شخصية شفيق بك، الشاب الأرستقراطي الذي تصر شقيقته فاطمة هانم، دولت أبيض، على زواجه من ابنة زوجها إسماعيل بك، سليمان نجيب، طمعا في الاستحواذ على ثروته.
الفيلم رائد في ساحة السينما الغنائية التي تحظى بالإقبال الجماهيري الواسع، حبا في الغناء والطرب دون السينما، والبناء كله يتم توظيفه لخدمة محمد عبد الوهاب وأغانيه، ومن ثم يحتل الصدارة مطربا دون نظر إلى إمكاناته التمثيلية المتواضعة، وهو ما ينطبق على بطلة الفيلم سميرة خلوصي.
زكي رستم وسليمان نجيب ومحمد عبد القدوس، المحترفون الذين لا يتلعثمون ولا يرتبكون، هم العناصر التمثيلية المتماسكة في فيلم تنعقد البطولة فيه للغناء في المقام الأول، وليس من الإنصاف في شيء أن يتم تقييم الأداء التمثيلي لهؤلاء بمعزل عن الظروف الموضوعية المحيطة بخصوصية الفيلم والهدف من إنتاجه.
مع "العزيمة"، 1939، للمخرج كمال سليم، تبدأ مرحلة النضج والتفرد في مشوار زكي رستم، وتُتاح له فرصة الكشف عن موهبته وقدرته الإبداعية، لكن عددا غير قليل من أفلام الأربعينيات وأوائل الخمسينيات مفقودة لا تتيسر مشاهدتها، والأفلام التي نعنيها هي:
- "زليخة تحب عاشور"، 1940 
- "إلى الأبد"، 1941 
- "الشريد"، 1942 
- "المتهمة"، 1942 
- "ليلى البدوية"، 1944 
- "الحياة كفاح"، 1945 
- "ضحايا المدنية"، 1946 
- "عواصف"، 1946 
- "هدمت بيتي"، 1946 
- "الهانم"، 1947 
- "الأب"، 1947 
في إطار ما سبق، تعتمد الدراسة على قراءة وتحليل الشخصيات التي يقدمها زكي رستم في ثمانية وثلاثين فيلما هي بترتيب عرضها:
- "العزيمة"، 1939 
- "الصبر طيب"، 1945 
- "السوق السوداء"، 1945 
- "هذا جناه أبي"، 1945 
- "قصة غرام"، 1945 
- "النائب العام"، 1946 
- "عدو المرأة"، 1946 
- "خاتم سليمان"، 1947 
- "معلهش يا زهر"، 1950 
- "ياسمين"، 1950 
- "أنا الماضي"، 1951 
- "أولادي"، 1951 
- "مسمار جحا"، 1952 
- النمر"، 1952 
- "بائعة الخبز"، 1953 
- "بنت الأكابر"، 1953 
- "قلبي على ولدي"، 1953 
- "عائشة"، 1953 
- "حكم قراقوش"، 1953 
- "صراع في الوادي"، 1954 
- "موعد مع إبليس"، 1955 
- "حب ودموع"، 1955 
- "أين عمري"، 1956 
- "رصيف نمرة 5"، 1956 
- "الفتوة"، 1957 
- "لن أبكي أبدا"، 1957 
- "امرأة في الطريق"، 1958 
- "الهاربة"، 1958 
- "لحن السعادة"، 1960 
- "ملاك وشيطان"، 1960 
- "نهر الحب"، 1960 
- "الخرساء"، 1961 
- "أعز الحبايب"، 1961 
- "أنا وبناتي"، 1961 
- "يوم بلا غد"، 1962 
- "بقايا عذراء، 1962 
- "الحرام"، 1965 
- "أجازة صيف"، 1967 
                                                       

                                                     * *
السؤال الأساس الذي تطرحه الدراسة، وتتصدى للإجابة عنه: هل يمكن استنباط شهادة فنية وموضوعية عن واقع الحياة المصرية وتطور السينما فيها عبر أكثر من ربع قرن، منذ نهاية الثلاثينيات إلى منتصف الستينيات في القرن العشرين، عبر قراءة وتحليل الشخصيات التي يقدمها زكي رستم، بكل ما فيها من تنوع واختلاف؟. صحيح أن الممثل، مهما تعلو مكانته، ليس العنصر الوحيد أو الأهم في مكونات النص السينمائي، فهو تابع بالضرورة لرؤية المخرج والأفكار التي يتضمنها السيناريو والحوار، فضلا عن التأثير الكبير للتصوير والمونتاج والإضاءة والصوت والمكياج، لكن قامة في حجم العملاق زكي رستم يقدم نموذجا مضيئا لسينما الممثل، ذلك أنه صاحب أسلوب يفرض نفسه، وله من الحضور الطاغي ما يصنع حالة فريدة تُنسب إليه. إنه يقدم الشر ذا الخصوصية المصرية التي تنتجها تفاعلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية تختلف عن بلدان أخري، وتتعدد وجوه الباشا التي يجسدها فيرد بأدائه غير النمطي على محاولات تسييد صورة أحادية سلبية يتم السعي إلى ترسيخها بعد ثورة 23 يوليو 1952، التي ترفع راية العداء لكل مفردات العهد البائد، أما براعته في التعبير عن عالم الطبقة الوسطى في صعودها وهبوطها فإنها تجربة ثرية تتجاوز المعطى السينمائي إلى الاشتباك الواعي فائق الحساسية مع هموم وتحولات الحياة اليومية، وتبقى أدواره غير التقليدية التي يحلق فيها خارج السرب علامة على التفاعل مع أزمات الوجود الإنساني العابرة للزمان والمكان.
يعمل زكي رستم مع الأغلب الأعم من مخرجي السينما المصرية الذين يعاصرهم، وهم وفق الترتيب الألفبائي لأسمائهم: إبراهيم عمارة، أحمد جلال، أحمد ضياء الدين، أحمد كامل مرسي، أنور وجدي، بهيجة حافظ، جمال مدكور، حسام الدين مصطفى، حسن الإمام، حسن رمزي، حسين حلمي المهندس، حسين فوزي، حلمي رفلة، سعد عرفة، صلاح أبو سيف، عبد الفتاح حسن، عز الدين ذو الفقار، عزيزة أمير، عمر جميعي، فطين عبد الوهاب، كامل التلمساني، كمال سليم، كمال الشيخ، ماريو فولبي، محمد عبد الجواد، محمد كريم، نيازي مصطفى، هنري بركات، يوسف شاهين، يوسف معلوف.
ينتمي هؤلاء المخرجون إلى مدارس فنية مختفة، واتجاهات سياسية وفكرية متعارضة، لكن ثوابت الأداء عند زكي رستم تبقى راسخة مستقرة، ما يؤكد أنه صاحب أسلوب متفرد عابر للمؤثرات الخارجية إلا في حدودها الدنيا. تتمثل أدواته التعبيرية الأهم في الوجه الذي يتحكم في انفعالاته للتعبير عن موقف الشخصية كما ينبغي ان يكون، والصوت متعدد الطبقات والدرجات والأحاسيس، والعينين العميقتين النافذتين القادرتين على تحويل الصمت إلى كلمات دالة، أما لغة الجسد فإنها تعينه على المعايشة الصادقة متناغمة بلا نشاز مع ما يعتمل في الأعماق من أحاسيس. إنه يذوب في الشخصية ويمسك بمفاتيح فهمها، فالأمر عنده ليس عشوائيا ارتجاليا، بل هو أسلوب ومنهج.
 

                                                     * *
على ضوء ما سبق، تقع الدراسة في خمسة فصول:
- الفصل الأول: روعة الشر
- الفصل الثاني: وجوه الباشا
- الفصل الثالث: الطبقة الوسطى
- الفصل الرابع: خارج السرب
- الفصل الخامس: إسدال الستار
يستمر الممثل المتمكن خارق الموهبة في توهجه وعطائه الثري حتى يدركه التعب وتعتل الصحة، ولا مهرب عندئذ من إسدال الستار. ما أقسى السنوات الأخيرة في حياته، حيث الاعتزال الاضطراري جراء علة تتفاقم وتذهب بسمعه. يعيش وحيدا محروما من الحب الوحيد الذي لا يعرف غيره، بل من الحياة نفسها. لا شيء يؤنس وحدته الطويلة إلا القراءة واستعادة الذكريات، القريب منها والبعيد. لا أصدقاء له، ولا زوجة أو أبناء. ما الذي كان يفكر فيه عند اقتراب أشباح الأزمة القلبية التي تودي بحياته؟. ما السر في الجنازة الهزيلة التي لا تليق بمكانته الرفيعة، كأنه من آحاد وعوام المغمورين من الناس؟.
"في حب زكي رستم" هو العنوان الأقرب إلى الدقة في الكشف عن منهج الكتاب، فالقليل النادر عن حياته، التي تمتد بين عامي 1903 و1972، لا يعطي الفرصة للتأريخ والتوقف أمام سيرته الذاتية، والبطولة للسيرة السينمائية صانعة موضعه الفريد في تاريخ فن التمثيل السينمائي المصري.
غاية المأمول أن تفلح الصفحات التالية في ترجمة مشاعر الحب التي تكنها أجيال من متابعي السينما المصرية للفنان القدير، وكل نجاح يتحقق في اجتهاد الكاتب مردود إلى عبقرية الممثل الفذ وثراء إبداعه، أما التقصير فإنه مسئولية الباحث الذي يعي منذ البدء أن حبه لزكي رستم يفوق قدرته في التعبير عن هذا الحب.
مصطفى بيومي
القاهرة: 28-4- 2020

 

الفصل الأول: روعة الشر

الشر ظاهرة إنسانية أصيلة قديمة قِدم التاريخ، والأشرار مؤثرون فاعلون يحققون من الانتصارات ما يفوق الهزائم التي تطولهم. لا يقتصر وجود الشر على زمان بعينه أو بقعة مكانية دون غيرها، فهو قائم فاعل في كل زمان ومكان. قد يتحقق عبر سلوك فردي محدد محدود، كالذي نجده عند اللصوص والقتلة والمحتكرين وتجار المخدرات ورجال العصابات، وغير ذلك من أوجه النشاط الإجرامي الذي يتوافق مع طبيعة المجتمع، ويتأثر به آحاد الناس، وربما يمتد الشر ويرتقي متجسدا في حاكم طاغية مستبد ذي ممارسات قمعية عنيفة، تلحق الأذى المادي والمعنوي بقطاعات واسعة من البشر، ولا يندر أن يمتد الأثر إلى خارج الحدود.
يبدع زكي رستم في تقديم أدوار الشر بطريقته الاستثنائية الفريدة غير التقليدية، معتمدا في أدائه الفذ على الدراسة والمعايشة والاندماج مع مكونات الشخصية للإمساك بمفاتيح الفهم، فهو لا يقنع بالسطحي الظاهر المباشر من معطياتها وملامحها، لكن الممثل في نهاية الأمر، أي وكل ممثل وليس زكي رستم وحده، عنصر من مكونات العمل السينمائي الذي يتعدد المشاركون فيه، كتابة وتصويرا وإخراجا، فهل يملك وحده أن يمنح القيمة لنص مهلهل وتصوير ساذج وإخراج بدائي؟.
في "مسمار جحا"، 1952، و"حكم قراقوش"، 1953، محاولة لاستعراض الشرور السياسية الموضوعية، حيث الحاكم الطاغية المستبد والمظالم الاجتماعية والاقتصادية. لا يصل رستم إلى مستواه المعهود، ذلك أن المعالجة في الفيلمين التاريخيين لا تسعفه وتعينه، لفرط الركاكة والسذاجة في السيناريو والإخراج معا. في الفيلم الأول، لا يجد الممثل الكبير في ملامح الحاكم الشرير الفاسد إلا السطحي الشكلي بلا أعماق تشبعه وترضيه، والأمر أقرب إلى تجميع لبعض النوادر والطرائف الشائعة المنسوبة إلى جحا، الشخصية الأسطورية ذائعة الصيت، ويقدمها عباس فارس بأداء كاريكاتوري ماسخ بلا مذاق. إنه الوجه المقابل المعارض للحاكم الذي يُسند دوره إلى زكي رستم، ولأن السيناريو عشوائي ركيك مفكك لا يتضمن رؤية متكاملة متماسكة، وأسلوب إبراهيم عمارة في الإخراج بدائي ميكانيكي فج، والحوار الضعيف يفرض على زكي أن يتكلم باللهجة العربية التركية الحافلة بالتصنع والافتعال، يبدو رستم تائها بعيدا عن التحقق، مسكونا بالغربة والاغتراب مع شخصية هشة يتسم شرها بالهزل، فكيف يبدع ويترجم البناء الضبابي إلى أداء قادر على الإقناع واقتحام القلوب؟.
الأمر نفسه في "حكم قراقوش"، حيث النبرة الخطابية الزاعقة الفجة، والإسراف في المباشرة التي لا ابتكار فيها أو اجتهاد لبلورة شكل فني مقنع مؤثر، فكيف للممثل المبدع أن يكون واعظا أو مشاركا في محاضرة لا فن فيها؟.
الشر في فيلميه هذين لا يمنح زكي رستم فرصة الكشف عن موهبته التي تتجلى في أفلام سابقة ولاحقة، يتوقف أمامها فصلنا هذا، وهي بترتيب عرضها:
- "قصة غرام"، 1945 
- "أنا الماضي"، 1951 
- "النمر"، 1952 
- "بائعة الخبز"، 1953 
- "عائشة"، 1953 
- "حب ودموع"، 1955 
- "رصيف نمرة 5"، 1956 
- "الفتوة"، 1957 
- "ملاك وشيطان"، 1960 
- "الخرساء"، 1961 
 

** قصة غرام **
شخصية شاهين، كما يجسدها زكي رستم بتمكن واقتدار، بداية رحلة الممثل الكبير مع أدوارالشر التي يبرع فيها ويقترن بها اقترانها به عند وفرة من محبيه.
على عتبات الموت، يستدعيه ابن عمه عصمت باشا، زكي إبراهيم، ليوصيه بابنته الطفلة هدى، أميرة أمير عندما تتجاوز الطفولة، وجلال، إبراهيم حمودة، الطفل الذي هو عند الباشا في مقام الابن، ويتولى رعايته والإشراف على تربيته بعد وفاة أبيه فهمي باشا، الصديق المقرب.
اختيار شاهين وصيا لا يروق لتابع الباشا الذي يُكلف باستدعاء شاهين، ولا يخفي الرجل تحفظه على ابن العم ذي السمعة السيئة. الكلمات التي يصفه بها تنبىء عن طبيعة الشخصية غير الجديرة بالثقة:"شاهين بيه ولو إنه ابن عم سعادتك راجل ردي وقلبه من حجر".
لا دوافع شخصية عند التابع للتحامل والادعاء الباطل، ولا شك أن عصمت باشا نفسه يعرف ابن عمه جيدا، لكنه لا يبالي بما يُقال له ويعيه بالضرورة. مع الظهور الأول لشاهين، تتأكد شراسته وغلظته وافتقاده للحد الأدنى من المشاعر الإنسانية السوية، ففي ظل اجتياح وباء الكوليرا وسقوط الكثير من الضحايا، يصله خبر موت ابن جارته أم عبده، فيعلق في قسوة ولا مبالاة:"وإيه يعني.. في ستين داهية"، ويضيف متحدثا عن عموم عالم الأطفال، ساخرا من وصفهم بأنهم "أحباب الله":"أحباب الله!.. دول مقاصيف رقبة!".
في عبارتيه الحادتين اللتين تكتسيان عنفا أصيلا عبر صوته القوي المسكون بالجفاف والجفاء، فضلا عن تجهم وجهه ولغة جسده التي توحي بالصرامة وموات القلب، تتجلى الحقيقة العارية التي ينبه إليها تابع الباشا منذ البدء، لكن شاهين في حضرة ابن عمه المحتضر يبدع في تمثيل شخصية مضادة مغايرة، حيث الإسراف في الرقة وإظهار الورع والإعلان عن قدرته على تحمل المسئولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، وصيا مؤتمنا جديرا برعاية الصغيرين:"اطمئن يا باشا.. انت بتكلم إنسان يخاف ربنا".
قناع الخير الذي يرتديه، ممثلا بارعا كاذبا، يكشف عن هيمنة الشر والدهاء، والتسلح بالحيلة والمراوغة والمناورة. بعد موت الباشا، يسعى شاهين سريعا إلى السيطرة والاستحواذ على ثروة ابن عمه، مستعينا بزوجته التي لا تقل عنه شرا وقسوة، زينات صدقي. لا يمثل زكي رستم دور الشرير، فهو يندمج في شخصية شاهين ظاهرا وباطنا، ولا يحتاج عنفه الكامن إلى دليل أو برهان. في حضوره الطاغي المخيف، صامتا ومتكلما، ما يؤكد أن الأداء الواثق يتجاوز المحاكاة الشكلية، وينبش في الأعماق المخبوءة، مستعينا بعينيه المخيفتين النافذتين وملامح الوجه التي يسيطر عليها ويتحكم في انفعالاتها.
القرار الأول الذي يتخذه هو السفر إلى العزبة للانفراد بالطفلين وإحكام السيطرة عليهما بعيدا عن الأنظار، والمنهج الذي يتبعه مع ناظر العزبة والفلاحين مستأجري الأرض بمثابة الامتداد المنطقي لما يتسم به من جفاء وحدة. الإشادة بالباشا الراحل الطيب، الذي يحسن معاملة الفلاحين ويعتمد "البركة" وحسن النية أسلوبا في التواصل معهم، لا يروق للوصي الذي يفرض الخوف منذ اللحظة الأولى، ويجاهر بالإعلان عن أسلوبه المغاير:"بالبركة؟.. الكلام ده بطل وراحت أيامه.. من النهارده ما حدش منكم يلمس عود من الأرض أو يسحب بهيمة من مطرحها إلا بعد ما أطلع على حساباتكم واحد واحد".
لا شك أن كلمات الحوار حادة عنيفة قاسية، لكن وقعها يتضاعف بالنظر إلى أداء زكي رستم ونجاحه اللافت في التعبير عن الهيمنة والقوة. إنه يتوحد مع مكونات شخصية شاهين كما يفهمها ويعايشها فيحيله إلى كتلة شر هائلة، تطيح بالجميع وتفرض عليهم قوانين مختلفة واجبة الطاعة، ومن هنا يتسم تعليقه التالي بالمزيد من الشراسة والغطرسة، فيبدو كأنه الطوفان العارم القادر على التهام كل من يواجهه:"أنا هنا الكل في الكل.. أنا المتصرف المطلق.. أنا الوصي.. أنا القيّم.. البركة والألفاظ الفارغة دي.. حاجات مالهاش تأثير عندي.. الفلوس هي البركة".
يتمكن شاهين ويسيطر، ويطغى ويستبد، ويتطرف في إذلال وإهانة هدى وجلال بما يتجاوز حدود المعقول، كأنه يستمتع بسلوكه العدواني هذا ويجد فيه لذة لا شأن لها بالبحث عن المصلحة. يتوافق ذلك التوجه مع انحرافه الذي يتمثل في الولع بالخمر والقمار والإنفاق ببذخ سفيه في زياراته للقاهرة، وليس أيسر عنده من الشروع في القتل، لكن مشكلة بناء الشخصية تتجلى في الثبات والجمود وغياب الصراع الجاد المحفوف بالمخاطر والتحديات. التكوين ذو بعد واحد، ولا تكافؤ أو ندية مع ضحيتيه، ولا يتغير الإيقاع الراكد إلا مع ظهور راشد، محمود المليجي، ذلك أنه لا يقل في شره الشرس عن شاهين. في المواجهة العنيفة بينهما، يتوهج زكي رستم لأنه يجد من يفجّر فيه وجها للحركة ذات الإيقاع البعيد عن الروتينية والبطء والركود.
يمكن القول إن السيناريو لا يعين الممثل القدير لتنويع أسلوبه في الأدء واستثمار مخزون موهبته، ذلك أن آلية التعبير عن الشر بعد السيطرة المطلقة لا جديد فيها، وهي امتداد لما يتم تأسيسه منذ البدء، أما النهاية السعيدة التي ينتصر فيها الخير ويندحر الشر، فإنها وليدة الصدفة والافتعال. يسقط العدوان اللدودان الشريران، راشد وشاهين، والأمر مردود إلى ما تنحاز إليه السينما المصرية من قواعد غير مقنعة، لا تتخلى عنها إلا في النادر الاستثنائي من الأفلام.
 

** أنا الماضي **
عشرون عاما يقضيها حامد بك بسيوني في السجن، مدانا بجريمة قتل لم يرتكبها، بل هي تدبير محكم بين إلهام، لولا صدقي، زوجة أعز أصدقائه كامل، فرج النحاس، وعشيقها فريد، فريد شوقي، زوج شقيقته رقية، نجمة إبراهيم. يدفع حامد ثمنا فادحا لشهامته المثالية وحرصه النبيل على "ستر" الأخطاء والخطايا، بغية إتاحة الفرصة للتوبة والاستقامة. من البدهي أن يغادر سجنه الطويل ممرورا مسكونا بالغضب المدمر والرغبة في الثأر والانتقام من إلهام، التي يموت زوجها الثاني، شريكها في التآمر، فلا يبقى إلاها ليشفي المظلوم المعذب غليله، لكن الموت يسبقه إليها، فممن ينتقم؟. لا بديل إلا ابنة غريميه الشابة سامية، فاتن حمامة. يقول لشقيقته التي لا تقل عنه، إن لم تزد، حرصا على تصفية الحسابات القديمة:"بنتهم لسه موجودة.. احنا ما قدرناش ننتقم وهما أحياء.. لكن ها ننتقم منهم وهما أموات".
نسيان الماضي ومآسيه ليس ممكنا، والغفران والتسامح مطلبان مستحيلان يفوقان طاقة العاديين من البشر. على بوابة السجن عند المغادرة، يعبر وجه زكي رستم عن وطأة الشعور المرهق بقسوة الزمن وسريانه الجبار، وعندما يعود إلى بيته بعد غيبة طويلة مؤلمة، يتجلى الشجن والوجع في صوته وهو يقول:"كل شيء في محله.. كأني سبت البيت انبارح بس".
أهو سعيد بالعودة؟!. المشاعر المتداخلة المتناقضة تتجسد في حيرة الممثل القدير وارتباكه وتهدج صوته الذي يضفي على الكلمات مذاقا يتجاوز المعنى التقليدي المباشر لها. ابن أخيه شريف، عماد حمدي، يحمد الله على عودة عمه في رقة تنبىء عن شخصية لا تسكنها هواجس وكوابيس الماضي المزعج، وعندئذ يقول حامد في نبرة ذات منحى مغاير:"الحمد لله.. كلمة دايما نقولها.. مهما حصل".
"الحمد لله" عنده لا تتوافق مع غرفة تذكاراته السوداء، حيث السجن و"البرش" و"الشمس المحرقة"، فضلا عن الإحساس المزمن بالظلم. شهوة التنفيس عن القهر الطويل الموجع مقنعة لا يمكن أن تؤخذ على حامد، فهو إنسان وليس قديسا، والسلوك الشرير الذي يمارسه، مع الإقرار بتطرفه، فعل إنساني مبرر، لكن السؤال الأساس الذي يتحتم طرحه: ما ذنب الفتاة البريئة التي لم ترتكب جرما يستدعي ما تتعرض له من عذاب وترويع؟. يتساءل شريف، المتعاطف مع زوجة عمه الشابة، ويرد العم بمنطق قد لا يكون مقنعا متماسكا، لكنه يعبر عن طبيعة الأزمة التي يكابدها ولا يسهل التخلص منها:
"- هي ذنبها إيه؟.. هي اللي قتلت كامل.. هي اللي حطمت حياتك وحياة عمتي رقية.. هي اللي رمتك في السجن عشرين سنة؟
- سامية بنت إلهام وفريد.. بنت المجرمين.. سامية اللي باقية منهم.. اللي أرواحهم بتحوم حولها.. وأنا بأعذب أرواحهم".
وجه زكي رستم، وهو يطرح رؤيته هذه، مقنع بما يفوق ظاهر الكلمات التي يقولها، ولا يملك من يتأمل لغة جسده وانفعالاته الكامنة، التي لا يصعب الإحساس بها، إلا أن يتعاطف مع الرجل المأزوم في محنته ويستوعب دوافعه، دون نظر إلى أنه يمارس ظلما كالذي يشكو منه ويتعذب به، ويسعى إلى الانتقام غير العادل من بريئة لم تسهم في إلحاق الأذى. الزواج من سامية أداة للثأر عبر التفنن في إذلالها ودفعها إلى الجنون، ما يضفي على ملامح الممثل الكبير سعادة شريرة مؤثرة، وإذا بوجه جديد يطل في المشهد نفسه عندما يعرف من الطبيب خبر حملها. كيف له أن يتحكم في تعبيرات وجهه على هذا النحو المذهل، منتقلا من ذروة العنف والقسوة إلى قمة الحنو والرضا واستعادة الأمل في حياة ذات توجه مختلف؟. هنا تكمن عبقرية زكي رستم. تحولاته الانفعالية السلسة لا تُتاح للعاديين والجيدين من الممثلين، فهي موهبة يحتكرها الأفذاذ وحدهم. لفرط قدرته على الإقناع، يبدو وكأنه لا يمثل، فهو يعايش الشخصية المعقدة متعددة المستويات، ولا يجد صعوبة في التحول البريء من داء الافتعال ولعنة المبالغة المصنوعة.
سامية ضحية بريئة لجنون الانتقام، وحامد بدوره ضحية لشهوة الثأر المبررة التي تسكنه وتوجه افكاره وسلوكه، وكيف لمن يُسجن ظلما كل هذه السنوات أن ينسى أو يتسامح؟. الحمل نقطة تحول فارقة في مسار الشخصية، وها هو زكي رستم ينتقل بلا صعوبة إلى وجه جديد قوامه الحب والعطف والحنان والرقة الطفولية الآسرة، متهيئا لتحقيق حلم الأبوة البعيد عن التوقع، لكن الأخت رقية لا تتخلى عن تطلعها إلى الانتقام، حبا لشقيقها من ناحية وثأرا لكرامتها المسلوبة بالخيانة القديمة لزوجها من ناحية أخرى.
لا يجدي تحريض رقية، ويدفعها مخزون الشر الذي تتسلح به إلى زراعة الشكوك حول نسب الابن، رضوان، إلى أبيه. تتهم سامية بالخيانة مع شريف، ما يترك في نفس المحلق في سموات السعادة أثرا يهبط به في سرعة خارقة إلى قاع الجحيم، وكالعهد به تتسم تحولات زكي رستم بقدر هائل من المصداقية، كأنه حامد في قصة حقيقية يعيشها ولا شأن لها بالفيلم وأحداثه.
ما أكثر وجوه شخصية حامد بسيوني، الشرير الذي لا تملك إلا أن تتعاطف معه، وما أعظم موهبة زكي رستم في تقمص الوجوه جميعا، مؤثرا على المشاهد الذي يهرول وراء صدقه وحضوره الطاغي.
 

** النمر **
درويش عامل بار، يوحي ظاهره بالطيبة والانتماء إلى عالم الفقراء المستورين القانعين، وتتسم أحاديثه مع من يجالسونه بطابع المرح وروح الدعابة والفكاهة. الزوجة، عزيزة حلمي، مريضة بداء مزمن يعجزها عن الكلام لسنوات طويلة متصلة، والابنة الوحيدة فاتن، نعيمة عاكف، التي يتضح فيما بعد أنها ليست ابنته، راقصة تعمل معه في الملهى الليلي ولا تغيب عن عينيه. يخضعها لمنظومة أخلاقية صارمة، لا تتوافق مع مهنته ومهنتها. لا شيء فيه يوحي بالشر والسلوك الإجرامي، وإذ تقترح عليه الفتاة أن يسعى للقبض على النمر، زعيم عصابة التهريب الخطيرة التي تطاردها الشرطة، بغية الحصول على المكافأة الضخمة الكفيلة بعلاج أمها، يعلق زكي رستم على اقتراحها في نبرة صدق لا تردد فيها:"دا أنا راجل عجوز وأخاف من خيالي.. طيب دا أنا لو شفت قطة في الضلمة أموت في جلدي.. ايش حال بقى لو شفت النمر!".
هكذا يتكلم العاديون من الناس الذين يسكنهم الخوف، لكن درويش الطيب الوديع البشوش هو نفسه النمر، الزعيم المتطرف في القسوة على أفراد العصابة بلا رحمة أو شفقة، ولا متسع في قاموس زعامته للتساهل والتهاون. إنه مخيف مرعب يبث الذعر، ولا يتورع عن القتل، وتخطيطه البارع دليل عملي على ذكاء شرير متفرد. ليس مثل زكي رستم في القدرة الاستثنائية على الجمع بين الوجهين المتعارضين المتناقضين، وهو بارع مقنع في الأداء الذي يخلو من التلعثم والارتباك، فلا يملك من يراه في حالتيه إلا أن يجزم بأنه طيب كالملائكة أو شرير يفوق الشياطين. ما يقوله لابنته عن الخوف من قطة في الظلام، يتكرر بنبرة الصدق نفسها عندما تتساءل الفتاة عن السر في ملامح الخوف التي تعلو وجه أمها عندما تراه، كأنه العفريت:"الله يسامحك.. مين عارف يا بنتي المرض بيهيألها إيه!".
في احترافية رفيعة المستوى، يتنقل الممثل المتمكن بين الشخصيتين في انسجام لا تشوبه شائبة من نشاز، ويتحكم في انفعالاته بلا عناء ليجسد الازدواجية التي يتعايش معها بلا اضطراب أو خلل. لا يختلف حضوره الطاغي في مواقف الخير والشر، فهو الطيب الجدير بالتعاطف والشرير صانع النفور، أما صوته الذي يتغير إيقاعه فيعبر من خلاله عن الضعف والانكسار تعبيره عن السطوة والهيمنة، وهو ما يتجلى في خطابه الصارم للتابعين المنكمشين أمام جبروته:"أنا النمر يا كلاب.. إزاي تقتلوا يحيى قبل ما تاخدوا الأوراق اللي معاه.. دا أنا ها أشرب من دمكو واحد واحد.. انتو بتشتغلوا مع النمر.. النمر".
في حدود السيناريو الحافل بالأخطاء والثغرات والتحولات غير المحسوبة، ومع زحام الشخصيات المقحمة بلا هدف فني يبرر وجودها، يتألق زكي رستم كأنه نسيج وحده، ويعلو أداؤه المتكىء على الاجتهاد في قراءة أبعاد الشخصية. لا يُقارن بالنمطية التي تغلب على أنور وجدي، صلاح، ضابط الشرطة المتنكر، والأمر نفسه بالنسبة لنعيمة عاكف التي تتفوق في ساحة الرقص الاستعراضي والغناء، وتستعين بالمرح وخفة الحركة لتضفي على أدائها التمثيلي شيئا من التماسك.
ينخرط الفيلم في منظومة الأفلام التقليدية ذات المواصفات التي يكررها أنور وجدي في الأغلب الأعم من أفلامه، لكن شخصية درويش تكشف عن المهارات الفريدة التي يتسلح بها زكي رستم. يصطدم توهجه اللافت مع تهافت البناء العام، الذي لا يمنح لعطائه دعما، ولا حيلة للممثل عظيم الموهبة في مواجهة الأزمات المزمنة التي يعاني منها الفيلم وتصنع نوعا من التشويش الذي يخدش أداء الممثل العملاق.
 

** بائعة الخبز **
عبد الحكيم، رئيس العمال في مصانع حماد المنياوي، هو الشخصية الرئيسة الفاعلة في صناعة أحداث الفيلم وتطوره. يوصف في التعليق الصوتي المصاحب للبداية بأنه "ذكي وصولي نهاز للفرص"، وينم سلوكه عن حقيقة إنه شرير من طراز فريد، لا يتردد في ارتكاب الجرائم كافة، فهو يحرق المصانع ويسرق اختراع صاحبها قبل أن يقتله، ويلصق التهمة بالأرملة خديجة، أمينة رزق، متحولا من عاشق متيم بها إلى كاره يحطم حياتها، ويقودها إلى قضاء سنوات طوال من عمرها، وهي البريئة التي لا ترتكب جرما، في السجن ومستشفى الأمراض العقلية، فضلا عن حرمانها من ابنتها نعمت، شادية، وابنها سامي، عمر الحريري.
الشر المسرف في القسوة والعنف وتبلد المشاعر، وجه من وجهين يظهر بهما الريس عبد الحكيم في المرحلة المبكرة من أحداث الفيلم، أما الوجه الثاني الذي لا يقل قوة وتأثيرا فيتمثل في حبه للأرملة خديجة، وإلحاحه عليها لتقبل الزواج منه. يتجلى عشقه لها، الذي يضفي عليه ملامح الرقة والحنان، في كلمات التشجيع والمواساة التي يقولها للمرأة بعد طردها من عملها المتواضع، مدانة بمخالفة تعليمات صاحب المصانع:"يعني ها تطردي من الجنة يا خديجة.. هي دي شغلانة ينبكي عليها.. هو انتِ ليكِ المرمطة دي كلها.. هو خلاص ما فيش ابن الحلال اللي يريحك من الشقا ده.. انتِ شابة صغيرة واولاد الحلال كتير".
بأسلوبه الفريد المتمكن، القادر على الإقناع بفضل الصدق الذي يرتسم على ملامح وجهه ونبرة صوته والرسائل الصادرة عن عينيه، يجمع زكي رستم بين الشر والخير في انسجام وتناغم، وفي تحولاته السريعة المبررة بين الشعورين المتناقضين، يغيب الإحساس بالفارق الشاسع بين العالمين، فهما يتحدان عنده وينتميان في نهاية الأمر إلى الشخصية المركبة المعقدة التي تتسع لارتكاب الجرائم المروعة والاندماج في عالم العشق المسكون باللهفة والأشواق.
إصرار خديجة على رفض الزواج، وفاء لذكرى زوجها الراحل وحرصا على ابنها وابنتها، ينعكس سريعا على موقف عبد الحكيم الذي يتحول من الحب والرقة إلى العنف والقسوة، لكنه لا يستسلم ولا يستقر على شاطىء اليأس. يكتب لها رسالة:"أنا كتبتلك في الجواب ده كلام.. ما دام عجز اللسان عن الكلام".
في رسالته هذه، يعترف لها مجددا بحبه، ويقول إنه يمتلك اختراعا سيجعله من أغنى الأغنياء. الاستحواذ على اختراع صاحب المصانع حماد المنياوي، إبراهيم حشمت، يتطلب سرقة الخزانة وإحراق المصنع وقتل صاحبه، ثم يقصد خديجة لتهرب معه فتكرر الرفض، وعندئذ يلصق بها تهمة الحريق، ويفر لتبدأ مرحلة جديدة في حياته. رسالته التي يخبئها ابن خديجة في حصانه الخشبي، دليل إدانة عبد الحكيم، وبالنظر إلى ذكائه ودهائه تبدو فعلة الكتابة هذه غير مبررة، فكيف لشرير بارع واسع الحيلة مثله أن يقع في خطأ فادح ساذج على هذا النحو؟.
لا يملك من يشاهد زكي رستم في المرحلة الأولى من الفيلم، حيث شخصية الريس عبد الحكيم، إلا أن يجزم بأنه في مواجهة رئيس عمال محترف، فهكذا تصل به المعايشة المحسوبة الواعية التي تتمثل في إيقاع الحركة ولفتات الجسد ونبرة الصوت، لكن المشاهد نفسه لا يشعر بشيء من الغربة مع الشخصية الجديدة التي ينتحلها عبد الحكيم، فإذا هو المليونير صاحب المشروعات الصناعية غريب أبو شامة، العائد من الشام بعد سنوات يعمل فيها هناك ويتزوج وينجب ويرث. مظهره الذي يتوافق مع الوضعية المختلفة، ينسخ الشخصية القديمة ويمحوها، فكأنه يعيش العمر كله ثريا وجيها قويا مملوءا بالثقة ومشاعر السيادة والسيطرة.
لا يتوارى الشر والدهاء في العهد الجديد، لكنه كامن لا يظهر إلا عند الضرورة، أما البطولة فللحب الذي يكنه لابنته الوحيدة المدللة مريضة القلب نيللي، ماجدة. لا يرفض لها طلبا، ويحرص على سعادتها وتحقيق كل ما تحلم به. تقع الفتاة في حب من ينصرف عنها ولا يحبها، وتأبى المصادفات المعهودة في السينما المصرية إلا أن يكون مدحت، شكري سرحان، ابن صاحب المصانع ضحية الأب. يتصدى غريب أبو شامة، الذي تمثل ابنته القيمة الأسمى في حياته، ليعدها بما لا يستطيع الوفاء به:"أبوكِ فيه حاجة تعصى عليه؟.. اديني مهلة بس.. سبيني أتصرف وها تشوفي إذا كنت أقدر أسعدك ولا ما أقدرش".
إنه الأب المحب الحنون الذي لا بد أن يُصنف في دائرة الخير وهيمنة المشاعر الإنسانية الراقية الرقيقة التي تقترن بالأبوة، وهو قادر في الوقت نفسه على استثمار شراسته وقسوته الأصيلة لمواجهة المتغيرات التي تهدد استقراره المؤسس على الزيف والخديعة، وتحاصر سعادة الابنة التي تواجه مخاطر التعاسة والموت. كيف يكون الشر أداة وحيدة تصل بالأب إلى الخير وسعادة الابنة؟!. هذا هو السؤال الصعب الذي يجيب عنه زكي رستم بالأداء الذي يجمع بين النقيضين في بساطة لا تُتاح إلا لعتاة الموهوبين.
في "بائعة الخبز"، تتعدد وتتجاور وجوه زكي رستم، وفي مواجهاته المتنوعة المشحونة بالقلق والتوتر، مع نعمت ومدحت والشرير المحترف سليل عائلة أبو شامة، حسين رياض، الذي يبتزه بعد الكشف عن تحايله وتزويره، وصولا إلى اللقاء الحاسم مع خديجة نفسها؛ يقدم رستم دروسا عملية في عبقرية التعايش مع الشخصية المركبة غير التقليدية التي يجسدها، حيث الشر الذي لا مثيل له، متعانقا مع الضعف الأبوي المضيء الذي هو الذروة في الخير والحس الإنساني المرهف.
لا تتبلور روعة الشر إلا بوجود الوجه المضاد الذي تكتمل به ملامح الشخصية الإنسانية التي تأبى أن تكون أحادية الجانب، وليس مثل العملاق زكي رستم في قدرته الفذة على التعبير عن أزمة إنسان مأزوم تزدحم أعماقه بالخير والشر معا.
 

** عائشة **
مدبولي أب بلا قلب، ورب أسرة محكوم على أفرادها بالشقاء والضياع. مهنته التي يحترفها هي النصب والاحتيال واستثمار عمل أبنائه في بيع اليانصيب والنشل. ابناه حسونة والنص يرثان سماته الشريرة الشرسة ويسيران على خطاه، والابنة عائشة، فاتن حمامة، تستسلم بلا إرادة لتسلط أبيها واستبداده وقسوته.
منذ ظهوره الأول، قبل التعرف على نشاطه وطبيعة سلوكه المنحرف غير السوي، يفرض زكي رستم على المشاهد انطباعا سلبيا يجسد ملامح الشخصية التي يقدمها. جلباب مفتوح الصدر، ووجه غليظ متجهم ينبىء بالشراسة والعنف، ونظرات العينين توحي بالقسوة المفرطة التي لا متسع فيها للتهاون والرحمة. يستحوذ على المنحة السخية التي تنالها عائشة من البك الطيب يحيى طاهر، عبد العزيز أحمد، بعد فوزه بالجائزة الكبرى، ويأبى مدبولي أن يصدق روايتها عن المبلغ الذي تحصل عليه:"الخمسة وعشرين جنيه دول بس.. ولا خنصرتِ حاجة؟".
الاستجواب غليظ الكلمات يصاحبه اعتداء بدني، والمبلغ الباهظ بمقاييس المرحلة التاريخية لا يشبعه أو يدفعه إلى شيء من التساهل. ما ينشغل به هو أوراق اليانصيب التي لم تبعها بعد، وإذ تعترض الزوجة قليلة الحيلة، فردوس محمد، التي تمثل النقيض الكامل لزوجها:"بلاش طمع يا مدبولي.. هو اللي ربنا يبعتله خمسة وعشرين جنيه.. يدور على ورقتين لا طلعوا ولا نزلوا؟"، يرد كاشفا عن مزيج الشراهة والطمع من ناحية ورؤيته التي يعتنقها عن مفهوم "التربية" الذي يتبناه من ناحية أخرى:"انكتمي انتِ يا ولية خليني أعرف أربي العيال.. انتِ عايزاهم يطلعوا خيبانين؟".
"التربية" و"الخيبة" عنده مفهومان يختلفان جذريا عن المعنى الذي يتبناه غيره من الآباء الصالحين الأسوياء، والمستقبل الذي يراوده لأبنائه وثيق الصلة بالنشأة التي يكتسب منها رؤاه وقيمه:"اللي ربونا ربونا على كده.. طلعنا جدعان!".
يقدم زكي رستم درسا عمليا بليغا في تجسيد الشر الشعبي كما يعبر عنه مدبولي، واستيعابه لأبعاد الشخصية يتمثل في صدق التعبير العفوي عن الجرأة والاقتحام والبذاءة وسلاطة اللسان، بكل ما يصاحب ذلك ويترتب عليه من لوازم حركية ولفظية تتوافق مع ثقافة وقيم البيئة التي ينتمي إليها ويترجم معطياتها.
في إطار تكوينه هذا، لا يتورع مدبولي عن مساومة طاهر بك للحصول على أكبر عائد مادي ممكن مقابل التنازل عن عائشة لتكون ابنة بديلة له، تعوض الرجل الطيب عن فقد زوجته وابنته في حادث مأسوي. بعد الاتفاق على المبلغ الذي يرضيه وقبض أجر الشهر الأول مقدما، يتوجه إلى الحانة ليشرب وينفق على الأصدقاء الذين يماثلونه في بذخ سفيه.
لا شيء من المشاعر والأحاسيس الإنسانية السوية عند محترف النصب والسرقة، ومن المشاهد التي تكشف عن براعة زكي رستم غير العادية ما نجده عند الاجتماع بابنيه ليلقنهما دروسا في كيفية التخطيط لعمليات النشل:"شوف يا واد يا نص.. انت تقف في المحطة.. تستنطع البأف من دول اللي نازل من القطر وعبه منفوخ.. واخد بالك.. أخوك حسونة ها يعمل نفسه بيزقك...".
أسلوب الأدء مفرط في العفوية والصدق كأنه لا يمثل، ومعايشة الشخصية تتجسد في الصوت ولغة الجسد والإخلاص في تلقين الدروس النظرية مثل أستاذ محترف في علم اللصوصية، يحاضر وينقل تجاربه وخبراته.
عقوبة السجن، مدانا بالاعتداء على واحد من خصومه، لا تغير شيئا في شخصية مدبولي، وأسلوب الحياة بعد الإفراج عنه امتداد لما كان قائما من قبل. الطمع يتزايد، وشهوة الابتزاز تدفعه إلى استعادة عائشة بالقوة. يواصل العمل الذي لا يعرف سواه، ومع موت ابنه حسونة يبدأ الانقلاب والتغيير السريع، ويطل وجه جديد قوامه الندم والتوبة والتفرغ للعبادة والاستغفار. التحول الجذري على هذا النحو لا يبدو مقنعا، فكيف لرجل بلا قلب أو مشاعر إنسانية أن يتأثر لموت ابنه كأنه أب مثل الآباء؟!. يخلص زكي رستم في التعايش مع المرحلة الجديدة ذات السمات المغايرة، لكن القدرة على الإقناع تصطدم بصعوبة استيعاب المشاهد لفكرة التحول ومنطقيتها.
 

** حب ودموع **
الريس متولي شرير ثري مسكون بالشهوة العارمة التي تحدد مساره وإيقاع حركته ومواقفه الحادة، فلا شيء يفكر فيه وينشغل به إلا الزواج من فاطمة، فاتن حمامة، وهي فتاة جميلة في سن ابنته. أداته في الوصول إليها هي الضغط على أبيها السكير المفلس الريس محمود، مختار عثمان، المدين له بألف جنيه، المبلغ الباهظ الذي يعتبره متولي مهرا للعروس التي تخاطبه بالعم، والنداء مبرر بالفارق الكبير في العمر.
يبدع زكي رستم في تجسيد شخصية العاشق الحسي الفج الذي يشتهي ولا يخفي اللهفة البعيدة عن المشاعر الإنسانية، وفي صوته عند مخاطبة الأب الضعيف المتخاذل الخانع ما يعبر عن الرغبة الطاغية التي لا يملك أن يداريها، وتفضحها النبرة الموغلة في الشهوة الحسية:"فاطمة كبرت يا ريس.. مش آن الأوان بقى وتقول لها".
لا يراها صغيرة كما يزعم الأب لتأجيل مصارحة ابنته بالاتفاق الذي تجهله، فهي وفق التعبير الفج لمتولي:"طابت واستوت".
الحديث عن الحب بالمعنى الإنساني الصحي الصحيح، الذي يتجاوز الشهوة الجسدية ولا يقتصر عليها، ليس مطروحا، ذلك أن الأمر عند الريس متولي حسي خالص، لا يختلف في شيء عن طعام شهي يتطلع إلى التهامه:"البطيخة مستوية قوي يا ريس.. خشاف.. خشاف والنبي".
لا تعرف فاطمة شيئا عن الخطوبة السرية المريبة التي يتورط فيها الأب للوفاء بدينه الثقيل، ومن هنا تنظر إلى متولي كبير السن كأنه العم صديق الأب، وتتحطم محاولاته للتقرب منها وإظهار عواطفه على صخرة رؤيتها هذه:
"- أنا اشتريت مركب جديدة.. حزري سميتها إيه؟
- لازم أم حسني..
- حسني إيه وبتاع إيه..
- على اسم مراتك
- سميتها فاطمة".
غاية ما يقوى عليه لإظهار رقته أن يطلق اسم فاطمة على المركب، وليس مستغربا أن يتخلى متولي بسهولة عن زوجته وأسرته، فالبطولة عنده للشهوة التي تحركه وتقوده.
يجمع زكي رستم في أدائه المتميز بين القسوة المفرطة الأصيلة والرقة المؤقتة المصنوعة، ولكل وجه من هذين موضعه. الحديث عن فاطمة، في غيابها وحضورها على حد سواء، يقترن بنوع من الحب الأقرب إلى لذة الامتلاك والاقتناء، لكن نغمة العنف والتهديد والابتزاز هي الغالبة والأعظم حضورا. لا يقبل المراوغة والمماطلة والتسويف، ويلجأ إلى الضغط والتلويح بالنتائج الوخيمة التي تترتب على عرقلة مسعاه لإتمام الزيجة:"أنا دافع مهرها مقدم.. ألف جنيه.. ألف.. إن ما جوزتهاليش.. انت عارف وأنا عارف".
الزواج صفقة لا اعتبار فيها لموافقة العروس، والتفوق المادي يتيح التحكم وفرض الشروط والتهديد غليظ اللغة الذي يواجه به فاطمة وأباها معا:"خطيبتي.. دافع مهرها ألف جنيه.. والورقة عندي.. وانت ماضيها بإيدك.. ولا نسيت".
صوت زكي رستم بالغ القوة في التعبير الدال عن شخصية متولي، المسلح بغطرسة الثروة وطوفان الشهوة العاتية. في مواجهة الأب الضئيل الأعرج والفتاة الوديعة الهشة، يتعملق الممثل الكبير كأنه قادر على التهامهما والإطاحة بهما. غيرته عندما يراها بصحبة الضابط البحري أحمد عزت، أحمد رمزي، لا تنبع من حب بطبيعة الحال، لكنها صدمة من يخشى انتزاع ملكيته مدفوعة الثمن. تعود فاطمة لتزف إلى أبيها خبر نية الحبيب أن يتقدم لخطبتها، وعندما ترى متولي تخاطبه في عفوية:"عم متولي.. عقبال بنتك يا عم متولي".
يتفاعل وجه زكي رستم مع كلماتها بما يغني عن التعليق، ويقول بصمته الغاضب المتوتر كل ما يمكن أن تبوح به مفردات اللغة، ثم يستعيد قوته وقسوته مؤكدا أنه سيتزوجها قهرا دون نظر إلى ارتباطها العاطفي الذي لا يعني له شيئا:"أنا قاري فاتحتك من سنة.. مبروك.. بكره أجيبلك الشبكة".
لأنه يعي أبعاد الشخصية وطبيعة موازين القوى التي تحكم علاقته مع الأب وابنته، يتحرك زكي رستم من موقع القوي الآمر الناهي صاحب النفوذ والكلمة العليا التي لا تُرد، وليس أسهل عنده من التحول السريع المباغت عند اكتشاف محاولة خداعه. يناديه الأب الواقف على عتبات التمرد باسمه مجردا:"متولي"، وعندئذ ينتفض في عنف يزيح الرقة الكاذبة التي يلبس قناعها:"متولي كده حاف.. من غير ريس.. والله عال.. صوتك علي عليا يا نصاب يا حرامي يا نوري.. أنا ها أعرف إزاي أأدبك وأأدبها.. كتب الكتاب الليلة.. إن ما اتجوزتهاش يكون في معلومك إني ها أبلغ النيابة".
الشر أصيل غالب عند متولي، وفي دراسته للشخصية ذات البعد الواحد يدرك زكي رستم أنه مطالب بالقسوة الدائمة وافتعال الرقة والحنان بشكل استثنائي مصنوع. هكذا يتحرك في المواقف جميعا، والذروة مع هروب فاطمة قبل لحظات من عقد القران، ما يمثل ضربة موجعة لكبرياء متولي ومكانته. يتمثل الرد التلقائي السريع في صفعة فوق خد الأب للتنفيس عن الغل، والمعركة التي تدور بين الرجلين تخلو من التكافؤ والندية، وينبغي أن تُحسم للأقوى بطبيعة الحال، لكنها تنتهي بقتل متولي، عبر زجاجة الخمر التي تتحول من علامة إدمان وضعف إلى أداة تحرر وخلاص.
 

** رصيف نمرة 5 **
المخدرات بأنواعها المختلفة، الحشيش والكوكايين والهيروين، على صعيدي الإدمان والتجارة، تمثل جزءا من نسيج الحياة المصرية، وفي هذا الإطار يتواجد تجار المخدرات الذين يلبون احتياجا حقيقيا لقطاع لا يُستهان به من المصريين، ويحققون بنشاطهم التجاري هذا أرباحا طائلة تتوافق مع حجم المخاطر التي يتعرضون لها من ناحية وحقيقة الطلب الكبير على السلعة التي يمتهنون بيعها من ناحية أخرى.
كبار التجار لا يسقطون بسهولة في قبضة الشرطة، ذلك أنهم يتسلحون بالذكاء وبراعة التخطيط والاعتماد على تنظيم محكم البناء، ويظهرون عادة متخفين تحت مظلة أعمال أخرى شرعية مشروعة بعيدة عن الشبهات، وقد يشتهرون أيضا بالصلاح والتقوى والعمل الاجتماعي الخيري. المعلم بيومي واحد من هؤلاء، يحظى في المجتمع السكندري بالاحترام والتبجيل، وعمله في الميناء هو الواجهة التي يعرفه الناس من خلالها، أما تدينه فيضفي عليه سمعة طيبة بلا شوائب. عند مقتل شقيقه في عملية تهريب يتم إحباطها بمعرفة قوات خفر السواحل، لا يتردد الرجل الداهية ذو الشخصية المزدوجة في صب اللعنات:"الله يجحمه مطرح ما راح"، ويجاهر بالتبرؤ منه رافضا استلام جثته لدفنها، فهو يرى في تهريب المخدرات عملا مشينا مرذولا:"الله يخرب بيت دا كار.. وبيت اللي بيتاجروا فيه".
المعلم بيومي زعيم العصابة التي تتعرض للمطاردة الأمنية الشرسة، ويتفنن بذكائه الخارق في ابتكار أساليب غير تقليدية للتحايل والإفلات، تنم عن البراعة والقدرة على الإبداع. ليس أدل على نجاحه في الخداع من ابتعاد الشبهات عنه، ويقين المحيطين به والمتعاملين معه أنه متدين ورع كما يتجلى في المسبحة التي لا تفارق يده، والصلاة التي يواظب عليها.
الوجه المثالي الطيب لزكي رستم، في الدقائق الأولى من أحداث الفيلم، مقنع في تجسيد شخصية الرجل الطيب الصالح الملتزم، ثم يظهر الوجه النقيض في اللقاء مع أقرب معاونيه عرفان، محمود المليجي. المشترك بين الوجهين المتناقضين هو الصدق النابع من سلاسة وعفوية الأداء، والحضور المتوهج الذي تستحيل مقاومته، فضلا عن روح المرح بلا تصنع أو ادعاء. يزن البضاعة الثمينة التي يحملها الحمام، وسيلة التهريب غير التقليدية، ويقول لمساعده:"الناس اللي بنشتغل معاهم دول أشراف تمام.. ميزانهم ما يقلش خردلة!".
يتكلم جادا لا هازلا، فهو يرى عمله في تهريب وتجارة المخدرات مهنة مثل غيرها من المهن، وإشادته بأمانة من يتعامل معهم عفوية تخلو من التهكم. في الحوار نفسه، يكشف عن المكاسب المادية الطائلة للتجارة المحرمة:"إن ما كانوش يكسبوا مكسب حراق إيه اللي يخليهم يجازفوا.. الشوية دول ورقة بمدنة.. يعني كل ست اجواز حمام شايلين في رجليهم عشر تلاف جني".
لعل في الربحية العالية، بالنظر إلى ما تعنيه آلاف الجنيهات في خمسينيات القرن العشرين، ما يفسر حرص المعلم بيومي على النجاح والإطاحة بكل من يعترض طريقه، ومن هنا سعيه إلى قتل الجندي الشريف خميس، فريد شوقي، لكن الصدفة تجعل من زوجة خميس، ملك الجمل، ضحية للجريمة التي يسارع القاتل نفسه بتقديم واجب العزاء، مبالغا في استنكاره للسلوك الإجرامي الذي ينتهجه المهربون:"مش كفاية السم الهاري اللي بيهربوه ويبيعوه.. كمان قتالين قتلا!".
لأنه يتعايش مع شخصيتين متناقضتين متنافرتين، يتحرك بينهما مثل بندول الساعة، تتألق عينا زكي رستم في الكشف عن ازدواجيته هذه، ولعل قمة التعبير بالعينين تتحقق في المشهد الذي يسأل فيه الريس خميس، الذي يفلت من الموت على يديه بمعجزة قدرية:"انت بس سبت سريرك ورحت فين بس".
لا شيء في مضمون عبارته ونبرة صوته ينم عن حقيقة مشاعر الغيظ والاستياء والحسرة التي تعتمل في أعماقه، لكن في نظرات عينيه ما يعبر عن المخبوء المستور الذي لا يمكن كتمانه ويستحيل التصريح به في الوقت نفسه!.
تتعدد جرائم المعلم بيومي، ويتسم أداء الممثل الفذ في مواقف الشر، تخطيطا وتنفيذا، بقدر لافت من الثبات الانفعالي وجدية من يؤدي عملا. ليس شريرا تقليديا يعتمد على النمطية، علامة الكسل المزمن، ممن يفرضون على المتلقي أن يكره وينفر ويزدري، بل هو مخلص في إقناع من يراه أنه يمارس تجارة لا تختلف في أدواتها عن غيرها من الأعمال التجارية.
إذا كانت المسبحة التي لا تفارق يده هي العلامة الأبرز في التدليل على الورع والتقوى، فإنها تتحول إلى دليل الإدانة بعد قتله للخرساء بهانة، نعيمة وصفي، الشاهد الوحيد على جريمة قتل زوجة خميس. تنفرط حبات المسبحة ويستقر بعضها في يد القتيلة، وعندئذ يصدق خميس ما يقوله ابنه نقلا عن بهانة، التي تتهم بيومي قبل ساعات من قتلها:"دا راجل يعرف ربنا.. دا بيصلي فرض بفرض.. ما بيسبش السبحة أبدا من ايده.. أنا أعرفه من عشر سنين".
الإنكار المستنكر للاتهام يتحول إلى التصديق، والمشهد الأخير الذي يبدأ بلقاء في المسجد بين زكي رستم وفريد شوقي، من المشاهد الأكثر شهرة وشعبية في تاريخ الممثلين الكبيرين. يفشل بيومي في استكمال مسلسل الخداع، ويصل إلى محطة النهاية:
"- أمال سبحتك فين يا معلم؟
- والله يا ابني نسيتها في البيت.. ليه؟
- لا ولا حاجة.. أصلي لميتهالك".
لا شك أن شخصية المعلم بيومي، من المنظور الأخلاقي الديني، تستحق الرفض والإدانة، فلا أحد من الأسوياء الصالحين يتعاطف مع تاجر مخدرات شرس، لا يتورع عن ارتكاب جرائم القتل للتخلص من خصومه ومعاونيه على حد سواء، لكن زكي رستم يفرض بموهبته الاستثنائية بعدا جديدا، تمتزج فيه الكراهية بالإعجاب، ذلك أن روعة الشر التي تتجسد في أدائه تدفع المشاهد إلى الإعجاب ببراعته التي تتجلى في كل المشاهد التي يظهر فيها ويطغى بحضوره المتوهج.
 

** الفتوة **
جشع كبار التجار واحتكارهم للأنواع المختلفة من السلع الضرورية الحيوية، ما يعني التحكم المطلق في الأسعار وتحقيق الأرباح الفاحشة، لا يقتصر على زمن الحرب حيث تروج "السوق السوداء"، ذلك أن ظاهرة الاستغلال ممتدة وتقترن بآليات النظام الرأسمالي في ظل أنظمة فاسدة، يتحالف قادتها ورموزها من السياسيين مع كبار المحتكرين، وتدفع الكتلة الشعبية العريضة، من الفقراء ومتوسطي الحال، ثمن الخلل وتداعياته الكارثية.
المعلم الطاغية الشرس أبو زيد، المسكون بطاقة هائلة من الشر والشراهة، يسيطر منفردا على سوق الخضر والفاكهة، ولأنه المحتكر بلا منافسة تحقق بعض التوازن، فإنه يتحكم في المعروض، ويفرض الأسعار التي تحقق أكبر قدر من الربح دون انشغال بالمستهلك وإمكاناته المتواضعة. البطولة عنده للمصلحة الذاتية، المدعومة بشبكة من العلاقات الأخطبوطية الوثيقة مع صانعي السياسة العامة للنظام المصري قبل ثورة يوليو 1952.
الصعيدي مدقع الفقر هريدي، فريد شوقي، يهاجر من الصعيد إلى العاصمة بحثا عن عمل، وبعد تجارب قاسية مريرة يتوهم أنه قادر على أن يخوض معركة ضد أبو زيد واحتكاره، متحالفا مع بعض صغار المعلمين في السوق، ولأنه لا ندية أو تكافؤ في الصراع، تناله الهزيمة الساحقة فيتظاهر بالخضوع والإذعان، وسرعان ما ترتفع قيمته وتعلو مكانته بعد تدخله لإنقاذ المعلم الكبير من محاولة القتل التي يتعرض لها من المجذوب، محمود السباع، وهو واحد من ضحايا الطاغية، وما أكثر ضحاياه:
"- شايف المجذوب ده.. دا كان تاجر في السوق له شنة ورنة.
- وقف في وش أبو زيد؟.
- مسحه ولحس عقله وخرب بيته".
ما أكثر ضحايا أبو زيد، وما أصعب المواجهة الصريحة المباشرة مع محتكر قوي واسع النفوذ. من وحي ما يقوله شاعر الربابة في القهوة:"ما فيش مانع تقوله انت صديقي"، تقترح حسنية، تحية كاريوكا، أن يتقرب هريدي من المعلم الجبار ليخترق حصونه ويعرف أسراره وخباياه:"هي دي الطريقة الوحيدة اللي نقدر نقف بيها قدام أبو زيد".
الدنيا بنت الحيلة، والقوة لا تكمن في العضلات وحدها، فهي أيضا في العقل والتخطيط الماكر. الموقع الجديد لهريدي يمكنه من إلحاق الأذى بأبو زيد وإفساد الكثير من صفقاته، ثم تُكتشف الخديعة، ويشرع المعلم المحتكر في الانتقام المروع، ولا ينجو هريدي من الموت في ثلاجة التبريد إلا بمعجزة، وعندئذ تبدأ مرحلة جديدة من الصراع العلني المباشر.
أبو زيد تاجر عملاق يسيطر على صغار التجار ويتحكم في أعمالهم وأرزاقهم، والسمة الأبرز في شخصيته، التي يعيها زكي رستم جيدا ويترجمها إلى أداء متمكن، تتمثل في الغياب الكامل للمشاعر الإنسانية واللامبالاة بمعاناة ومتاعب الآخرين. الهدف الأسمى عنده هو السيطرة المطلقة والاستحواذ المنفرد وتحقيق الأرباح الفاحشة باستنزاف المستهلكين دون رحمة:"سمعت عن حد مات عشان ما كلش طماطم؟".
يشكو له واحد من التجار، عبد العليم خطاب، تخوفه من النتائج الوخيمة التي تترتب على المبالغة في رفع الأسعار:"بالطريقة دي الخلق ها تموت م الجوع"، فيرد عليه ساخرا في غطرسة متعجرفة:"الدنيا زحمة قوي.. خليها تخف!"، ولا تقتصر قسوته على المستهلكين وحدهم، ذلك أنها تمتد أيضا إلى التجار الذين يتعاملون معه:"اللي ما يقدرش يشتغل معلم.. يشتغل سريح!".
لا موضع للرحمة والشفقة في ظل الاحتكار الشرس، ويستوعب رستم ملامح الشخصية بما ينعكس على أسلوب أدائه، حيث التسلح الواعي بالسخرية اللاذعة والجفاف المتجهم المعبر عن رؤية نفعية صارمة، يترجمها صوت الممثل الكبير في كلمات تبلور القانون الذي يحكمه:"اللي معاه فلوس يشتري وياكل على كيفه.. واللي ما ممعهوش يتلهي على عينه ويسكت".
بفضل علاقاته المتشعبة وقدرته غير المحدودة على شراء الذمم والضمائر بالهدايا والرشاوى، يملك أبو زيد نفوذا هائلا يمكنه من نقل ضابط السوق الشريف المعتز بكرامته، كمال يسن، إلى سوهاج، وتعينه دائرة الفساد التي يتحرك في إطارها على شراء محاصيل الحدائق بالثمن البخس، ما يعني تحكمه في المعروض وسهولة فرض الأسعار وفق هواه وبما يحقق مصالحه.
لا تخلو معاركه مع هريدي وحلفائه من خسائر فادحة، تقف به على حافة دخول السجن، لكنه ينجو ويعود لينتقم ويثأر من غريمه اللدود، وصولا إلى المعركة الحاسمة التي ينتهي بها الفيلم، وتشهد سقوط أبو زيد وهريدي معا، واقتراب النظام كله من السقوط، وعلامة ذلك سقوط صورة الملك؛ رأس النظام ورأسه.
يمكن القول إن العملاق زكي رستم لا يحتكر السوق وحده، بل إنه أيضا يستأثر بالكاميرا كأنه صديقها الحميم، ويحتكرها بحضوره الطاغي كأنها لا ترى أحدا سواه. لا يملك من يشاهد الفيلم إلا أن يجزم بأنه معلم من سلالة معلمين، مولود في سوق روض الفرج ويحترف ممارسة المهنة على مدى عمره. مع تعدد وتنوع انفعالات وجهه تفاعلا مع المواقف المختلفة التي يواجهها، يبقى الانتماء راسخا لشخصية المعلم عظيم الحضور، مستثمرا نظرات عينيه لتدعيم الرؤية التي يعبر عنها. كيف ينظر إلى ضابط الشرطة الملتزم، المتمرد على التبعية والاستسلام لإرادته؟. نظرات محملة بالغيظ والضيق والاستنكار كأنه يطلق عليه الرصاص بعينيه، ومع المجذوب المزعج تزدحم عينا زكي رستم بالاشمئزاز والتأفف والازدراء، ومع ثريا هانم، زوزو شكيب، التي تدعمه بنفوذها وخدماتها مدفوعة الأجر، تكتسب العينان رقة الخضوع المعبر عن التبعية، أما الذروة في توظيف العينين فتتجسد في تحولات علاقته مع هريدي، من الإهمال واللامبالاة والتعالي، إلى الإعجاب والامتنان وما يشبه الحب، وصولا إلى نيران الغضب الجنوني عند اكتشاف ألاعيبه وخداعه.
في المعركة الأخيرة مع هريدي، يحلق زكي رستم بعيدا ويندمج في عالم الشخصية التي يجسدها كأنه لا يمثل، ويشعر المشاهد أن قسوة الغل التي يراها حقيقية صادقة لا ذرة فيها من الافتعال، فهو يكره من يعاركه، ويندفع للتدمير والانتقام كأنه في مواجهة خارج ساحة التمثيل.
 

** ملاك وشيطان **
المعلم شحات من أدوار الشر ذات الخصوصية في المسيرة السينمائية لزكي رستم، فهو زعيم عصابة حاد الذكاء، قوي الشخصية، عظيم الحضور بمزيج الخبث والسخرية الذي يمثل السمة الأبرز له. يتجلى الخوف من بطشه قبل ظهوره، ذلك أنه عنيف لا يعرف التساهل في التعامل مع المقصرين الفاشلين من رجاله؛ أولئك الذين يخضعون لسلطته المطلقة ويتحملون كلماته القارصة اللاذعة التي تبلور القانون الذي يحكمه في إدارة العمل:"رجالتي جدعان.. مش نسوان".
يتولى المعلم شحات مهمة التخطيط المتقن والمتابعة الدقيقة للعمليات التي ينفذها أتباعه، فهو العقل المفكر المؤهل للقيادة، وصاحب فضل لا يُنكر في الرعاية وتوفير متطلبات الحياة، فضلا عن أنه لا يتنكر لمن يسقط منهم في قبضة الشرطة:"الأكادة أنا لامم حواليا كل نطع ونطع.. يدور ساقية.. فاتح لكم مخزن زي المدرسة.. بأعلف فيكم زي البهايم".
قسوة مغلفة بالتهكم اللاذع الموجع، فهو لا يستهدف الإضحاك لأنه يتكلم جادا، لكن أسلوبه المسرف في الغضب المقنع الصادق لا يخلو من الحس الفكاهي العفوي. هيمنة زكي رستم لا تنبع من ضخامة الجسد والقدرة على إلحاق الأذى توبيخا وضربا بلا مقاومة أو اعتراض، بل إنها وليدة الهيبة التي تفرضها زعامة لا تشوبها شائبة. صوته يفرض الطاعة على كل من يصغون إليه مقرين بحكمته ودهائه، وليس أدل على ذكائه وسرعة بديهته من براعته اللافتة في التقاط الأفكار العابرة لواحد من التابعين بعد اختطاف الطفلة سوسن، نادية ذو الفقار، على سبيل الخطأ. يطمع عضو العصابة محدود الذكاء قليل الطموح في الحصول على "حلوان" زهيد لا يتجاوز الجنيهات الخمس عند إعادة الطفلة إلى أسرتها الثرية، أما الزعيم القادر على انتهاز الفرص فيتساءل:"أبوها يتمنها بكام؟".
كأنه لم يُخلق إلا ليمثل دور زعيم عصابة؛ هكذا هو زكي رستم في توحده واندماجه مع شخصية المعلم شحات، وفي قدرته الفريدة على الإقناع مسلحا بالصوت الآمر الذي لا يملك سامعوه إلا الخوف والطاعة، وفي لغة الجسد الدالة على الثقة غير المحدودة، وفي التحولات المباغتة التي ترتسم على وجهه وهو يتصل بالصائغ والد الطفلة المخطوفة، صلاح ذو الفقار، ليطلب الفدية. أداء احترافي رفيع المستوى، ولو أن كلمات الحوار نفسها ينطقها ممثل آخر لما تركت التأثير العميق نفسه:"بنتك الله يطول عمرها بقى.. تساوي عشر تلاف جنيه.. قلت إيه؟.. انت عايز بنتك سليمة والا واكلها الدود؟.. آخر حاجة ها أقولهالك يا محترم.. ما تدخلش تالت بينتنا.. يوم البوليس ما يشم خبرها أخليلك ظباط المباحث يمشوا في جنازتها".
التحكم في طبقات الصوت، الجاد في تهديده، لا يقل تأثيرا عن مضمون الكلمات التي تحمل رسالة الوعيد، والثقة التي ينطق بها زكي رستم تؤكد أن قلبه ميت لا متسع فيه للرحمة والرأفة. القتل عنده من أدوات وآليات العمل، والإشفاق على الطفلة وأسرتها ليس مطروحا عنده. في هذا السياق، يتراجع الوجود الكمي والكيفي للمعلم شحات، مفسحا الطريق أمام عزت، رشدي أباظة، الذي تجمع شخصيته بين الخير والشر، بما يتوافق مع رسالة الفيلم. الصدام بين الزعيم والتابع المتمرد ليس سهلا، والتخلص من شحات بقتله في حقل الألغام هو الحل الوحيد للتخلص منه حتى يتسنى للخير أن ينتصر.
من الذي يحب المعلم شحات بكل شروره وآثامه؟. لا أحد بطبيعة الحال.
ومن الذي لا يبدي إعجابه ببراعة زكي رستم وحضوره غير المحدود؟. لا أحد أيضا.
 

** الخرساء **
المعلم عتريس محتكر جشع قريب الشبه من المعلم أبو زيد في "الفتوة"، لكن ساحة احتكاره تتعلق بالبحر وأسماكه وصياديه. تبدأ أحداث الفيلم صباح يوم العيد، وتسيطر أجواء الاحتفال على سكان القرية الصغيرة، لكن درويش وزوجته بهانة، فاخر فاخر وزوزو نبيل، ينهمكان في العمل الشاق بالطاحونة، والدعاء على عتريس قبل ظهوره يكشف عن المدى الذي تصل إليه مكانته وقسوته. لا تجد بهانة وقتا للاحتفال مثل غيرها:"حكم القوي على الضعيف.. غلة المعلم عتريس.. لو قلنا لا.. يهبب عيشتنا.. إلهي يهد قواه"، ويضيف درويش:"دا جاب غلته آخر الناس.. وعايز ياخدها أول الناس.. تقولي إيه بقى في حكم قراقوش.. باعت لنا نص أردب غلة قبل الفجر.. وعايز ياخده دقيق قبل طلعة الشمس".
كأن حوار الطاحونة هذا تنبيه للإعلان عن أبعاد شخصية الطاغية المستبد الذي يخلو قاموسه من مفردات الرحمة والعدل، وليس أدل على جبروته، الذي يمتد إلى أسرته التي لا تقل عنه قسوة، من الأذى الذي تتعرض له الخرساء نعيمة، سميرة أحمد، ابنة الطحان درويش، عندما تحمل الدقيق إلى بيته. يتحرش بها ابنه عباس، محمد علوان، فيسقط المقطف ويختلط الدقيق بالتراب، وتعضها زوجة المعلم، إحسان شريف، ثم يتوجه عتريس نفسه إلى الطاحونة مطالبا بثمن الدقيق أو تعويضه. بصوت غليظ آمر ينم عن إدمان السيادة، يفرض شروطه الجائرة على الفقير درويش:"اسمع.. ست كيلات دقيق.. نص أردب.. يكونوا عندي في البيت قبل صفار الشمس".
صيادو القرية الفقراء يخضعون لإرادة عتريس بلا مقاومة، فهو الحاكم المطلق الذي يمنح ويمنع، ويتلاعب في دفاتر الحسابات بما يفرض عليهم الاحتياج الدائم والوقوف على عتبات الفقر. ليس من معارض لنفوذه غير المحدود إلا الطبيب المثالي حسين أنور، عماد حمدي، الذي يرث عن أبيه مهنة الطب والإيمان بالأفكار التعاونية التي تهيىء لعالم أفضل بعد ثورة يوليو 1952. تنجح الثورة في القضاء على الإقطاع والمستغلين في عالم الزراعة كما يقول الطبيب، ويبقى رموز الاحتكار في البحر مهيمنين بلا رادع:"مراكب وشِباك.. يسلف الكبير ويسلف الصغير.. وفي الآخر ياخد السمك كله لنفسه".
لا مبالغة فيما يقوله الطبيب عن نفوذ المعلم عتريس وتحكمه الكامل في حياة القرية الفقيرة، والمشهد القصير الذي يقدمه الفيلم عن أسلوب التعامل المادي مع الصيادين يؤكد أنهم يتعرضون للاستغلال والنهب، كأنهم يعملون مجانا، خاضعين لبطش المعلم القاسي وحضوره الطاغي. من البدهي أن يضيق عتريس بالطبيب ويكرهه، ضيقه وكراهيته لأبيه من قبل. عندما يشتد المرض بزوجة المعلم، يهرول الابن عباس للاستعانة بالدكتور حسين، ولا يكلف عتريس المتجهم نفسه عناء الرد على تحية الطبيب إلا على مضض، ويوبخ الابن على استدعائه، على الرغم من أنه الطبيب الوحيد المتاح:"أنا ما صدقت خلصت من أبوه.. ها يطلعلي هو روخر عشان يفتحلي عيون الرجالة!".
يحشد زكي رستم كل أدواته التعبيرية المعهودة لتقديم شخصية المعلم عتريس كما ينبغي أن تكون، الغلظة والقسوة والتجهم وبريق العينين المخيفتين والصوت المغلف بالعنف والتعالي، والنجاح اللافت يتحقق بتمامه في أجواء الخوف التي تصاحب المعلم عند ظهوره، كأنه وحش كاسر يتهيأ للانقضاض والافتراس. بصوته العميق يبلور عتريس في ثقة الأقوياء فلسفة الاحتكار التي يمارسها ويراها حقا مشروعا موروثا لا يقبل المناقشة والمراجعة:"الناس دول رجالتي.. كل صيادين البحيرة ملكي أنا.. دا شيء من قديم الأزل.. أبا عن جدا.. احنا ملوك السمك يا دكتور".
يمتلك البحر والسمك والصيادين والمراكب، ويتحكم في الأرزاق وحده، ويحارب الأفكار التعاونية التي تهدد عرشه الموروث، ولا يتورع عن الاتفاق مع قاتل محترف للتخلص من مضايقة الطبيب الذي تنتشر دعوته الإصلاحية وتزداد شعبيته:"عايز أمشي في جنازته بكره".
بعد الاتفاق مع القاتل، يتألق زكي رستم في تقديم رقصة يترجم من خلالها شهوة الانتقام التي تسكنه، كأنه يحتفل مبكرا بالانتصار وإزاحة خصمه اللدود، لكن القاتل المأجور يفشل في مهمته، وتنبىء المؤشرات عن بداية انهيار أسطورة عتريس. نصيحة الابن عباس بتغيير أسلوب التعامل مع الصيادين:"عشان الرجالة ما تخرجش عن طوعك"، لا تجد قبولا عند عتريس العنيد:"أنا ما أطاطيش راسي لحد أبدا"، لكنه يستجيب مضطرا في محاولة للتحايل على الأزمة، فيسقط الديون المتراكمة على الصيادين ويزيد أجورهم، ثم يتدخل القدر ليمنحه طوق النجاة.
تتعرض الخرساء نعيمة للاغتصاب المفضي إلى الحمل، ويقود عتريس حملة شرسة ضد الطبيب البريء المتهم. يحرض باسم الفضيلة والدفاع عن الشرف، ويجد في الواقعة حلا سحريا لاستعادة السيادة المهددة، وما أخطر التأثير على بسطاء الناس عندما يتعلق الأمر بالشرف:"ما تزعلش يا درويش.. أنا ح أخدلك بتارك وأغسلك عارك.. انت وراك رجالة".
النجاح المؤقت في إدانة الطبيب والتشهير به لا يدوم، ذلك أن اعتراف عباس لأبيه بأنه المغتصب والد الطفل الذي تلده نعيمة يهدد الانتصار الزائف، ويأبى عتريس أن يهدر الفرصة الذهبية التي تنقذه من السقوط. في كلماته للابن معذب الضمير ما يؤكد السمات الراسخة في الشخصية التي يعي زكي رستم أبعادها، ويبدع في تجسيدها على صعيدي الشكل والمضمون:"انت عايز تهدني وتكسر رقبتي وتضحك البلد عليا.. دا أنا أقتلك وأمشي في جنازتك.. إياك أسمعك تقول كده تاني".
كيف لشخصية بمثل هذه القسوة المفرطة في العناد أن تتحول إلى النقيض؟. يخطف عباس ابنه، ويقتل والد نعيمة، ويتعرض لاعتداء الخرساء فيقف على حافة الموت. يعترف بجرائمه، ويتهم أباه بالمسئولية عن المصير التعيس الذي يئول إليه، وعندئذ ينهار الطاغية ويستسلم، وهو نفسه من كان يرى أن قتل عباس أهون عنده من ضياع الهيبة وزلزلة المكانة. المشكلة هنا ليست في التحول الجذري فحسب، لكنها أيضا في كلمات عتريس المعبرة عن الضعف والانكسار بما لا يتوافق مع ثوابت شخصيته القوية، دون نظر إلى محنة الابن وما قد تتركه من أثر. يقول لغريمه الطبيب:"يا دكتور حسين.. انت انتصرت عليا عشان الحق معاك.. أنا جايلك دلوقتي علشان تحميني من أهل بلدي.. من هنا ورايح أنا صياد زيهم!".
يجتهد زكي رستم في التعبير عن الوجه المختلف، لكنه يبدو في أعماقه غير مقتنع بالانكسار ومهانة الهزيمة!.