الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

تامر أفندي يواصل حلقات السلطنة مع أم كلثوم «13»| «لسه فاكر».. ثلاثة جبابرة في ملحمة إبداعية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ربما كانت بعض الجمل شائعة الاستخدام، تتبادلها الألسنة، لكن حينما تسمعها من شخص ما تشعر وكأنك لم تسمعها من قبل، الإبداع في الحرف ليس أن تأتي بما لا يؤتى به فالأرض حينما خُلقت خلقت معها الكلمات، لكن من يضع تلك الكلمات في موضعها، من يختار لها السياق واللحن ورسولها الذي يُبشر بها.. تلك هي المسألة!

«لسه فاكر قلبي يديلك أمان» جملة لم تجد معناها ولا صداها ولا انتشارها إلا بعد أن تغنت بها «ثومة»، ولما لا وهي التي أعطت للحروف معنى ونغم وقبول وانتشار وعظمة.. أي سلاسة تلك التي كتب بها الشاعر عبد الفتاح مصطفى مصطفى تلك الكلمات، وكأنه جاب الأزقة والحواري والبيوت المصرية واطلع على كل خطابات العشاق ومن كل مكان.. ومن كل قلب جمع حرف فصاغ السهل الممتنع، يُخال لمن يقرأ أنه صادف تلك الكلمات في موقف ما، أنه قالها لشخص ما.. يُقلب في روحه وفؤاده فيستعيد ذكريات الحب والشجن والحنين فيدندن كل حسب وجيعته

لسه فاكر قلبي يديلك أمان

ولا فاكر كلمة هتعيد اللي كان

ولا نظرة توصل الشوق والحنان

لسع فاكر.. كان زمان.. كان زمان

وأنا أستمع إلى كوكب الشرق والكلمات تخرج من حنجرتها شخوص تحاسبهم على مر وما أمر من عتاب بعد فوات الأوان، أقول لو لم تتألم لما غنت هكذا.. لو لم تفارق وتتعرض للخذلان لما وصلت هكذا بأنينها وشجنها إلى عنان السماء.

 

حبر على ورق كان ما كتبه الشاعر عبد الفتاح مصطفى أم أنه أمسك بمدواة قلبه وأفرغها على السطور في ليلة تلألأ فيه دمعه لينير للحرف سبيلا، وقع ألم وعشق لحن نفسه فاستساغ اللحن ملك العود رياض السنباطي ودندن بوتر من لوم ووتر من عذاب ووتر من شجن، ليطلب من صاحب الكلمات أن يترك الجرح ينزف لآخره حتى تكتمل القصيدة ثم يأخذها منه كعشيق اختلى بمعشوقه فيقبع 45 يوما يلحنها قبل أن يهديها لـ«ثومة»، فتخرج بها على جمهورها:

والليالي كنت بتسمي الليالي

 لعبة الخالي وهي عمر غالي

 كنت أبات أسأل عليك ظني ودموعي

 وإنت متهني بحيرتي وانشغالي 

قل إيه قصدك معايا بعد ما عرفنا النهاية

 إنت جيت مشتاق لحبي ولا لدموعي وأسايا

تصفيق وطلب إعادة متكرر من الجمهور ونشوة تزداد لدى سيدة القلوب فتُعيد وتعيد سؤالها لحبيبها مرات ومرات.. سؤال يردده كل عاشق ومحب أضناه الفراق حتى تُمحى الكلمات من الصحائف.

 

السنباطي مارد الموسيقى

على مقام العجم الذي يقود العالم إلى ما فوق البشرية عزف الساحر رياض السنباطي قصيدة «لسه فاكر» وليس هناك أروع مما قاله الأستاذ محمد سرحان على منتدى «سماعي للطرب الأصيل» عن خروج أغنية "لسه فاكر" فوق مسرح الأزبكية ليلة ٧ يناير ١٩٦٠م: «عندما كان جلال الليل يودع القاهرة النائمة مؤذنا لقرص الشمس أن يتوسط سماء عاصمة المعز، كان لحن السنباطي قد سحب ما عداه إلى الاضمحلال، وبدا شامخا بكبرياء على رأس قائمة تتضمن بعضًا من أعظم التحف الفنية على هذا الكوكب، ذلك المارد الموسيقي الذي بالكاد تستطيع سبع أبجديات أن تنحت تعبيرا ذهبيا يصف جبروته، كتبه السنباطي بأحرف عملاقة في تاريخ الموسيقى العربية، وصنع له مهابة عظيمة» 

دخول الجبابرة

بصوت يضارع هزيم الرعد، تقدم هذه الحركة الجماعية نفسها بصوت عال

وهذه الحركة تندرج تحت ما يسميه الموسيقيون «الأدليب» وهي افتتاحية حرة ليس لها وزن إيقاعي، حيث أقواس الكمنجات تسير الهوينى فوق أكتاف الحفناوي وأقرانه أثناء عزفها، في غفوة للإيقاع.

السنباطي يتصرف بهذه المقدمة كما يتصرف آلهة الأوليمب "أبوللو" بقيثارته... حيث يظهر عوده ممتلئا بعطش شديد للمجد.

في جو صوفي يثير مهارة التأمل... تستحضر أنامل عبده صالح ذلك الماضي بكل حسرة وصوفية، ثم ينتهي هذا المشهد بنقرات أصابع الحفناوي على كمنجته. 

في انطلاقة صاروخية، يلتئم شمل الفرقة كاملة في هذه الحركة الراقصة، وكأنما رياض ركب لها مزلاجا يخترق سرعة الضوء، يجعل عواطفك تبتعد عن وجه الأرض.

إن المرء ليتساء: هل بقي شئ من عنفوان الكبرياء والأنفة لم تقله كلمات عبدالفتاح مصطفى هنا؟.

الاعتزاز الذي ترسله شفتا أم كلثوم في قبل أن تُنهي الأمر بالقرار العاطفي الصارم الذي يُعلن انطفاء الشغف.. «كان زمان».

ياما حليت لك آهات قلبي وهيّ

من قساوتك إنت والأيام عليً

كنت تسمعها نغم وأسمع صداها

نار تدوب حبنا شوية شوية

النغم رجعت حلاوته القلب وفضلك قساوته

الهوى اللي هان عليّ ابتديت تعرف غلاوته

النهار ده الحب سيرة كان زمان

لما تسألني أقولك كان زمان

لسه فاكر.. كان زمان

ماذا قال شاعر «لسه فاكر» عن ثومة؟

في تسجيل نادر للشاعر عبد الفتاح مصطفى قال: الحديث عن أم كلثوم من حيث تذوق الكلمة، حديث صادق لأنها بين المطربات والمطربين ظاهرة فذة، بلمحة بسيطة نُدرك أنها لم تُسف ولم تجارٍ الهبوط بدعوى أنها ترضي الجماهير، وأنها كانت تحرص على أن تُغني الكلمة الحلوة المنتقاة الجيدة، اتصالي الشخصي بأم كلثوم جعلني أرى زوايا وجوانب بهرتني، فأنا لم أعرف أن أم كلثوم قرأت كثيرًا، فكثيرا ما قصت عليا مالم اقرأ من حوادث ومن أخبار ومن طرائف الشعراء، أما من حيث تذوقها فكانت تُسيئها الكلمة الهابطة وتشعر بكسر الوزن بوضوح، إيقاع الكلمة كان واضحًا لديها، وتستطيع بمقدرة غريبة أن تُغير كلمة موضع كلمة، ولها وجهة نظر صائبة دائمًا، طبعا تعلقها بالمستوى الرفيع للأغنية وتعلقها بالكلمة المهذبة لم ينبع من عفوية أو من فراغ أو من مجرد انطباع غريزي فقط، بل كان هناك جانب اكتسابي بيدل على حفظها القرآن الكريم في الصغر وغنائها التواشيح، واتصالها بكبار الشعراء ورجال الفكر جعلها مدرسة بكل ما تعنيه الكلمة، فلو استطعنا أن نسجل تفاصيل لقاءتها الفنية لتوافر لدينا كنز».